هيلموت فون شتروفيه، الرئيس التنفيذي لشركة سيمنس في الشرق الأوسط

لا يتكيف الشرق الأوسط فقط مع التوسع الهائل والسريع في النمو الحضري، ولكنه يضع قواعد التوسع المستدام للمدن من أجل المستقبل.

ينتقل سكان العالم بأعداد هائلة للعيش في المدن بمعدلات غير مسبوقة، حيث تشير التقديرات أن ما يقرب من 70 في المئة من السكان سيعيشون في مراكز حضرية ومدن بحلول عام 2050م. وتلقي هذه الأرقام والإحصائيات الضوء على حجم التحديات المرتبطة بكيفية الإدارة المستدامة والتعامل بفعالية مع هذه الكثافات السكانية التي تنتقل بمعدلات مطردة للعيش في المدن. ويمكن التعامل مع هذه التحديات من خلال الاعتماد على حلول مبتكرة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تشهد انتشارًا واسعًا لحلول البنية التحتية الذكية، والتي تستهدف الدول من ورائها تحقيق نقلة نوعية في أساليب الحياة وإدارة المدن في المنطقة.

إنّ مدن مثل أبو ظبي والدوحة ودبي لم تتكيف فقط مع هذه المعطيات والحقائق الجديدة، ولكنها تساهم بشكل مباشر في خلق حلول مستدامة لإدارة المدن بذكاء وكفاءة غير مسبوقة. لقد تحولت هذه المدن وغيرها لنماذج رائدة للمدن الذكية، حيث تأتي في طليعة مدن المنطقة من حيث التقدم والتطور والاعتماد على التكنولوجيا في تطوير البنى التحتية وتحسين حياة المواطنين والمقيمين. ليس هذا فقط، ولكن استطاعت المشروعات الطموحة التي يتم تنفيذها في تلك المدن، وضع معايير المدن الذكية والحياة الحضرية المتطورة على مستوى العالم، والاستفادة من الحلول التكنولوجية المبتكرة في تحسين الوظائف والعمليات التشغيلية المختلفة في المدن، بما في ذلك النقل والمواصلات واستهلاك المياه والمحافظة على الطاقة وغيرها.

بالإضافة لذلك، تبذل حكومات وبلديات كبرى مدن المنطقة الأخرى جهودًا كبيرة في تطوير المدن الذكية ومستدامة، بما في ذلك-على سبيل المثال-مدن مسقط ونيوم وجدة والكويت والرياض وعمّان. إنّ الحكومات والإدارات البلدية في تلك المدن تولي التكنولوجيا اهتمامًا خاصًا نظرًا لدورها في تحويل المدن الحالية والجديدة لمدن أكثر كفاءة واستدامة وراحة لجميع السكان. ويجب الإشارة هنا إلى أن مبادرات المدن الذكية في دول المنطقة تتميز بتكاملها، حيث تتضمن كافة مكونات الحياة في المدن، بما في ذلك نظم إدارة المرور التي يمكنها القضاء على الاختناقات المرورية والانبعاثات الكربونية بصورة لحظية، وشبكات الطاقة الذكية التي تعمل على تحسين معدلات استهلاك الطاقة في جميع أنحاء المدينة وخفض الآثار السلبية على البيئة وتحسين الاستدامة. إنّ هذا التحول الجذري في أساليب وطرق إدارة المدن الذكية يعتمد بشكل رئيسي على تطبيق منهج متكامل يمكنه دمج كم هائل من البيانات المتنوعة والحلول التكنولوجية معًا، لتقديم تجربة سلسة للحياة في المدن.

التكنولوجيا تحفز الاستدامة

ولا يتمثل الهدف من هذه الابتكارات في خلق مدن أكثر كفاءة فقط، ولكن تسعى هذه الابتكارات والحلول لإقامة مدن مستدامة وذكية. فمع توسع المدن باستمرار، يؤدي ضعف الموارد والبنى التحتية لظهور العديد من التحديات البيئية، ولذلك تعمل حلول البنية التحتية الذكية على إيجاد مسار آخر للاستمرار في التشغيل بأساليب مستدامة. فعلى سبيل المثال، يمكن للمباني ومنشآت البنية التحتية التي تعتمد على تكنولوجيا إنترنت الأشياء تقليل استهلاك الطاقة وإدارة المخلفات بكفاءة، والمساهمة في تحقيق أهداف خفض الانبعاثات الكربونية للمدن، وكذلك تحقيق أهداف الاستدامة.

ويمتد مفهوم المدن الذكية في الشرق الأوسط لأبعد من مجرد تبني الحلول التكنولوجية الحديثة، حيث يتضمن هذا المفهوم إعادة التفكير في شكل الحياة داخل المدن بصورة شاملة، ووضع تصور للمدن المتصلة من خلال التكنولوجيا وزيادة قدرتها على التكيف مع الاحتياجات السكانية والبيئية. إنّ هذه الرؤية للمدن المعرفية، والمقصود بها المدن والمراكز الحضرية القادرة على التعلم والتكيف، تمثل الجيل التالي من منهج التنمية الحضرية في المنطقة.

ولكي نتمكن من تحقيق هذه الأهداف الطموحة، يجب تفعيل التعاون والشراكات بين العديد من القطاعات على مستوى الدولة. فالشراكات بين القطاعين العام والخاص تمثل عنصرًا حاسمًا في هذا الشأن، لأنها توفر إطارًا عامًا واضحًا ومحددًا للتعاون يعتمد على مواطن القوة والتميز لكلا الطرفين. فالحكومات توفر الدعم التنظيمي والتوجهات الاستراتيجية، بينما تتولى شركات القطاع الخاص بما فيها الشركات التكنولوجية مثل سيمنس، توفير الحلول والابتكارات التكنولوجية والخبرات الفنية المطلوبة. فعلى سبيل المثال، شاركت سيمنس وسيمنس أدفانتا، قطاع الاستشارات التابع لسيمنس، في العديد من المشروعات الإقليمية الهامة التي ساعدت دول المنطقة على تبسيط العمليات التشغيلية في العديد من المجالات، ودمج مصادر الطاقة المتجددة ضمن شبكات الطاقة الوطنية بكل سلاسة، وهو ما يؤكد مدى أهمية الشراكات في تحويل السياسات والرؤى لحلول ملموسة على أرض الواقع.

البنية التحتية الذكية

وفي إطار هذه المبادرات على المستوى الوطني، لعبت سيمنس دورًا محوريًا في العديد من المشروعات الرئيسية، حيث أصبحت حلولنا المتطورة في مجال تكنولوجيا شبكات الطاقة الذكية من أهم الحلول التي تعتمد عليها المدن لدمج مصادر الطاقة المتجددة ضمن شبكات الطاقة الوطنية وتحسين كفاءة الطاقة في المدن. بالإضافة لذلك، تساهم نظم إدارة المباني من سيمنس في تحويل المباني التقليدية لمبانٍ أكثر كفاءة في استخدام الموارد، مع تحسين مستويات الراحة والأمان للمقيمين بها.

وهنا يجب التأكيد على أن التحول الرقمي يمثل عاملًا رئيسيًا في جعل البُني التحتية للمدن أكثر كفاءة واستدامة. إنّ أحد أهم أولويات سيمنس يتمثل في وضع معايير عملية للكفاءة والاستدامة بحيث تكون مناسبة للمباني والحرم الجامعي والمناطق والمدن. ولهذا السبب أطلقت سيمنس منصة Building X التي تمثل منصة مفتوحة للحوسبة السحابية تعتمد على حلول الذكاء الاصطناعي وتمثل أحد مكونات محفظة حلول سيمنس Xcelerator. لقد تم تصميم منصة Building X لتوحيد إدارة الطاقة والأمن والعمليات التشغيلية للمباني في إطار واحد يتولى جمع وتحليل وإدارة البيانات. وتدعم هذه المنصة أهداف وإنجازات صافي الانبعاثات الصفرية للمباني، عن طريق تقديم رؤى متكاملة وعميقة لاستخدامات الطاقة والكفاءة التشغيلية، من أجل تعزيز استدامة المدن في المستقبل.

وتوفر هذه المنصة سلسلة من التطبيقات القياسية التي تلبي احتياجات محددة للعديد من الأطراف، بما في ذلك مستثمري ومديري المباني والمنشآت. ويضمن هذا المستوى من المرونة تحسين مستويات الأداء والاستدامة لكافة العمليات التشغيلية لإدارة المباني، بما في ذلك استهلاك الطاقة والخدمات الأمنية وغيرها. وكمثال على استخدامات تلك المنصة، يعتمد مشروع سعديات غروف في أبو ظبي، والذي تطوره شركة الدار، على هذه المنصة التي سيتم نشرها في المنطقة قريبًا.

المصانع الذكية

ومع استمرار دول الشرق الأوسط في تطوير وتحديث مدنها ومناطقها الحضرية، أصبح من الضروري دمج التوسع الصناعي مع التنمية الحضرية بسلاسة. فمصانع المستقبل يجب أن تكون ذكية ومستدامة، وهو مفهوم يتم تطبيقه حاليًا بدرجات متفاوتة في المنطقة.

وفي المملكة العربية السعودية التي تشهد حاليًا ثورة رقمية متكاملة تتضح بجلاء من خلال الاستراتيجية الوطنية للتصنيع بالمملكة، نجد أن هناك عدد كبير من الجهود والمبادرات التي تتم في السعودية حاليًا لدعم تلك الرؤية. ومن بين الأمثلة على تلك المبادرات التعاون بين سيمنس والشركة السعودية للقهوة التي يدعمها صندوق الاستثمارات العامة في السعودية. لقد تعاونت الشركتان في إقامة مصنع ذكي في منطقة جازان يعتمد على الحلول التكنولوجية المتطورة من سيمنس في مجالات الإمدادات الكهربائية للمصنع، وحلول التشغيل الآلي والتحول الرقمي. يتضمن هذا المشروع أيضًا عددًا من مبادرات الاستدامة مثل تكنولوجيا احتجاز الكربون وحلول الطاقة المتجددة والإدارة المسؤولة لموارد المياه وحلول التعبئة الصديقة للبيئة.

ويمثل التعاون بين شركة مطلق الغويري للمقاولات وسيمنس مثالًا آخر على الشراكات المثمرة في مجال البنية التحتية المستدامة في المملكة، حيث تقوم مطلق الغويري بتنفيذ مشروع بناء محطة لمعالجة مياه الشرب والصرف الصحي وتشغيلها آليًا في بلدة قيال بمنطقة تبوك لصالح شركة الطاقة والمياه والهيدروجين «إينووا» التابعة لمدينة نيوم. هذه المبادرة الهامة تسعى لإقامة مصدر مياه مستدام وفعال من حيث التكلفة بدون أي تفريغ للسوائل، بما يتوافق مع الأهداف البيئية طويلة الأجل في المنطقة.

وفي الإمارات العربية المتحدة، يتم تنفيذ عددًا من المشاريع الزراعية المبتكرة مثل مشروع بُستانيكا في دبي، والذي يضع تعريفًا جديدًا للزراعة الرأسية في المدن. تم تطوير بُستانيكا من خلال الشراكة بين شركتي الإمارات لتموين الطائرات و»كروب وان»، بدعم من تكنولوجيا سيمنس. يمتد بستانيكا على مساحة 330,000 قدم مربع باستثمارات تصل إلى 40 مليون دولار

يمثل بستانيكا أحد أكبر مشروعات الزراعة الرأسية في العالم، حيث ينتج أكثر من مليون كيلوجرام من الخضروات الورقية الخالية من المبيدات الحشرية والمواد الكيميائية سنويًا. وتستفيد سلاسل التوريد في شركة الإمارات لتموين الطائرات من حوالي 10 إلى 15 في المئة من منتجات بستانيكا، وهو ما يوفر لركاب الطائرات خضروات طازجة وصحية من مصادر محلية، بينما يتم توزيع باقي منتجات بستانيكا على منافذ الخدمات الغذائية ونقاط البيع بالتجزئة والفنادق والمطاعم والمقاهي. وفي غضون بضعة أشهر فقط من تشغيل المشروع، بدأت بستانيكا في توفير احتياجات 160 متجرًا للتجزئة في جميع أنحاء الإمارات، وهو ما يؤكد على إمكانية تطبيق أفضل الممارسات الزراعية الذكية والمستدامة داخل المدن الذكية.

توسيع مفهوم المدن الذكية

يمكن للعالم الاستفادة من تجربة الشرق الأوسط في مجال المدن الذكية في إطار تطلعنا جميعًا لمستقبل أفضل وأكثر استدامة. إن دمج الحلول التكنولوجية في التخطيط الحضري والعمراني يخلق مسارًا واعدًا للتنمية المستدامة يتم خلالها تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والحضري من ناحية وحماية البيئة من ناحية أخرى. وفي إطار تلك الرؤية، يمكن أن تتطور المدن الذكية لتصبح مدنًا معرفية، مما يساهم في خلق مدن تتمتع بالكفاءة والاستدامة، وتكون قادرة على التكيف والاستجابة لاحتياجات سكانها.

إنّ التزام منطقة الشرق الأوسط بهذه الرؤية يبرز قدرة الحلول التكنولوجية على تحويل المدن الذكية ومفاهيم العيش الحضري بشكل عام. إن هذه المدن المتطورة ستصبح حقولًا لاختبار أحدث الحلول التكنولوجية مثل السيارات ذاتية القيادة والروبوتات المتقدمة والجيل الجديد من حلول السلامة العامة التي تستخدم تكنولوجيا التعرف على الوجوه والتحليلات اللحظية للبيانات، من اجل تعزيز الأمن والاستجابة لحالات الطوارئ.

إنّ التمسك بمثل هذا المستقبل لن يتيح لدول المنطقة معالجة تحدياتها الحالية فقط، ولكنه سيساهم أيضًا في ظهور حركة عالمية لتحقيق المزيد من التحضر والاستدامة.

المجتمعات المستدامة

ستظل الاستدامة هدفاً أساسياً في تطوير المدن الذكية. إننا نتصور مستقبلًا تصبح فيه نظم إعادة تدوير المياه المتقدمة، والمباني عالية الكفاءة في استهلاك الطاقة، والمساحات الخضراء الواسعة، من العلامات المميزة للتطور الحضري. وحتى تتمكن هذه المبادرات من تحقيق أهدافها، يجب أن نضخ استثمارات كبيرة في الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وزيادة نسب الطاقة المتجددة ضمن مزيج الطاقة.

ولن تقتصر آثار التكنولوجيا الحديثة في المدن على الجوانب المادية فقط، ولكن سيكون لها تأثير اجتماعي ملموس. فالمدن الذكية ستكون أكثر اتصالًا وأسهل في الوصول والتنقل، مما يقلل التحديات التي تواجه ذوي الاحتياجات الخاصة ويحسن جودة الحياة لجميع السكان.

وتؤكد منطقة الشرق الأوسط للعالم-باعتبارها من المناطق الرائدة عالميًا في تطوير المدن الذكية-أن مستقبل الحياة في المدن لا يتوقف فقط على التكنولوجيا ولكنه يرتبط بشكل أكبر بقدرتنا على دمج التكنولوجيا في إطار حضري مستدام وفعال ومتكامل. ويمثل هذا المنهج الشامل في تخطيط المدن وتطويرها نموذجاً يحتذى لباقي دول العالم. إنّ مسيرتنا نحو هذا المستقبل معقدة ومليئة بالتحديات، ولكن مزايا المدن المستدامة والفعالة والمتكاملة تمثل حافزًا قويًا للابتكار والتعاون المستمر.

هيلموت فون شتروفيه
تولى فون شتروفيه منصب الرئيس التنفيذي لشركة سيمنس في الشرق الأوسط والإمارات العربية المتحدة في مايو 2020م. وخلال عقدين من الزمن في سيمنس، شغل مناصب قيادية في الإمارات العربية المتحدة وليبيا وألمانيا وباكستان. قبل منصبه الحالي، كان فون شتروفيه مديرًا إداريًا لشركة سيمنس في باكستان منذ عام 2015م. وباعتباره مهندسًا فهو من دعاة دمج التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والتصنيع الإضافي ومستقبل الأتمتة – والتي ومن المتوقع أن يخلق قيمة هائلة للاستدامة ولعملاء شركة سيمنس.