تعد عمليات وصفقات الاستحواذ والاندماج ظاهرة اقتصادية عالمية لا تقتصر على دولة دون أخرى، وان كانت تأخذ في بعض الأوقات شكلا أكثر كثافة وحضورا في بعض القطاعات او الاقتصاديات، كما هو حاصل في اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى، والتي لا تقتصر فيها عمليات وصفقات الاستحواذ على المستثمرين المحليين بل تشمل أيضا المستثمرين من دول العالم المختلفة. وبالمجمل تمثل صفقات الاستحواذ ظاهرة اقتصادية لها مردوداتها الإيجابية بشكل عام على حركة الاقتصاد وتطور قطاعاته المختلفة، فظهور مجموعات اقتصادية عملاقة ذات قدرات مالية وصناعية كبيرة سينعكس بالضرورة على نمو الاقتصاد الكلي وعلى تحسين شروط المنافسة وعمليات التطوير حتى مع وجود مخاطر تسرب التكنولوجيا للاقتصاديات المنافسة. كما ان زيادة حجم صفقات الاندماج والاستحواذ يعكس الديناميكية التي يتمتع بها الاقتصاد ومستوى النمو بالإضافة الى القدرة الابتكارية التي يتمتع بها، اما في حالة انخفاض حجم هذه الصفقات فيؤشر ذلك الى الصعوبات التي تواجه الاقتصاد وتراجع جاذبيته للاستثمارات الأجنبية.
وتعرف عملية الاستحواذ بانها السيطرة المالية والإدارية لاحد الشركات على نشاط شركة أخرى، وذلك عن طريق شراء كل او نسبة من الأسهم العادية التي لها حق التصويت في الجمعية العامة للشركة المستحوذ عليها سواء تم شراء الأسهم بالاتفاق مع الإدارة الحالية او بدون. ويمكن هنا التفريق والتمييز بين عمليات الاستحواذ والاندماج في نتائج العملية، فاذا نتج عن اتفاق شركتين شركة جديدة سمى ذلك بالاندماج اما إذا كانت العملية شراء شركة لاسهم شركة أخرى مع بقاء كيانها القانوني على ما هو علية اعتبرت العملية عملية استحواذ.
الإيجابيات والتحديات الناتجة عن صفقات الاستحواذ
تمثل عمليات الاستحواذ بالنسبة للمستثمرين عمليات ذات عائد اقتصادي عال، فبالإضافة الى انها تمثل توظيفا مجدياً ومجزياً للفوائض المالية التي حققتها الشركات والمؤسسات التي يتبعونها، فهي تتيح لهم كذلك توسيع عملياتهم التجارية وفتح أسواق جديدة سوآءا لنشاطاتهم او حتى للخدمات والسلع التي تنتجها شركاتهم الأصلية، خصوصا في مواجهة الإجراءات الحِمائية التي تتبعها بعض الدول للحفاظ على القدرة التنافسية للشركات والمؤسسات المحلية العاملة في مختلف قطاعات اقتصاداتها، ناهيك عن عمليات نقل التكنولوجيا والخبرات التي تنتج عن عمليات الاستحواذ التجاري والتي تمثل في كثير من الأحيان الهدف الأساسي من عمليات الاستثمار في صفقات الاستحواذ والسيطرة على إدارة الشركات الأجنبية.
في الجانب الاخر تعد صفقات الاستحواذ بالنسبة للشركات المبيوعة عملية ضخ مزيد من رأس المال والسيولة النقدية من اجل تمويل عمليات التوسع في النشاط والإنتاج وفتح أسواق جديدة او كذلك في إطار تطوير الإنتاج او إضافة منتجات جديدة الى خط التصنيع. من جهة أخرى تعد عملية بيع الشركات او جزء كبير من أسهمها عملية انقاذ لهذه الشركات من صعوبات مالية تواجهها او حتى، في كثير من الحالات، منفذ للنجاة وحماية للشركات من مخاطر الإفلاس. وبشكل عام فان الاستثمارات الأجنبية في أي اقتصاد سوآء أتت في شكل استثمارات مباشرة في انشاء مشاريع ومؤسسات جديدة او أتت في شكل صفقات استحواذ وسيطرة على مؤسسات وشركات قائمة فعلا، فإنها تمثل عنصرا إيجابيا يسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وفي الحفاظ على الوظائف وكذلك في خلق فرص عمل جديدة. إلا ان صفقات الاستحواذ التجاري لا تخلوا من مخاطر وسلبيات ليس اقلها عمليات التهرب الضريبي، الى جانب مخاطر حصول دول اجنبية على مزيد من النفوذ والقدرة على التأثير في الاقتصاد المحلي.
الاستحواذ والاندماج في الاقتصاد العالمي
يمثل نشاط الاستحواذ والاندماج واحدا من اهم الأنشطة الاقتصادية من حيث القيمة، فبحسب معهد عمليات الاندماج والاستحواذ والتحالفات (IMAA)، بلغت قيمة هذا النشاط الاقتصادي على مستوى العالم منذ العام 2000م وحتى العام 2023م، أكثر من 57 ترليون دولار امريكي. وبلغت ذروة قيمة نشاط الاستحواذ والاندماج على المستوى العالمي في العام 2021م، والذي جرت فيه أكثر من 58 ألف صفقة بقيمة اجمالية 5235 مليار دولار. وقد تراجعت قيمة صفقات الاستحواذ على مستوى العالم خلال السنوات 2022م و2023م، بشكل متزايد بسبب الازمات الاقتصادية الناتجة عن النزاعات الجيوسياسية حيث بلغ مجموع قيمة هذه الصفقات العام 2022م، نحو 3384 مليار دولار وتراجعت في العام 2023م الى حوالي 2495 مليار دولار. وكان سوق أمريكا الشمالية هو الأكبر من حيث قيمة الصفقات على مستوى العالم بقيمة 1666 مليار دولار وجاءت أوروبا الغربية في المركز الثاني بقيمة صفقات في العام 2023م بلغت 1119 مليار دولار، فيما بلغت قيمة صفقات الاستحواذ والاندماج في اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في نفس العام حوالي 429 مليار دولار.
نشاط الاندماج والاستحواذ في السوق الألمانية 2023م
سجلت عمليات الاندماج والاستحواذ في ألمانيا العام 2023م، تراجعًا كبيرًا مقارنة بالعام 2022م، حيث اظهر تقرير لشركة LSEG لخدمات البيانات، إن حجم الصفقات التي تشمل الشركات الألمانية تراجع بنسبة 29 في المئة في عام 2023م، مقارنة بالعام الذي سبق. ويتركز هذا التراجع في صفقات الاستحواذ والاندماج بدرجة رئيسية على الصفقات التي تقوم بها الشركات الألمانية في السوق المحلية والتي تراجعت الى أدني مستوى لها منذ عام 2019م بانخفاض بنسبة الثلث كما تراجعت عمليات الاستحواذ التي تقوم بها الشركات الألمانية في الخارج.
وبشكل عام بلغ مجموع قيمة صفقات الاستحواذ والاندماج التي كانت الشركات الألمانية طرفا فيها خلال العام 2023م أكثر من 100 مليار دولار امريكي. ومن ضمن هذا المبلغ كان 23.7 مليار دولار امريكي قيمة صفقات استحواذ واندماج قامت بها شركات ألمانية لشركات اجنبية، وتركزت صفقات الشركات الألمانية في الخارج في الدنمارك بقيمة 4.4 مليار دولار، الهند 3.5 مليار دولار، الولايات المتحدة الامريكية 3 مليار دولار، فرنسا 2.7 مليار دولار، بريطانيا 2.3 مليار دولار، البرازيل 1.5 مليار دولار وكذلك سويسرا بقيمة صفقات بلغت مليار دولار. في المقابل بلغت قيمة صفقات الاستحواذ والاندماج التي قامت بها شركات اجنبية لشركات ألمانية في العام 2023م، حوالي 50.5 مليار دولار امريكي. وقد جاءت الشركات الامريكية على رأس قائمة هذه الشركات بإجمالي قيمة صفقات بلغ 27.1 مليار دولار تليها، وبفارق كبير، الشركات الاسبانية بقيمة صفقات 5.4 مليار دولار ومن ثم بريطانيا 4.8 مليار دولار، استراليا 2.8 مليار دولار، تايوان 1.7 مليار دولار، سويسرا 1.5 مليار دولار، السويد 1.3 مليار دولار وكذلك الهند التي ابرمت شركاتها صفقات اندماج واستحواذ على شركات ألمانية بقيمة مليار دولار.
وتمثل صفقة استحواذ شركة Carrier Global الامريكية على شركة Viessmann لتكنولوجيا التدفئة من المجموعة الألمانية التي تحمل نفس الاسم مقابل 12 مليار يورو، أكبر صفقة استحواذ في السوق الألماني العام 2023م كما انها أيضا تعد أكبر صفقة استحواذ شركة اجنبية على شركة ألمانية. وتتمثل ثاني أكبر عملية استحواذ قامت بها الشركات الألمانية في بيع مجموعة البرمجيات الألمانية SAP حصتها البالغة 71 في المئة من أسهم شركة Qualtrics الامريكية مقابل 7.7 مليار دولار للمستثمر المالي سيلفر ليك وصندوق التقاعد الكندي CPPIB. كما تصنف صفقة استحواذ شركة Deutsche Börse الالمانية على شركة Simcorp الدنماركية المتخصصة في البرمجيات المالية، بقيمة 3.9 مليار يورو ثالث أكبر صفقة استحواذ تجريها شركة المانية العام 2023م وأكبر استحواذ لشركة ألمانية على شركة أجنبية.
في المركز الرابع في قائمة أكبر صفقات الاستحواذ في السوق الألماني العام 2023م، جاءت صفقة بيع مجموعة التكنولوجيا الصيدلانية والطبية الأمريكية باكستر إنترناشيونال، لقسم الأدوية الحيوية التابع لها للمستثمرين الماليين Advent وWarburg Pincus. ويدخل ضمن القسم المباع شركة Baxter Oncology الألمانية التي تمتلكها المجموعة الامريكية والتي تبلغ قيمتها ثلاث مليارات يورو.
أسباب تراجع صفقات الاستحواذ والاندماج في السوق الألماني
يعيد الخبراء أسباب تراجع قيمة صفقات الاندماج والاستحواذ في السوق الالماني في العام 2023م الى عدة أسباب أهمها الازمات الجيوسياسية التي عاشها ويعيشها العالم والتي أثرت بشكل ملحوظ على النمو الاقتصادي في العديد من الدول والتي من أبرزها ألمانيا، والتي عانت أيضا من تراجع جاذبيتها للاستثمارات الأجنبية بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والإجراءات البيروقراطية بالإضافة الى ذلك كانت بيئة التمويل غير المؤكدة الى جانب اختلاف تحديد قيمة الشركات المعروضة للبيع دور اساسي في تراجع عمليات الاستحواذ في السوق الألماني.
في جانب تراجع ألمانيا كموقع جاذب للاستثمارات الأجنبية أظهرت دراسة لمعهد الاقتصاد الألماني (IW) ان الاستثمارات الاجنبية الداخلة الى الاقتصاد الألماني في العام 2023م قد وصلت الى أدني مستوى لها منذ العام 2014م، وحذر Michael Hüther مدير المعهد من ان ألمانيا تتراجع في مجال التنافسية على المستوى العالمي مشيرا الى انه «في ظل التكاليف المرتفعة والبيروقراطية المرهقة والبنية التحتية المعطلة، تفكر الشركات الأجنبية مرتين قبل الاستثمار في ألمانيا».
فيما يتعلق بعمليات تمويل عمليات الاستحواذ كان لتطور أسعار الفائدة في العام 2023م دور حاسم في تراجع هذه العمليات حيث أحجمت البنوك عن إبرام صفقات تمويل لاتفاقيات الاندماج والاستحواذ لأنه لم يكن من الواضح كيف ستتطور أسعار الفائدة، بعد ان شهدت هذه الأسعار ارتفاع كبيرا خلال عامي 2022م و2023م، وبدأ أثرها يظهر في خفض معدلات التضخم وبالتالي تضارب التوقعات حول إمكانية خفض البنوك المركزية لأسعار الفائدة او استمرار احتمال رفعها مرة أخرى. وتلعب البنوك دورا رئيسيا في تمويل صفقات الاندماج والاستحواذ وتعد أيضا في الوقت نفسه من اهم المستفيدين من هذه العمليات عبر العمولات ورسوم العمليات المصرفية الى جانب الأرباح المتأتية من أسعار الفائدة.
كذلك أدت وجهات النظر المختلفة حول تحديد أسعار الشركات إلى إبطاء اجراء الصفقات، حيث لا يزال البائعون يقيمون شركاتهم بأسعار أعلى بكثير عما كانت عليه قبل عامين، بينما يركز المشترون على الظروف الاقتصادية السارية حاليا والضعف الذي اصاب النشاط الاقتصادي مما يؤدي الى خفض تقييمهم لأسعار الشركات المعروضة للبيع، وقد ادي عدم اتفاق الطرفين في كثير من الحالات الى تأجيل ان لم يكن الغاء العديد من صفقات الاندماج والاستحواذ.
مستقبل عمليات الاستحواذ
وفقا لخبراء عمليات الاندماج والاستحواذ فان العام 2024م سيكون أفضل على المستوى العالمي من العام 2023م، فمن ناحية يُتوقع ان تخفض البنوك المركزية سواء في الولايات المتحدة او منطقة اليورو من أسعار الفائدة وهو ما سيحسن من شروط تمويل عمليات الاستحواذ، بالإضافة الى ذلك فمن المرجح أن يكون التوسع في الولايات المتحدة الأمريكية هو المحرك الرئيسي لعمليات الاستحواذ التي ستقوم بها الشركات الألمانية في العام 2024م، حيث لا ترغب الشركات الألمانية في الوصول إلى أكبر اقتصاد في العالم فحسب بل ترغب أيضًا في الاستفادة من ديناميكيات النمو في هذا الاقتصاد فبينما يتوقع الباحثون الاقتصاديون نموًا مقيدًا لأوروبا في عام 2024م، إذ من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بشكل ملحوظ.
كما يُتوقع ان يكون الوصول إلى التكنولوجيا المحرك الرئيسي لنشاط الصفقات حيث ستكون هنالك الكثير من الحركة في مجال عمليات الاندماج والاستحواذ في قطاع التكنولوجيا خصوصا في مجالات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والأمن السيبراني والتي ستكون محور عمليات الاندماج والاستحواذ التكنولوجية في عام 2024م.