التحول الأخضر في ألمانيا (Energiewende) هو عملية شاملة تهدف إلى التحول إلى اقتصاد مستدام وصديق للبيئة، يعتمد بشكل أساسي على مصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح والطاقة الكهرومائية والطاقة الحيوية، بالإضافة إلى خفض الانبعاثات الكربونية والتحول من الوقود الأحفوري إلى طاقة نظيفة.

مرت عملية اتخاذ قرار التحول الأخضر، بإجراء التحول الأخضر بالعديد من المراحل بداية من ازدياد الوعي الشعبي بأهمية الحفاظ على البيئة والمناخ والتي انتشرت في عقد الثمانيات من القرن الماضي وحتى تولي الائتلاف الحكومي بين حزب الخضر والحزب الاشتراكي الديمقراطي الحكم في العام 1998م، والذي أجري العديد من التغييرات وسن العديد من القوانين في هذا الجانب بداية من وضع إستراتيجيات لتوسيع الطاقة المتجددة من خلال قانون الطاقة المتجددة (EEG)، في العام 2000م، لتواصل بعدها الحكومات الألمانية المتعاقبة وباختلاف الاحزاب المشكلة لها في اتخاذ المزيد من الخطوات التدريجية لتحقيق اهداف التحول الأخضر والتي وصلت اليوم، وبعد ما يقرب من ربع قرن من سن اول القوانين والقرارات الخاصة بها، الى مرحلة متقدمة من الإنجاز يمكن من خلالها إدراك اهم الفوائد والعائدات الاقتصادية والبيئية التي نتجت عنها وأيضا التعرف على أبرز العقبات والتحديات التي تواجها.

التوجه البيئي في السياسات الألمانية

اقرار برنامج التحول في الطاقة في ألمانيا لم يتم التفكير فيه والوصول الية اعتماداً على الحاجة الاقتصادية في الاساس، وان كان العائد الاقتصادي مجزيا بشكل كبير على المدى البعيد، بل لعب تصاعد الوعي البيئي الشعبي داخل المجتمع الألماني الدور الاكبر في اعتماده كسياسة جديدة للطاقة، ومشاركة حزب الخضر الداعم لمشاريع حماية البيئة في الحكومة الائتلافية مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي خلال الفترة 1998-2005م، كما ان تولى انجيلا ميركل منصب المستشارية بداية من العام 2005م، وهي التي كانت وزيرة البيئة بداية عقد التسعينات، ساهم في دفع عملية التحول في الطاقة، هذا الى جانب عدد من الاحداث التي ساهمت في تمسك الحكومة الألمانية بعملية التحول وكان ابرزها كارثة انفجار محطة المفاعلات النووية في اليابان عام 2011م (كارثة فوكوشيما).

اهداف سياسة التحول الأخضر

يتمثل الهدف الرئيسي لسياسة التحول الأخضر في المانيا الوصول الى صفر انبعاثات غازات عادمة بحلول العام 2045م، ويفترض ان يتم تحقيق هذا الهدف عبر الخطوات التالية:

  1. الانتقال إلى الطاقة المتجددة: حيث تسعى ألمانيا إلى أن تشكل مصادر الطاقة المتجددة ما لا يقل عن 80 في المئة من إنتاج الكهرباء بحلول عام 2030م. على ان يتم ذلك من خلال الاستثمار والتوسع الكبير في محطات الطاقة الشمسية ومزارع الرياح.
  2. تقليل الانبعاثات الكربونية: ويمثل الهدف هنا في خفض انبعاثات الكربون بنسبة 55 في المئة بحلول عام 2030م، مقارنة بمستويات 1990م. وكذلك التحول إلى وسائل النقل المستدامة والذي يشمل زيادة استخدام السيارات الكهربائية وتحسين شبكات النقل العام.
  3. تحسين كفاءة الطاقة: على ان يتم ذلك بواسطة زيادة كفاءة استهلاك الطاقة في الصناعات والمنازل من خلال تقنيات حديثة مثل العزل الحراري والأجهزة عالية الكفاءة. الى جانب إدخال أنظمة ذكية للتحكم في استهلاك الطاقة في المنازل والأعمال.
  4. التحول الأخضر في القطاعات الصناعية: بهدف الحد من الانبعاثات في الصناعة، خصوصا الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل صناعة الحديد والفولاذ، التي تعتمد عادة على الوقود الأحفوري، وتحقيق الانتقال إلى تقنيات أكثر نظافة. ايضا إعادة تدوير المواد واستخدام المواد الخام المتجددة في الصناعة.
  5. التحول الأخضر في قطاع البناء: عبر تعزيز البناء الأخضر والتوجه نحو المباني المستدامة والتي تستخدم أنظمة طاقة نظيفة، مثل استخدام الطاقة الشمسية على الأسطح، والعزل الجيد لتقليل استهلاك الطاقة.

مستوى تحقيق اهداف التحول الأخضر في المانيا للعام 2024م

حققت ألمانيا تقدمًا ملحوظًا في تحقيق العديد من أهداف التحول الأخضر، حيث تمكنت من إنجاز بعضها قبل الموعد المحدد. ويرجع هذا النجاح إلى استثمارات مكثفة في الطاقة المتجددة، مثل التوسع في طاقة الرياح والطاقة الشمسية، إضافةً إلى تطوير البنية التحتية للشبكات الكهربائية لتتوافق مع متطلبات التحول الطاقي. كما لعبت السياسات الحكومية، مثل الحوافز الضريبية والدعم المالي للمشاريع المستدامة، دورًا مهمًا في تسريع وتيرة التحول البيئي.

على الرغم من هذا التقدم، لا تزال ألمانيا تواجه تحديات كبيرة في تحقيق بعض الأهداف البيئية الأخرى. أحد الأسباب الرئيسية لهذه الصعوبات هو العقبات التقنية التي تعترض تطوير العديد من القطاعات الصناعية ومنها على سبيل المثال تقنيات الانتقال الكهربائي مثل السيارات الكهربائية والبنية التحتية اللازمة لها من محطات شحن، بالإضافة الى الصعوبات التي تواجهها الشركات الألمانية في تطوير نماذج سيارات كهربائية ذات تكلفة مناسبة وتنافسية في مقابل صناعات السيارات الكهربائية العالمية. كذلك التعقيدات التقنية في استبدال الوقود الاحفوري المستخدم في صناعة الحديد والصلب بأخر صديق للبيئة.

إلى جانب التحديات التقنية، تعاني بعض مشاريع التحول الأخضر من مشكلات في التمويل. فبينما تخصص الحكومة الألمانية موارد مالية لدعم التحول البيئي، إلا أن بعض المشاريع تواجه تأخيرات بسبب نقص التمويل أو تعقيدات إدارية مرتبطة بالموافقات الحكومية والتخطيط. كما أن ارتفاع تكاليف المواد الخام والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية تؤثر على تنفيذ بعض المشاريع، مما يبطئ تحقيق الأهداف المنشودة في الوقت المحدد.

أهم النجاحات في سياسة التحول الأخضر في ألمانيا

مع تعدد اهداف سياسة التحول الاخضر استطاعت المانيا ان تحقق نجاحات لافتة في مجالين رئيسيين واللذان يتمثلان في تعزيز مساهمة مصادر الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء وأيضا في مجال خفض انبعاثات الغازات العادمة.

أ‌- مساهمة مصادر الطاقة المتجددة في انتاج الكهرباء في ألمانيا العام 2024م

سجلت مساهمة مصادر الطاقة المتجددة في انتاج الكهرباء في ألمانيا خلال العام 2024م، رقماً قياسياً، فبحسب تقرير لمعهد فراونهوفر، تم إنتاج حوالي 275.2 تيرا وات/ ساعة من الكهرباء عبر مصادر الطاقة المتجددة وهو ما يمثل 62.7 في المئة من إجمالي الكهرباء المُنتجة. بزيادة قدرها 4.4 في المئة مقارنة بالعام 2023م، ووفقًا للمعهد، كانت طاقة الرياح هي المصدر الأهم لتوليد الكهرباء بحصة بلغت 33 في المئة، رغم أن إنتاج محطات طاقة الرياح على اليابسة كان أقل مما كان عليه في عام 2023م. وجاءت أنظمة الطاقة الشمسية كثاني أهم مصدر للطاقة المتجددة حيث غطت حوالي 14 في المئة من إجمالي الإنتاج. وقد شهدت هذه الأنظمة زيادة كبيرة بنسبة 18في المئة في العام 2024م، مقارنة بالعام السابق. وقد تجاوز التوسع في أنظمة الطاقة الشمسية مرة أخرى أهداف الحكومة الاتحادية فبدلاً من الهدف المحدد عند 13 جيجاوات، تم بالفعل إنشاء 13.3 جيجاوات بحلول شهر نوفمبر 2024م. كما ساهمت طاقة الكتلة الحيوية بنسبة 8.9 في المئة من انتاج الكهرباء في العام 2024م، وساهمت الطاقة الكهرومائية بنسبة 5 في المئة. أما إنتاج الكهرباء بالطاقة النووية فقد انخفض تمامًا إلى الصفر في العام الماضي بعد إغلاق آخر ثلاث محطات للطاقة النووية في أبريل 2023م. وفي آخر عام تشغيل كامل، كانت الطاقة النووية قد ساهمت بنحو 6.3 في المئة من إجمالي الكهرباء العامة. وأوضح التقرير أن «هذا النقص تم تعويضه بالطاقة المنتجة من مصادر الطاقة المتجددة.»

في الوقت نفسه، استمر الانخفاض الكبير في إنتاج الكهرباء من الفحم. حيث قدمت محطات توليد الكهرباء من الفحم البني طاقة أقل بنسبة 8.4 في المئة، بينما انخفض إنتاج محطات الفحم الحجري بنسبة 27.6 في المئة. وقد وصلت ألمانيا في عام 2024م، إلى أدنى مستوى تاريخي في توليد الكهرباء من الفحم، حيث وصل اجمالي مساهمة الفحم في انتاج الكهرباء الى أقل من 29 في المئة. وفي المقابل، زاد إنتاج الكهرباء من الغاز الطبيعي بنسبة 9.5 في المئة. ويرجع الانخفاض في إنتاج الكهرباء من الفحم بشكل أساسي إلى ارتفاع تكلفة شهادات ثاني أكسيد الكربون (CO2). وبدلاً من تشغيل محطات الطاقة الأحفورية، تم الاعتماد بشكل أكبر على استيراد الكهرباء الأرخص من دول الاتحاد الأوروبي.

ب- خفض انبعاثات الغازات الدفيئة

أحرزت ألمانيا تقدمًا أسرع مما كان متوقعًا في مجال حماية المناخ، حيث شكلت انبعاثات الغازات الدفيئة في عام 2024م، تقريبًا نصف ما كانت عليه في عام 1990م. بالإضافة الى تحقق المستوى المحدد من حجم الغازات الدفيئة للعام 2024م، حيث تم إطلاق 656 مليون طن من الغازات الدفيئة، أي أقل بنسبة 3 في المئة مقارنة بعام 2023م، وبانخفاض بنسبة 48 في المئة مقارنة بعام 1990م.

وقد ساهمت العديد من العوامل في تحقيق هذا الهدف من أهمها الارتفاع الكبير في المساهمة القياسية لمصادر الطاقة المتجددة في انتاج الكهرباء وأيضا حجم توليد الكهرباء من الفحم الذي وصل إلى أدنى مستوى تاريخياً. كما ساعد الطقس المعتدل أيضًا في هذا الانخفاض، إلى جانب ضعف النشاط الاقتصادي الذي أدى إلى خفض انبعاثات الغازات الدفيئة في قطاع الصناعة.

أهم التحديات التي تواجه ألمانيا في تحقيق اهداف سياسة التحول الأخضر

حتى لو كانت ألمانيا تحقق حاليًا أهداف خفض الانبعاثات، فإن مواصلة تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تظل تحديًا كبيرًا. وبالرغم من ان رفع ضريبة ثاني أكسيد الكربون يعد عنصرًا أساسيًا للحفاظ على الحافز للقطاعات الاقتصادية المختلفة بشكل عام والقطاع الصناعي بشكل خاص في تعديل سياسة الطاقة الخاص بها والتحول نحو الطاقة الخضراء، الا ان ذلك لن يحقق أهداف خفض الانبعاثات. ولن يتم الوصول الى هذا الهدف الا من خلال تحسينات كبيرة في كفاءة الطاقة وما يتطلبه ذلك من تغييرات جذرية في تكنولوجيا الإنتاج، خصوصا تقنيات تخزين الطاقة الجديدة التي تلعب دورًا محوريًا. كما يمثل الهيدروجين الأخضر هنا أحد المجالات الرئيسية لهذا التحول التكنولوجي.

يتطلب هذا التحول التكنولوجي جهودًا كبيرة في مجالي الابتكار والاستثمار. حيث تتوقع المفوضية الأوروبية ان تحقيق الحياد المناخي للاتحاد الأوروبي يتطلب جهود استثمارية تزيد عن 600 مليار يورو سنويًا حتى عام 2030م. أما بالنسبة لألمانيا، فبحسب تقديرات بنك التنمية وإعادة الاعمار الحكومي KfW فان الاستثمارات اللازمة تقترب من نحو 190 مليار يورو سنويًا.

وستتحمل الشركات الجزء الأكبر من هذه الاستثمارات، لكن المخاطر تظل مرتفعة للغاية بسبب الطبيعة الجديدة تمامًا لبعض المسارات التكنولوجية وبعض مجالات الابتكار الرئيسية، مثل التنقل الكهربائي أو تكنولوجيا الهيدروجين، إذ يعتمد نجاح أي شركة بشكل حاسم على استثمار شركات أخرى في سلاسل القيمة الجديدة. على سبيل المثال، لن تكون السيارات الكهربائية ناجحة دون وجود بنية تحتية كافية للشحن وإعادة تدوير البطاريات، كما أن إنتاج الفولاذ المحايد مناخيًا لن يكون ممكنًا بدون طرق انتاج فعالة للهيدروجين الأخضر وطرق نقل آمنة.

كما لا تستطيع حتى الشركات الكبرى تحمل مثل هذه المخاطر بمفردها، مما يؤدي إلى عوائق في الاستثمار، ومن دون تدخل الحكومة الألمانية والمفوضية الاوروبية لا يمكن التغلب على هذه العوائق. وللمقارنة في الولايات المتحدة، يعتمد قانون خفض التضخم (IRA) على الحوافز الضريبية لتشجيع الشركات على الابتكار والاستثمار في التقنيات الخضراء. أما في الصين، فيتم تسريع التطورات التكنولوجية من خلال النفوذ الحكومي على الشركات المملوكة للدولة. في المقابل، لا تتوفر في أوروبا وألمانيا الشروط التنظيمية والقانونية الكافية لأي من هاتين الاستراتيجيتين.