تعد صناعة التعدين واحدة من اهم الصناعات الاستراتيجية انطلاقاً، ليس فقط من مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي او مشاركتها في خلق الوظائف وتشغيل العمالة، ولكن أيضا تكمن اهميه هذه الصناعة في دورها في توفير المواد الأولية والمواد الخام المختلفة التي تعد عنصرا جوهريا وحاسما في استمرار تطور الاقتصاد وخصوصا قطاع الصناعة وقدرته على توفير احتياجاته وضمان استمرار الإنتاجية بسلاسة وبدون اختناقات او ازمات في التوريد. وصناعة التعدين والمناجم وان كانت من أكثر الصناعات تلويثا للمناخ واضرارا بالبيئة فان دورها لا يمكن تخيل الاستغناء عنه في المدى القريب.
الابعاد التاريخية
لعبت العديد من المواد الخام دورا رئيسيا في نهضة ألمانيا الصناعية وساهمت حتى في إعادة ادماج ألمانيا في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وتأتي هنا صناعة الصلب واستخراج الفحم كأبرز مثال على ذلك، فصناعة الصلب هي الان فرع من فروع الاقتصاد الذي ينتمي إلى الصناعة الثقيلة، وقد تطورت صناعة الصلب كفرع اقتصادي مستقل بداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما تم نقل إنتاج الصلب من المعامل الصغيرة إلى مصانع الحديد الكبيرة كجزء من الثورة الصناعية بسبب التقدم التقني وتطبيق التقنيات الجديدة. هذا التصنيع المتقدم ساهم بشكل حاسم في جعل صناعة الصلب قطاعاً اقتصاديًا مهمًا حتى اليوم. وتتركز صناعة الصلب الألمانية اليوم بشكل رئيسي في منطقة الرور وسارلاند بالإضافة إلى ولاية بريمن.
كذلك ساهم الفحم في نهضة ألمانيا باعتباره وفر للاقتصاد الألماني مصدرا مناسبا للطاقة من حيث الكمية وسهولة الحصول عليه وكذلك السعر، وما يزال الفحم يلعب دورا مهما في انتاج الطاقة في ألمانيا حتى بعد القرار الحكومي بالتخلي عنه بحلول العام 2038م.
الى جانب ذلك، لعبت صناعة الحديد والفحم دورا حاسماً في نشأة وتطور الاتحاد الأوروبي والذي تعود بدايته الى عام 1952م عندما تم انشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب.
أهمية صناعة التعدين
يعد قطاع التعدين والمناجم قطاعا اقتصاديا مستقلا بذاته على الرغم من صغر حجمه بالمقارنة مع بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى في ألمانيا. حققت الشركات في القطاع إجمالي حجم إيرادات بلغ حوالي 9.8 مليار يورو في عام 2018م. وقد جاء الجزء الأكبر من الإيرادات 8,5 مليار يورو (حوالي 87 في المئة) من المبيعات في السوق المحلية، فيما بلغت حصة التصدير نحو 1,3 مليار يورو (حوالي 13 في المئة). الا ان أهمية هذا القطاع تنبع في الأساس من مسؤوليته في تأمين المواد الخام لمختلف قطاعات الاقتصاد بعيدا عن الاستيراد وخضوع الاقتصاد الى تقلبات أسعار المواد الخام العالمية واحتكار عدد من الدول كميات أساسية من بعض الخامات الرئيسية.
في هذا السياق اشتكى اتحاد الصناعة الألمانية BDI من أن «أسواق المواد الخام الدولية تتميز بعدد كبير من تشوهات التجارة والمنافسة». «والتي تؤثر على توريد المواد الخام والقدرة التنافسية للصناعة في ألمانيا وفي الاتحاد الأوروبي. وقد رفع الاتحاد الأوروبي بالفعل دعوى قضائية ضد الصين في منظمة التجارة العالمية بسبب قيود التصدير التي تفرضها على بعض المواد الخام والمعادن.
اهم الثروات المعدنية الموجودة في ألمانيا
على الرغم من أن ألمانيا مقارنة بالعديد من دول العالم تصنف بانها فقيرة نسبياً في المواد الخام، إلا أنها لا تزال لديها بعض مصادر المواد الخام والثروات المعدنية، ومن أهم هذه المواد من حيث كمية الإنتاج الحصى ورمل البناء الذي يُنتج منه سنوياً حوالي 270 مليون طن، بالإضافة الى الحجر الطبيعي بحوالي 200 مليون طن سنوياً وكذلك الفحم البني الذي يتم استخراج ما يقرب من 180 مليون طن منه كل عام. كما تمتلك ألمانيا حقولا من الغاز الطبيعي والنفط الموجودة بشكل رئيسي في ولايتي ساكسونيا السفلى وشليسفيغ هولشتاين، وعدد من الحقول الصغيرة في مكلنبورغ-بوميرانيا وبادن فورتمبيرغ، ويتم إنتاج حوالي 3000 برميل من النفط الخام من مختلف هذه الحقول يومياً الى جانب ما يقرب من 19.6 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا. وهذه الكمية تساوي 3.2 في المئة من استهلاك النفط المحلي في ألمانيا، ونحو 19 في المئة من الطلب الألماني على الغاز الطبيعي. ولهذا لا تعد ألمانيا من الدول الكبيرة المنتجة للنفط اذ من الصعب توقع المزيد من الاكتشافات، بالإضافة الى انه، وبمعدل الإنتاج الحالي، سيتم استهلاك كل مخزون الغاز الطبيعي الألماني في حوالي 50 عامًا وكل احتياطيات النفط الألماني في 12 عامًا.
من جانب اخر تمتلك ألمانيا مخزونات طبيعية من العديد من المعادن والموزعة بطريقة غير متساوية على مساحة البلاد وذلك بسبب الماضي الجيولوجي لألمانيا. وتشمل المعادن ذات الأهمية الاقتصادية لاستخراجها أملاح البوتاس والصخور، خامات الحديد والمنغنيز، والفلورسبار (الفلوريت)، والحجر الجيري، والجبس، والكوارتز، والبازلت والنحاس.
وتعتمد عملية استخراج وتعدين هذه المعادن على الجدوى الاقتصادية والتي تتطور مع الوقت، فعلى سبيل المثال اُكتشف في ألمانيا منذ أكثر من 50 عاما واحد من أكبر رواسب النحاس في أوروبا على عمق 1000 متر في منطقة Lusatian على الحدود الشرقية لألمانيا مع بولندا، ولكن وبسب ارتفاع تكلفة استخراج النحاس ورخص ثمنه في السوق الدولية في ذلك الوقت لم يتم استغلال هذا المحزون منه، قبل ان يتغير هذا المشهد ويرتفع سعر خام النحاس في الأسواق العالمية، فبينما كان سعر طن النحاس العالمي أقل من 2000 دولار في بداية عام 2003م ، يبلغ سعره حاليًا عند 8900 دولار ، وهو ما يجعل قيمة 1,5 مليون طن من مخزونات النحاس في Lusatian تبلغ قيمتها أكثر من 8 مليار يورو مما دفع ثلاث شركات عالمية كبرى للتعدين للتنافس على الحصول على حق استغلال المنجم.
ويمثل هذا التطور في تعدين النحاس مؤشرا للأفاق التي يمتلكها قطاع التعدين في ألمانيا، فكما تسبب استنفاد المحزونات او إمكانية استيرادها بكلفة أقل من استخراجها في إيقاف تعدين الفضة والرصاص والحديد في ألمانيا في أوقات سابقة، فان الارتفاع المستمر في أسعار المواد الخام المختلفة في الأسواق العالمية دفع الى إعادة النظر في الجدوى الاقتصادية في تعدين العديد من الثروات المعدنية والتي كان من أهمها البوتاس ، وهو معدن مهم للغاية لإنتاج الأسمدة الاصطناعية ، والذي اصبح استخراجه أكثر ربحية في ولايتي هيسن وتورنغن عن أي وقت مضى، وبدرجة أقل ينطبق هذا أيضًا على إنتاج الجبس والحديد الى جانب الكبريت الذي اعتاد منتجو النفط في ألمانيا اعتباره مجرد ملوث مصاحب لاستخراج النفط، أصبح أيضًا أحد الأصول الاقتصادية المثيرة للاهتمام.
مستقبل الطلب على المواد الخام والثروات المعدنية
يمتلك قطاع التعدين مزيدا من الأهمية بسبب التغيرات التي تجرى في سوق المواد الخام العالمي والذي يعاني من قلة انتاج بعض المواد الخام وبعض المعادن الهامة للعديد من الصناعات بالإضافة الى تأثيرات احتكار عدد محدود من الدول لإنتاج عدد من المعادن الهامة، الى جانب ذلك سيحدد عاملان الطلب على المواد الخام في العقود القليلة القادمة، الأول هو نمو الاقتصاد العالمي والذي سيرفع الطلب على المواد الخام الكلاسيكية مثل الحديد، الفولاذ والنحاس، والثاني هو التقدم التكنولوجي، والذي من المرجح أن يؤدي إلى ازدهار عدد من العناصر والمعادن التي لا تزال غير ذات أهمية في الوقت الحاضر.
ولفرض التحقق في المواد الخام التي ستتزايد أهميتها في الصناعة في المستقبل قام معهد فراونهوفر لأبحاث النظم والابتكار، بالتعاون مع معهد الدراسات المستقبلية وتقييم التكنولوجيا وبتكليف من وزارة الاقتصاد الاتحادية، بفحص 32 تقنية مستقبلية من مجالات مثل الطب وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أو تكنولوجيا الكهرباء والقيادة. وقد خرج الخبراء بتقرير عن اهم المواد التي ستحتاجها التقنيات المستقبلية والتي تتمثل بالتالي:
- الغاليوم، حيث يتوقع الباحثون أكبر زيادة في الطلب على الغاليوم، حيث وبحلول العام 2030م، ستحتاج الشركات في جميع أنحاء العالم إلى حوالي 600 طن من هذه المادة للابتكارات التقنية المتوقعة، وهو ما يعادل ستة أضعاف إجمالي حجم الإنتاج العالمي الحالي. وسيتم استخدام هذا العنصر بشكل خاص في مجالات الخلايا الكهروضوئية ومصابيح LED والرقائق الدقيقة عالية الأداء. تحتل المادة الخام للغاليوم المرتبة 38 في وفرة العناصر في قشرة الأرض، وبالتالي فهي شائعة مثل الرصاص. أهم الدول المنتجة للغاليوم هي الصين وألمانيا وكازاخستان.
- النيوديميوم، والذي يتم استخدامه في تصنيع في المغناطيس الدائم، والذي يستخدم بدورة، من بين أشياء أخرى، للمحركات الكهربائية. وينتمي النيوديميوم إلى مجموعة العناصر الأرضية النادرة، والتي، على الرغم من اسمها، ليست نادرة في الواقع، حيث تكفي مخزوناتها لاستمرار الإمدادات لمئات السنين.، الا ان الإشكالية في توافر هذه المادة ان أهم دولة إنتاج هي الصين بحصة سوق عالمية تبلغ 95 في المئة.
- الإنديوم، نادر مثل الفضة، ويستخدم بشكل أساسي في شاشات العرض والخلايا الشمسية ذات الأغشية الرقيقة، ويتوقع ان يرتفع استخدامه في المستقبل بشكل كبير، وتحتكر الصين نصف الإنتاج العالمي من هذا المعدن.
- الكروميت، تبلغ احتياطيات هذه المادة الخام، وهي المادة التي يستخرج منها الكروم، اثنا عشر مليار طن. لذا فإن الندرة ليست هي المشكلة، بل تتمثل المشكلة في ان مخزونات هذا المعدن تتركز في دولتين فقط في العالم هما جنوب افريقيا وكازخستان. ويستخدم الكروم بشكل أساسي في صناعة السبائك وفي صناعة المواد المقاومة للتآكل والحرارة.
- الكوبالت، وهو معدن هام جدا في صناعة بطاريات الليثيوم، الأساسية في صنعة السيارات الكهربائية، لهذا فمن المرجح زيادة الطلب على هذا المعدن بشكل كبير مستقبلاً. وتعد الكونغو اهم دولة منتجة للكوبالت بحصة تتجاوز 40 في المئة من الإنتاج العالمي.
- البلاتين، يستخدم المعدن الثمين كمحفز لخلايا الوقود، تم استخراج حوالي 180 طنًا من البلاتين العام الماضي. ويبلغ سعر الأونصة من هذا المعدن (حوالي 31 جرامًا)، 1190 دولارًا. وتعد جنوب إفريقيا وروسيا أهم الدول المنتجة. ويتوقع ان ترتفع الحاجة الى هذا المعدن بشدة بسبب استخداماته في تقنيات المستقبل.
من جهة أخرى يبحث معهد الاقتصاد الألماني (Institut der Deutschen Wirtschaft IW) عن مدى توافر المواد الخام في المستقبل من وجهة نظر مختلفة، حيث يبحث الخبراء في مسألة المواد الخام التي تواجهه عملية ضمان وارداتها أكبر مخاطر. للقيام بذلك، قاموا بتطوير فهرس بناءً على معايير مختلفة والتي تشمل، على سبيل المثال، التركيز على عدد قليل فقط من البلدان المصنعة ودول الإنتاج، وأهمية التقنيات المستقبلية ومدى إمكانية استبدال مادة خام بأخرى. وبحسب قائمة المعهد يحتل الإيتريوم، والذي يستخدم في الموصلات الفائقة والليزر ذات درجات الحرارة العالية، المرتبة الأولى. حيث يتم استخراجه حصريًا في الصين، وله خصائص فريدة، ولهذا السبب لا يمكن استبداله بعناصر أخرى بسهولة.
المواد الأخرى الموجودة في أعلى مؤشر المخاطر معهد IW، تتضمن الكوبالت والتنغستن والليثيوم والسيلينيوم. ما تشترك فيه معظم هذه العناصر هو أنه يتم انتاجها غالباً في بلدان غير مستقرة سياسيًا، وأنها نادرة ويصعب استبدالها.
الحلول الممكنة لمواجهة نقص المواد الخام الأولية
امام إشكالية ارتفاع أسعار المواد الخام في الأسواق الدولية ومحدودية المصادر المحلية لتوفير هذه المواد الى جانب الارتفاع المتوقع مستقبلاً في استخدام العديد من المعادن والمواد الأكثر ندرة او التي تحتكر انتاجها دولة او عدد محدود من الدول، تبقى إعادة التدوير واحدا من الحلول الأكثر مناسبة لتحسين وضمان توريد المواد الخام.
إعادة التدوير او ما تسمى « التعدين الحضري»، أي استخراج المواد الخام من النفايات، تعد طريقة ناجعة جدا لتوفير المواد الخام، فعلى سبيل المثال، يمكن استخراج طن واحد من النحاس من عشرة إلى 14 طنًا من النفايات الإلكترونية. مقابل نفس الكمية من النحاس، سيتعين عليك استخراج 1000 طن من الصخور في منجم. ولا يزال هناك الكثير من إمكانيات أفضل للاستفادة من النفايات في هذا الجانب حيث يقدر الاتحاد الألماني للمواد الخام الثانوية وتصريفها (BVSE) أنه من بين 1.8 مليون طن من الأجهزة الكهربائية القديمة التي يتم التخلص منها كل عام، ينتهي نصفها فقط في دورة إعادة التدوير، بينما ينتهي الأمر بالعديد من الأجهزة في النفايات المتبقية، في بعض الحالات، يتم إخراجها بشكل غير قانوني من البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن تحسين معدل إعادة التدوير للأجهزة المجمعة. وفقًا لـ ـ BVSE، في الوقت الحاضر يمكن بالفعل إعادة تدوير 70 في المئة من المواد من الأجهزة الكهربائية الصغيرة. ومع ذلك، يمكن أن تكون النسبة أعلى إذا أولى المصنعون مزيدًا من الاهتمام لفكرة سهولة تفكيك هذه الأجهزة بعد انقضاء عمرها الافتراضي او خروجها من الخدمة.