يُعَدُّ قطاع البناء من القطاعات الأساسية والفاعلة في الاقتصاد الألماني، إذ يساهم بشكل مباشر في تحقيق النمو الاقتصادي واستقرار سوق العمل وتلبية احتياجات السكان المتزايدة للسكن والبنية التحتية. ويوفّر القطاع فرص عمل في مختلف المجالات المرتبطة بالبناء، مثل البناء السكني والبنية التحتية الى جانب الصناعات الداعمة كصناعة الإسمنت، وصناعة الصلب، والزجاج، والخدمات الهندسية. وهذا يُسهِم في تعزيز سوق العمل ودعم الأجور والاستقرار الوظيفي.
وابتدأ من خريف العام 2022م، رفع البنك تؤدي مشاريع الإسكان وتطوير البنية التحتية دوراً رئيسياً في جذب الاستثمارات، حيث شهدت السنوات الأخيرة طلباً متزايداً على مشاريع الإسكان المستدام والمباني صديقة البيئة. يتزامن ذلك مع زيادة الحاجة إلى تحديث شبكات النقل والمرافق العامة والبنية التحتية الرقمية، والتي تشكّل أساساً لدفع عجلة النمو الاقتصادي طويل الأمد. لذا فان اية صعوبات تواجه قطاع البناء سوف تنعكس بالضرورة على معدلات النمو الاقتصادي.
الأهمية الاقتصادية لقطاع البناء
من ناحية الإيرادات التي يحققها القطاع فقد بلغت، حسب بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي في العام 2023م، نحو 187 مليار يورو تقريبا. وهنالك أكثر من 11 ألف شركة متوسطة الحجم والتي تضم 20 عاملا او أكثر تعمل في القطاع اما في حالة احتساب الشركات الصغيرة والصغرى الناشطة في القطاع فان عدد الشركات يرتفع ليبلغ أكثر من 83 ألف شركة. كما بلغ عدد العاملين بشكل مباشر في شركات القطاع نحو مليون شخص، وإذا ما تم احتساب اجمالي العاملين بشكل مباشر وغير مباشر في القطاع، يرتفع عدد العاملين في قطاع الى 2.65 مليون عامل، ويساوي هذا العدد حوالي 5.8 بالمئة من إجمالي القوى العاملة في ألمانيا.
والى جانب المساهمة المباشرة لقطاع البناء في الناتج المحلي الإجمالي وكذلك في مجال تأمين فرص العمل وضمان استقرار سوق العمل فان القطاع يساهم بدرجة كبيرة في توفير الظروف المناسبة للاستقرار الاجتماعي وخلق البيئة المناسبة للنمو الاقتصادي من خلال تغطية الحاجة من المساكن الجديدة، خصوصا بعد ان ارتفع عدد سكان ألمانيا خلال السنوات الماضية نتيجة موجات اللجوء والهجرة. وكذلك يعد القطاع أيضاً مكوناً أساسياً في تطوير البنية التحتية الأساسية في ألمانيا، مثل الطرق والجسور وشبكات المياه والكهرباء. ولهذا يعد هذا القطاع حيوياً لدعم الاقتصاد المحلي من خلال تحسين المواصلات وزيادة كفاءة النقل العام، مما يسهم في تسهيل التنقل اليومي ونقل البضائع والسلع المختلفة وتقليل التكاليف التشغيلية للشركات.
بالإضافة إلى البنية التحتية التقليدية، هناك توجه قوي نحو تطوير بنية تحتية صديقة للبيئة، تدعم التحول نحو الاقتصاد الأخضر. يتضمن ذلك بناء منشآت توليد الطاقة المتجددة مثل توربينات الرياح والألواح الشمسية، وشبكات نقل الطاقة الكهربائية النظيفة، مما يعزز التوجه نحو خفض انبعاثات الكربون ويضع ألمانيا في موقع الريادة في التحول نحو الطاقة المستدامة.
أهمية قطاع البناء لدى المواطنين الألمان
لا تقتصر أهمية قطاع البناء على الأرقام والبيانات الاقتصادية ولكن أيضا اظهر أحدث استطلاع للراي للمواطنين الألمان التقييم العالي للقطاع لدى الألمان، وبحسب استطلاع للرأي اجري في إطار دراسة أعدها معهد Allensbach للديموغرافيا بتكليف من الاتحاد الألماني للصناعة (BDI) والاتحاد الألماني لصناعة البناء (ZDB) في أبريل 2024م، تُعتبر صناعة البناء بعد صناعة السيارات والحرف اليدوية، من أهم القطاعات الاقتصادية في ألمانيا، وفقًا لرأي المواطنين البالغين من العمر 16 عامًا فما فوق. حيث اعتبر 74 في المئة من المشاركين أن قطاع البناء هو من القطاعات الهامة في ألمانيا، مما يجعله يحتل المرتبة الثالثة بعد صناعة السيارات (83 في المئة) والحرف اليدوية (78 في المئة). ووفقاً للدراسة يعتقد 91 في المئة من المشاركين فيها أن مستقبل الاقتصاد الألماني يعتمد بشكل كبير على بنية تحتية قوية. ومن بين المجالات التي تحتاج إلى تحسين، جاء بناء المساكن الجديدة في المرتبة الثالثة بنسبة 83 في المئة، بعد قطاعي الصحة والتعليم. كما حظيت أولوية توسيع شبكة النقل العام بنسبة 76 في المئة، بينما حصلت مشاريع ترميم وصيانة الجسور وتجديد وتوسيع شبكة السكك الحديدية على نسبة 75 في المئة. ويرى 70 في المئة، أهمية إنشاء محطات للطاقة المتجددة مثل مزارع الرياح والألواح الشمسية ومحطات الطاقة الكهرومائية.
هيكل قطاع البناء
قطاع الإسكان كان وما زال يمثل الجزء الأكثر أهمية في صناعة البناء، حيث استحوذ في عام 2023م، على 61 في المئة من إجمالي الاستثمارات في البناء. أما البناء العام (المرتبط بالحكومة)، مثل مشاريع بناء الطرق والجسور واعمال تطوير البنية التحتية الأخرى، فقد شهد تراجعًا كبيرًا على المدى الطويل، ليشكل فقط 12.1 في المئة من النشاط الإنشائي. في المقابل، حافظ البناء الاقتصادي (المرتبط بالأعمال التجارية) على استقراره النسبي بمرور الوقت، وبلغت نسبته 26.9 في المئة. يشمل هذا القطاع أيضًا المشروعات التي تنفذها شركات مثل Deutsche Bahn (السكك الحديدية الألمانية) وDeutsche Telekom، (شركة الاتصالات الألمانية)، إلى جانب شركات المرافق العامة المحلية التابعة للبلديات، عندما تعمل كجهات قانونية مستقلة في السوق.
العوامل المؤثرة على أعمال شركات البناء
بعد ان كانت علامات التعافي قد ظهرت على قطاع البناء في ألمانيا عقب ازمة كورونا من خلال ارتفاع الطلب على المساكن وعلى البناء التجاري، تسببت الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت نهاية شهر فبراير 2022م، في فرض العديد من التأثيرات السلبية على القطاع جراء ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم المتزايد، حيث شهدت أسعار المواد الأولية والطاقة زيادات قياسية. وبلغت نسبة الغاء الطلبات في القطاع في العام 2023م، نحو 23 في المئة، وهي أعلى نسبة تم تسجيلها على الإطلاق.
والى جانب هذه الأسباب التي فرضت العديد من الصعوبات على الشركات العاملة في قطاع البناء ساهمت أيضا عوامل إضافية، قد تكون أكثر تعقيدًا واطول مدى، في فرض حالة من الازمة تعيشها في الوقت الحاضر اغلب شركات القطاع والتي من أهمها:
1 – نقص العمالة المتخصصة:
يشهد قطاع البناء الألماني نقصًا حادًا في العمالة، وهي أزمة باتت تهدد بعرقلة مشاريع البناء وزيادة تكاليفها بشكل كبير. تعود هذه المشكلة إلى عدة عوامل مترابطة تشمل شيخوخة القوى العاملة، وانخفاض أعداد المتدربين، وصعوبة جذب الكفاءات الجديدة للعمل في قطاع البناء، إضافة إلى التحديات الاقتصادية التي جعلت بيئة العمل في القطاع أقل جاذبية.
ومن أبرز العوامل التي ساهمت في نقص العمالة هو الشيخوخة القوى العاملة. إذ يبلغ متوسط عمر العمال في قطاع البناء حوالي 45 عامًا، مع نسبة كبيرة منهم تتجه نحو التقاعد خلال العقد المقبل. يترك هذا الوضع فجوة كبيرة في الخبرات التي لا يمكن ملؤها بسهولة. إضافة إلى ذلك، يعاني القطاع من ضعف الإقبال على التدريب المهني بين الشباب، إذ تُعتبر المهن في قطاع البناء شاقة وتتطلب جهدًا بدنيًا كبيرًا، مما يجعلها أقل جاذبية بالمقارنة مع مهن أخرى، خاصة في بيئة العمل التنافسية التي توفرها القطاعات التكنولوجية والخدمية. كما أن نقص العمالة المتخصصة يعكس بشكل مباشر الانخفاض الكبير في الأيدي العاملة الأجنبية بسبب تداعيات أزمة كوفيد-19 وتقييد حركة الهجرة. حيث يعتمد قطاع البناء الألماني بشكل كبير على العمالة المهاجرة، لا سيما من دول اوروبا الشرقية ودول البلقان.
تعتبر أيضًا الظروف الاقتصادية وتذبذب تكاليف البناء وارتفاع أسعار المواد من بين العوامل التي ساهمت في صعوبة جذب العمالة الجديدة. فالزيادة في تكاليف المعيشة، إلى جانب الزيادة في أسعار المواد الأولية وأجور العمالة، أضافت عبئًا إضافيًا على شركات البناء التي باتت مضطرة لزيادة أجور العمال لجذبهم، مما يرفع من كلفة المشاريع النهائية. كما أن ضغوط الأعمال الكبيرة والمواعيد الزمنية الضيقة تجعل ظروف العمل في البناء مرهقة، مما يقلل من جاذبيته لدى الكثيرين.
هذه العوامل ادت إلى تأثيرات سلبية على الإنتاجية ومستوى جودة الأعمال، حيث تشير الدراسات إلى زيادة معدلات التأخير في تسليم المشاريع، إضافة إلى زيادة التكاليف بنسبة تصل إلى 20 في المئة بسبب نقص العمالة وارتفاع أجور العمال المتخصصين. وفي ظل زيادة الطلب على المساكن والبنية التحتية، فإن استمرار النقص في العمالة قد يؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي العام لألمانيا، حيث يشكل قطاع البناء جزءًا أساسيًا من الاقتصاد ككل.
وللتعامل مع هذه المشكلة، بادرت بعض الشركات إلى الاستثمار في التقنيات الحديثة مثل الروبوتات والذكاء الاصطناعي لتقليل الاعتماد على العمالة البشرية، إلا أن هذا الحل ليس كافيًا في الوقت الحالي، حيث تحتاج هذه التقنيات لسنوات لتكون بديلاً فعالًا. فيما تسعى الحكومة الألمانية إلى تشجيع التدريب المهني في قطاع البناء من خلال تقديم حوافز للمتدربين، إلى جانب تشجيع الهجرة المنظمة لجذب العمالة الأجنبية.
2 – التمويل العقاري وارتفاع سعر الفائدة:
ظلت الفائدة المنخفضة على القروض العقارية طوال السنوات التي فرض فيها البنك المركزي الأوروبي الفائدة القياسية عند صفر في المئة في منطقة اليورو، أحد الأسباب الرئيسية في الازدهار الذي شهده قطاع البناء قبل ازمة كورونا، حيث ساهمت الشروط الميسرة والملائمة للتمويل العقاري، في تشجيع الافراد والشركات على الاقتراض لبناء العقارات سواء كانت بغرض الاستخدام الشخصي للسكن او بغرض الاستثمار، الا انه وبعد ارتفاع التضخم الى ارقام قياسية في منطقة اليورو وتدخل البنك المركزي الأوروبي ورفع أسعار الفائدة لمواجهة هذا التضخم ارتفعت معدلات الفائدة على الرهن العقاري الى المستوى الذي دفع بالكثيرين الى الغاء المشاريع الخاصة بهم للبناء او على الأقل تأجيلها وهو ما تسبب في انخفاض كبير في الطلب في سوق العقارات بل وحتى تسبب في موجة كبيرة من الغاء الطلبات.
وعلى الرغم من تراجع معدلات التضخم في منطقة اليورو وقيام البنك المركزي الأوروبي بخفض أسعار الفائدة وتحسن شروط الإقراض مرة أخرى بشكل نسبي، الا انه لم يكن لخفض الفائدة نفس الاثار الإيجابية على قطاع البناء، بل على عكس ما هو مفترض ارتفعت الفائدة على القروض العقارية بعد أسبوعين من أول خفض في سعر الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي (ECB) منذ عام 2019م. وتشير شركة الاستشارات المالية Max Herbst (FMH)، ان القيمة الوسطية للفائدة على القروض العقارية تبلغ في الوقت الحاضر 3.66 في المئة مع تثبيت الفائدة لمدة عشر سنوات. فيما كانت هذه القيمة في بداية العام الحالي 3.60 في المئة. ويصف ممولو البناء والمستشارون الماليون خفض الفائدة الذي تم حتى الآن بأنه «غير كافٍ» ليكون له تأثير فعلي في السوق. بالإضافة إلى ذلك، فإن سعر الفائدة الرئيسي الذي خفضه البنك المركزي الأوروبي هو ما يسمى بـ «سعر إعادة التمويل الرئيسي». والذي بموجبه يمكن للبنوك التجارية اقتراض المال من البنك المركزي الأوروبي لمدة أسبوع على الأقل، ويعتبر هذا قرض قصير الأجل جداً، وليس له علاقة تذكر بالتمويل العقاري طويل الأجل.
بالإضافة الى ذلك تحدد السندات والرهون العقارية سعر الفائدة للقروض العقارية، وتوضح شركة (FMH) ان « أسعار الفائدة في قطاع البناء تعتمد أكثر على معدلات الفائدة التي يكون المستثمرون مستعدين لإقراض الحكومة الألمانية من خلالها في شكل سندات حكومية لمدة 10 سنوات»، وقد ارتفعت عوائد السندات الحكومية الألمانية ذات العشر سنوات منذ بداية العام من 2.1 في المئة إلى 2.43 في المئة، وهذا الارتفاع له أيضًا تأثير على أسعار الفائدة على السندات العقارية، التي غالبًا ما تستخدمها البنوك لتمويل القروض العقارية التي تقدمها. وهذا يعني انه إذا ارتفعت هنا الفوائد، ترتفع أيضًا فوائد القروض العقارية.
3 – رقمنة صناعة البناء والتشييد
يعد التحول الرقمي جزءا مهما من شروط البقاء ناجحا حتى في أوقات الأزمات. ولكن في هذا المجال هناك خيبة أمل بين شركات البناء والمخططين. فبحسب نتائج استطلاع أجرته شركة PwC للاستشارات المالية والإدارية في ألمانيا وشمل 100 شركة إنشاءات ومخططين ومديري مشاريع. يرى ما يقرب من نصف الذين شملهم الاستطلاع (45 في المئة) أن مستوى الرقمنة في صناعة البناء والتشييد الألمانية مرتفع، ولكن هذا أقل بثلاث نقاط مئوية عما كان عليه في العام 2023م. وقد أعطى المشاركون في الاستطلاع لأنفسهم علامات جيدة لرقمنة عملياتهم الإدارية وعمليات المشاريع. ومع ذلك، ترى 55 في المئة من الشركات ضرورة اللحاق بالركب عندما يتعلق الأمر برقمنة عملياتها التشغيلية، وعند استخدام الحلول الرقمية مثل المسح بالليزر أو الواقع الافتراضي، فإن الرقم يصل إلى الثلثين.
كما قيم المشاركون في الاستطلاع إمكانات التقنيات الرقمية لصناعة البناء والتشييد على أنها عالية. ومع ذلك، مقارنة بالعام الماضي، يبدو أن الأهمية قد انخفضت. على وجه الخصوص، من الواضح أن حلول المحاكاة والتصور أو نمذجة معلومات البناء (BIM) تفقد أهميتها، فقط 72 و63 في المئة ممن شملهم الاستطلاع يشهدون على أن هذه التقنيات ذات أهمية كبيرة، وهذا أقل بنسبة 16 نقطة مئوية عن العام السابق. في الوقت نفسه، قيّم المشاركون أيضًا مهاراتهم في التعامل مع التقنيات الرقمية بأنها أضعف مما كانت عليه في العام السابق، فقد أعطى المشاركون أنفسهم درجات أقل مما كانوا عليه في العام السابق، لا سيما في مجالات التقنيات والمنصات السحابية.
وخلصت الدراسة التي أجرتها شركة PwC، إلى أن أكبر عقبة أمام استخدام الحلول الرقمية هي المعرفة التقنية ونقص العمال المهرة في المجال التقني وأمن المعلومات، وهو ما ذهب أليه 85 في المئة ممن شملهم الاستطلاع. كما يرى 77 في المئة من المشاركين في الاستطلاع أيضًا أن الأمن السيبراني يمثل وبشكل متزايد تحديًا جديًا امام شركات البناء.