تعد صناعة المعدات والآلات واحدة من اهم القطاعات الصناعية وإحدى الصناعات الرائدة التي تتميز بها ألمانيا في العالم واحد اهم الأسباب في ذيوع شعار الجودة «صنع في ألمانيا». وقد نشأت هذه الصناعة بداية مع نشوء المحرك البخاري، وبدأت اول عملية انتاج للمعدات الصناعية الاستثمارية في ألمانيا في العام 1848م. ومنذ ذلك الوقت نمت هذه الصناعة لتصبح ثاني اهم صناعة في ألمانيا، بعد صناعة السيارات. وتنتج صناعات المعدات والآلات المحركات والمكائن الصناعية اللازمة لإنتاج العديد من الصناعات بداية من صناعة مكائن الخياطة مرورا بصناعة محركات وتوربينات توليد الطاقة وحتى الوصول الى معدات صناعة الطائرات، وعلى هذا تعتمد فعالية وكفاءة الإنتاج الصناعي في ألمانيا على مدى جودة صناعة المعدات والآلات وقدرة شركات القطاع على الابتكار.
الأهمية الاقتصادية لصناعة المعدات والآلات
تنبع أهمية صناعة المعدات والآلات كقطاع اقتصادي مستقل أولا من حجم الإيرادات التي يحققها القطاع وحجم مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي بالإضافة الى دورة كأحد القطاعات الصناعية كثيفة التشغيل للعمالة وكثيفة التصدير حيث جاءت المعدات والآلات الصناعية في المرتبة الثانية كأهم السلع التي تصدرها ألمانيا في العام 2023م بقيمة 223.1 مليار يورو وبزيادة بنسبة 5.5 في المئة مقارنة بالعام الذي سبق. وهذا الرقم من الصادرات يمثل أكثر من ضعف إيرادات القطاع بالمقارنة بالفترة التي تلت تحقيق الوحدة الألمانية منذ أكثر من 30 عامًا.
من ناحية تشغيل العمالة يعمل بشكل مباشر في القطاع نحو 943 ألف شخص مندرجين فيما يقرب من 6600 شركة، 95 في المئة من هذه الشركات شركات متوسطة وصغيرة الحجم والتي لديها أقل من 500 موظف، وبالتالي فإن صناعة المعدات والآلات تقوم بدرجة رئيسية على الشركات المتوسطة والصغيرة.
البحث العلمي والابتكار في صناعة المعدات والآلات
تعتمد صناعة المعدات والآلات في ألمانيا بدرجة كبيرة على البحث العلمي والابتكار لتطوير منتجاتها المختلفة لتلبية احتياجات السوق المحلي والدولي المتغيرة والاحتفاظ بقدرتها التنافسية خصوصا في ضوء التطورات التقنية المتسارعة وأيضا زيادة حدة التنافسية من الصناعات الشبيهة في العديد من الدول خصوصا الدول الاسيوية. وعلى هذا تصنف صناعة المعدات والآلات بانها واحدة من أكثر الصناعات انفاقًا على البحث والابتكار، وقد بلغت قيمة ما انفقته شركات القطاع في هذا الجانب العام 2023م، نحو 17.2 مليار يورو، وبلغ عدد براءات الاختراع التي سجلتها شركات القطاع في ألمانيا العام 2022م، 3601 براءة اختراع.
ووفقًا لاتحاد المانحين للعلوم الألماني (Stifterverband)، وصل عدد الموظفين في البحث والتطوير والابتكار في صناعة المعدات والآلات إلى رقم قياسي جديد في عام 2022م، حيث وصل عددهم الى ما يقرب من 54 ألف باحث وباحثة، بزيادة 5 في المئة بالمقارنة مع العام الذي سبق.
موقع ألمانيا في السوق العالمي للمعدات والآلات الصناعية
على المستوى العالمي وبحسب أحدث البيانات فقد تم بيع معدات وآلات صناعية بقيمة 3.385 مليار يورو تقريبًا في جميع أنحاء العالم في عام 2022م. وهو ما يمثل زيادة بنسبة 12 في المئة عن العام 2021م، الا ان جزء كبيرًا من هذه الزيادة يعود الى فروقات صرف العملة والتضخم، ويشير خبراء السوق الى ان الزيادة الحقيقة في سوق صناعة الآلات الصناعية قد نما في العام 2022م بنحو 2 في المئة فقط.
احتلت الصين في العام 2022م، بفارق كبير صدارة ترتيب أكبر الدول المصنعة للآلات في العالم. وهو المركز الذي تحتله منذ عام 2009م. ويساهم في حصول الصين على هذا المركز احتساب انتاج الشركات الأجنبية التي تمتلك مصانع في الصين ضمن انتاجها. وقد بلغ حجم مبيعات الآلات والمعدات الصناعية في الصين العام 2022م نحو 1.2 ترليون يورو. وجاءت الولايات المتحدة الامريكية في المركز الثاني في ترتيب اهم الدول المنتجة للآلات الصناعية في العالم العام 2022م بمبيعات بلغت 422 مليار يورو.
وقد أكدت ألمانيا مكانتها كثالث أكبر منتج للآلات الصناعية العام 2022م، بحجم مبيعات في الأسواق المحلية والعالمية يقدر بـ 354 مليار يورو، ومقارنة بالعام 2021م، ارتفعت قيمة المبيعات بنسبة 11 في المئة. ويأتي جزء من ارتفاع مبيعات الشركات الألمانية بسبب التضخم وفروقات العملة بين اليورو والدولار. وقد أتت اليابان في المركز الرابع بحجم مبيعات بلغ 296 مليار يورو وإيطاليا في المركز الخامس بمبيعات بقيمة 153 مليار يورو كما جاءت كوريا الجنوبية في المركز السادس بقيمة 108 مليار يورو.
أوروبيًا نمت مبيعات الآلات في دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين بنسبة 12 في المئة في عام 2022م. وكما كان الحال في العام السابق، فإن حوالي ربع الآلات المباعة في جميع أنحاء العالم جاءت من الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ حجم مبيعات الآلات الصناعية الأوروبية حوالي 859 مليار يورو.
أهم فروع صناعة المعدات والآلات
تتنوع وتتعد أفرع صناعة المعدات والآلات بشكل واسع الا انه يمكن تسمية اهم فروع الصناعة بناءً على حجم الإيرادات وفي هذا المجال تأتي مكائن التصنيع والذي بلغت إيراداتها بحسب ارقام العام 2022م، 20.8 مليار يورو كأهم فروع صناعة المعدات والآلات في ألمانيا، يليه مجال تكنولوجيا القيادة والذي يتضمن تصنيع المحامل والتروس وعناصر القيادة بإيرادات بلغت 20.2 مليار يورو، ثم تأتي صناعة معدات الرفع والنقل بقيمة إيرادات بلغت 19.4 مليار يورو، من بعدها صناعة الآلات الزراعية بمبيعات بحجم 16.8 مليار يورو، كما جاءت صناعة آلات التعدين والبناء ومواد البناء كأحد اهم فروع الصناعة بإيرادات بلغت العام 2022م 14.9 مليار يورو، تصنيع المضخات والضواغط حقق إيرادات بنحو 13.3 مليار يورو كذلك بلغت إيرادات منتجات تكنولوجيا التبريد والتهوية 13.3 مليار يورو. وبلغت صناعة التوصيلات 12.7 مليار يورو، صناعة آلات إنتاج الأغذية بلغت إيراداتها 6 مليار يورو بالإضافة الى صناعة آلات إنتاج المنسوجات والملابس ومعالجة الجلود بقيمة 4.5 مليار يورو. صناعة آلات إنتاج المعادن والأفران بلغت إيراداتها 2.6 مليار يورو، فيما بلغت إيرادات صناعة آلات إنتاج الورق 2.2 مليار يورو.
ومع الأهمية التي تتمتع بها مختلف فروع صناعة المعدات والآلات الصناعية في ألمانيا الا ان صناعة الروبوتات والاذرع الآلية تتمتع بأهمية متزايدة، فإلى جانب إيرادات هذه الصناعة والتي تقدر بنحو 16.2 مليار يورو في العام 2023م، تلعب الروبوتات والاذرع الالية دورا مهما في أتمتة عملية التصنيع وتحقيق اهداف الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0.). وتعد ألمانيا خامس أكبر سوق للروبوتات في العالم، حيث تم تركيب 25636 روبوتًا حديثًا العام 2022م، بزيادة بنسبة 5 في المئة مقارنة بالعام السابق كم بلغ انتاج ألمانيا من الروبوتات الآلية الصناعية في نفس العام 35616 وحدة بزيادة بنسبة 20 في المئة مقارنة بالعام الذي سبق وبما يساوي 6 في المئة من الإنتاج العالمي، وبلغ اجمالي عدد وحدات الروبوتات الصناعية قيد التشغيل في ألمانيا 259.636 وحدة.
على المستوى العالمي أتت الصين في المركز الأول من حيث عدد وحدات الروبوتات الجديدة والتي بلغت العام 2022م، أكثر من 290 ألف وحدة، تليها اليابان والتي ركبت حوالي 50 ألف وحدة جديدة ومن ثم الولايات المتحدة التي بلغ عدد الروبوتات الصناعية الجديدة فيها العام 2022م، 39600 وحدة. في المركز الرابع جاءت كوريا الجنوبية مع 31700 وحدة جديدة. وحلت إيطاليا في المركز السادس بنحو 11600 وحدة جديدة ومن ثم في المركزين السابع والثامن كل من تايوان وفرنسا بحوالي 7800 وحدة و7400 وحدة على التوالي.
فيما يتعلق بكثافة استخدام الروبوتات والاذرع الالية الصناعية بالمقارنة مع عدد العمال الصناعيين وبحسب تقرير للاتحاد الدولي للروبوتات (International Federation of Robotics)جاءت كوريا الجنوبية في المركز الأول بنحو 1012 روبوت لكل 10 آلاف عامل صناعي تليها سنغافورة بمعدل 730 روبوت لكل 10 آلاف عامل ثم ألمانيا التي جاءت في المركز الثالث على مستوى العالم في استخدام الروبوتات الصناعية حيث يوجد فيها 415 روبوت مقابل كل 10 آلاف عامل في القطاع الصناعي، ويبلغ هذا المعدل في اليابان 397 روبوت لكل 10 آلاف عامل، الصين 392 روبوت ، السويد 343 روبوت، هونج كونج 333 روبوت و سويسرا في المركز السابع بنحو 292 روبوت لكل 10 آلاف عامل صناعي.
من جانب أخر، تعد صناعة السيارات تقليديًا أكبر مشتر للروبوتات في ألمانيا، وقد ركبت شركات القطاع نحو 6676 روبوتًا جديدا في عام 2022م. كما قامت صناعة معالجة المعادن بتركيب رقم قياسي جديد بلغ 4187 وحدة وهو ما يعد زيادة بنسبة 19 في المئة مقارنة بالعام الذي سبق، وتبعتها الصناعات الكيماوية في المركز الثالث، والتي ركبت 2049 وحدة جديدة.
التحديات التي تواجه صناعة المعدات والآلات
يواجه قطاع صناعة المعدات والآلات الألماني منذ فترة العديد من التحديات التي تعيق تطوير اعماله وانتاجه وكذلك قدرته على الابتكار، وتتركز هذه التحديات في استيعاب تقنيات الرقمنه، الى جانب النقص المستمر والمتزايد في العمالة الماهرة والمؤهلة.
تحدي الرقمنة
بدأ التغيير الرقمي في القطاع الصناعي في ألمانيا منذ عدة سنوات لكن معرفة الموظفين في شركات صناعة المعدات الصناعية، لا تزال في الغالب غير كافية للمساعدة في تشكيل واستيعاب هذا التغيير، حيث اظهر اختبار للكفاءة أجرته مؤسسة IMPULS لصالح اتحاد مصنعي الآلات والمعدات الألماني VDMA، حول مهاراتهم في مجال الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0) ان هناك حاجة كبيرة للتأهيل. وتنطبق هذه الحاجة للتأهيل أيضا على الطلاب الدارسين للتخصصات المتعلقة بهندسة صناعة المعدات الصناعية. وأشار Hartmut Rauenنائب المدير في الاتحاد VDMA الى ان الرقمنة « ليست شيئا يتم إنجازه بشكل تلقائي، لا في الشركات الصناعية ولا في الجامعات، بل يجب العمل بسرعة على تكييف المناهج في الجامعات بشكل مستمر مع التقدم التكنولوجي، كما يجب على الشركات تصميم استراتيجيات تدريب لتحسين مستوى إدراك موظفيها للتقنيات الحديثة، حيث يتعلق الامر هنا ببناء وتطبيق واستخدام المعرفة التي تتيحها الثورة الصناعية الرابعة Industry 4.0، بداية من تقنيات حماية البيانات مرورا بتقنيات الذكاء الصناعي ووصولا الى تطوير خدمات رقمية جديدة».
وبحسب اختبار الكفاءة وافق الطلاب والموظفين والشركات الصناعية على وجود عجز في المعرفة الخاصة بتقنيات الرقمنة، فعلى سبيل المثال قال واحد من كل أربعة موظفين في الشركات الصناعية انه ليس لهم اية معرفة حول «أمن تكنولوجيا المعلومات وحماية البيانات»، وارتفعت هذه النسبة بين الطلاب الى واحد من كل اثنين.
نقص العمالة الماهرة
يتميز القطاع الصناعي الألماني بشكل عام وصناعة المعدات والآلات الصناعية بشكل خاص، باحتياجه المكثف للعمالة المؤهلة والمدربة والقادرة على التعامل مع التقنيات الصناعية الحديثة وإنتاج السلع بأفضل جودة واتقان ممكن. ولهذا السبب يمثل توافر العدد الكافي من القوة العاملة المؤهلة أحد الشروط الأساسية اللازم توافرها لضمان استمرار نمو القطاع الصناعي واستمرار الحفاظ على جودة المنتجات الصناعية. وتعاني شركات صناعة المعدات والآلات منذ عدة سنوات من استمرار تراجع عدد العمالة الماهرة المتوفر فبعد ان كان ما يقرب من 1.4 مليون شخص يعملون في القطاع في العام 1991م، تراجع هذا العدد العام 2022م، الى 943 ألف عامل على الرغم من تضاعف إيرادات شركات القطاع خلال هذه الفترة. بالإضافة الى ذلك بلغ عدد الوظائف الشاغرة في القطاع مستوى قياسيًا العام 2022م، حيث تم الإعلان عن 12 ألف وظيفة شاغرة من خلال وكالة العمل الاتحادية وكان ما يقرب من 70 بالمائة من الوظائف موجهة إلى العمال المهرة. الى جانب ذلك تسعى 60 في المئة من الشركات في القطاع في توسيع قوتها العاملة الدائمة في الأعوام القادمة كما أبلغت ثلاث من كل أربع شركات عن نقص ملحوظ أو خطير في العمال المهرة. وشهد عدد الدارسين لتخصص بناء الآلات في الجامعات الألمانية تراجعا هو أيضا بداية من العام 2015م، والذي بلغ عدد المسجلين لدراسة هذا التخصص فيه 120 ألف طالب وطالبة قبل ان يتراجع العدد الإجمالي للدراسين لهذا التخصص في الفصل الشتوي 2022/2023م، حيث تم تسجيل حوالي 87.700 طالب وطالبة لدراسة هندسة المعدات والآلات في الجامعات الألمانية. وتدعوا أوساط صناعة المعدات الألمانية الحكومة الاتحادية الى سرعة معالجة هذا النقص واتخاذ القرارات المناسبة لتغطية هذا العجز المتزايد.
أفاق نمو صناعة المعدات والآلات الصناعية
على الرغم من حدة التنافس في صناعة المعدات والآلات الصناعية في الأسواق العالمية مع دخول دول جديدة في هذا القطاع ونمو هذا القطاع في دول أخرى الا ان دراسة أجرتها شركة الاستشارات الإدارية Porsche Consulting مع اتحاد مصنعي الآلات والمعدات الألماني (VDMA)، أظهرت ان سوق انتاج البطاريات العالمي سينمو إلى حجم نصف تريليون يورو بحلول العام 2030م. وهو ما يتوافق مع نمو بنسبة 2000 في المئة في غضون عشر سنوات فقط، ويرجع ذلك نتيجة الى ارتفاع الطلب الكبير من صناعة السيارات الكهربائية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف الذكية. ولتغطية هذا الطلب الكبير يجب ان يتم بناء خمسة مصانع ضخمة للبطاريات كل شهرين في جميع انحاء العالم، وهو ما يمثل فرصة للشركات الألمانية في قطاع بناء المعدات والآلات الصناعية حيث يمكن للشركات التي يبلغ حجم مبيعاتها حاليًا حوالي 100 مليون يورو أن تصل مبيعاتها إلى مليار يورو في عام 2030م. وبحسب الدراسة من الممكن أن يؤدي الدخول الناجح لشركات صناعة الآلات الألمانية إلى هذا السوق إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي المحلي الألماني بنسبة تصل إلى 0.3 في المئة.
وعلى الرغم من ان صناعة البطاريات لا تزال تهيمن عليها الشركات المصنعة من الصين واليابان وكوريا الجنوبية ولكن لا يزال بإمكان الشركات الألمانية تأمين حصة كبيرة من السوق العالمية، خصوصا ان المفوضية الأوروبية تتبنى توطين صناعة البطاريات وبناء مصانع انتاج البطاريات في دول الاتحاد الأوروبي وهنالك العديد من المشاريع المزمع اقامتها في هذا المجال في عدد من دول الاتحاد ومن بينها ألمانيا. وتأكد الدراسة على ضرورة تعاون الشركات الألمانية واقامتها تحالفات فيما بينها وأيضا مع الشركات الأوروبية الأخرى لتعزيز قدرتها على المنافسة في مواجهة الشركات الاسيوية التي تمتلك خبرة عشر سنوات في هذا المجال.