تُعرف ألمانيا بانها بلد صناعة السيارات وتحظى أنواع السيارات التي تقوم بإنتاجها بسمعة عالمية الى جانب ان صناعة السيارات تعد أكبر قطاع صناعي واهم سلعة يتم تصديرها. هذه المكانة التي تحظى بها السيارات الألمانية التقليدية مهددة بعدم الاستمرار نتيجة التغيرات الهيكلية في صناعة السيارات والاتجاه نحو صناعة السيارات الكهربائية. ان كل المميزات التي راكمتها ألمانيا في صناعة السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي من تقنيات وكفاءة وفخامة ورفاهية لا تحظى بها السيارات الكهربائية بعد، وان كانت الشركات الألمانية تعمل في هذا الاتجاه، الا انه وبالمقارنة مع بقية مصنعي السيارات الكهربائية على المستوى العالمي فما يزال امام الشركات الألمانية الكثير مما يجب ان تفعله.
الاهمية الاقتصادية لصناعة السيارات في ألمانيا
تشمل صناعة السيارات الألمانية مصنعي السيارات وموردي قطع غيار السيارات وملحقاتها ومصنعي المقطورات والشاحنات. وبحسب تقرير لوزارة الاقتصاد الاتحادية بلغ متوسط عدد العاملين المباشرين في صناعة السيارات الألمانية حوالي 786 ألف شخص في عام 2021م، أي أقل بنحو 23 ألف شخص عن العام السابق. بلغ حجم المبيعات السنوية لصناعة السيارات الألمانية حوالي 411 مليار يورو في عام 2021م. وتعد ألمانيا سادس أكبر دولة منتجة للسيارات في العالم بعد الصين والولايات المتحدة واليابان والهند وكوريا الجنوبية.
ينصب تركيز صناعة السيارات الألمانية على تصنيع سيارات الركوب (السيارات الشخصية). حيث تم تصنيع حوالي 3.1 مليون سيارة ركاب في ألمانيا في عام 2021م. يمثل هذا انخفاضًا بنسبة 12 في المئة مقارنة بالعام السابق. ومن بين هذه السيارات، تم تصدير أكثر من 2.4 مليون سيارة إلى الخارج، وهو ما يعادل حصة تصدير تبلغ 77.4 في المئة. علاوة على ذلك ينتج مصنعو السيارات الألمان عددًا أكبر من سيارات الركاب خارج ألمانيا. ففي عام 2021م، تم تصنيع أكثر من 9.1 مليون سيارة خارج ألمانيا (علامات تجارية ألمانية). هذا يتوافق مع انخفاض بنسبة 7 في المئة مقارنة بعام 2020م. وهكذا وبإجمالي انتاج يتجاوز 12.2 مليون سيارة ركاب في عام 2021م، يكون مصنعو السيارات الألمان من بين أكبر المصنعين الاساسيين في العالم.
قطاع آخر مهم في صناعة السيارات الألمانية هو صناعة المركبات التجارية. في هذا القطاع، الذي يوظف حوالي 180.000 شخص بشكل مباشر، يتم تطوير مفاهيم المركبات لحلول النقل والدعم اللوجستي بشكل خاص، لا سيما الشاحنات الخفيفة ومركبات التوزيع داخل المدن والشاحنات الثقيلة للنقل لمسافات طويلة والحافلات. وقد تم تسجيل ما مجموعه 351187 مركبة تجارية جديدة في ألمانيا في عام 2021م، بعد ان كان قد تم تسجيل 34971 مركبة في العام السابق.
تغيرات صناعة السيارات العالمية
بعد تراجع الطلب العالمي على السيارات الجديدة في عام 2020م، للعام الثالث على التوالي، تعافى سوق سيارات الركاب العالمي إلى حد ما في عام 2021م. حيث تمكنت الصين، أكبر سوق للسيارات في العالم، من زيادة حجم مبيعاتها بنحو 6.6 في المئة مقارنة بمستوى عام 2020م، بينما تراجعت مبيعات السيارات في أوروبا بنسبة 1.1 في المئة. في الولايات المتحدة، ارتفع الطلب في السوق على المركبات التجارية الخفيفة (السيارات والشاحنات الصغيرة) بنحو 3.1 في المئة. وعلى الرغم من التراجع المستمر في انتاج السيارات الألمانية الا ان قطاع صناعة السيارات الألمانية الموجهة للتصدير قد تمكن من الاستفادة من الانتعاش العالمي.
صناعة السيارات الكهربائية الألمانية
على الرغم من بدأ عدد من شركات صناعة السيارات في ألمانيا في انتاج نماذج من السيارات الكهربائية بشكل مبكر نسبيا الا ان الحديث عن تحول كبير في الصناعة والتركيز على انتاج هذا النوع من السيارات والعمل على تطوير التكنولوجيا الخاصة بها تم بشكل متأخر بالمقارنة مع صناعة السيارات في دول أخرى. وفي محاولة لتدارك هذا التأخير اقرت الحكومة الاتحادية عدد من الخطوات والاهداف من أبرزها الوصول بعدد السيارات الكهربائية في العام 2030م، الى 15 مليون سيارة. الى جانب قرار المفوضية الاوروبية بعدم الترخيص لاي سيارة تعمل بمحركات الاحتراق الذاتي بدأ من العام 2035م. كما اقرت الحكومة الألمانية بمنح مشتري السيارات الكهربائية تخفيضات واعفاءات ضريبية اضافة الى منح مكافأت نقدية.
هذه السياسة التحفيزية الى جانب ارتفاع الوعي البيئي وكذلك ارتفاع اسعار الوقود الاحفوري ساهم في ارتفاع كبير في مبيعات السيارات الكهربائية في ألمانيا، حيث تم تسجيل عدد قياسي من التسجيلات الجديدة للسيارات الكهربائية في ألمانيا، فبينما تم خلال عام 2021م، تسجيل حوالي 356 ألف سيارة بمحركات كهربائية بحتة وهو رقم قياسي غير مسبوق. تم بيع حوالي 308300 سيارة كهربائية بحلول الاول من أكتوبر 2022م، ولهذا فمن المتوقع تجاوز الرقم القياسي المسجل في العام السابق مرة أخرى.
كما تعد البنية التحتية الخاصة بنقاط شحن السيارات الكهربائية مطلبًا ومعيارا أساسيًا عند اتخاذ القرار لصالح شراء السيارة الكهربائية. وفي هذا المجال وفي عام 2021م وحده، تمت إضافة أكثر من 6000 نقطة شحن جديدة، لتصل عدد نقاط شحن السيارات الكهربائية الى أكثر من 25600 محطة شحن متاحة للسائقين.
وبشكل عام بلغ عدد السيارات الكهربائية المسجلة في ألمانيا حتى 1 أكتوبر 2022م، حوالي 840 ألف سيارة كهربائية بمحرك كهربائي بحت. كما بلغ عدد السيارات التي تعمل بمحرك هجين (محرك احتراق ذاتي تقليدي مع محرك كهربائي) وفي نفس التاريخ، الاول من اكتوبر 202م، نحو 745 ألف سيارة يمكن تصنيفها كسيارات كهربائية.
تنافسية السيارات الكهربائية في السوق الألماني
لا يقتصر التنافس بين مصنعي السيارات الكهربائية الألمان وبقية المصنعين من مختلف دول العالم على الأسواق العالمية فحسب، بل وصل الى السوق المحلي الألماني. فبالرغم من التقدم الذي تحققه الشركات الألمانية ومنه على سبيل المثال ما أعلنته شركة BMW انه من المتوقع ان تبيع ما يقرب من 245 ألف سيارة كهربائية بالكامل هذا العام 2022م، وهذا يتوافق مع زيادة بنسبة تزيد عن 130 في المئة مقارنة بعام 2021م. وقد أكد Nicolas Peter المدير المالي لشركة BMW ان صناعة السيارات الألمانية ستكون الرائدة في مجال المحركات الكهربائية وان شركة BMW « تعد رقم واحد في ألمانيا في فئتها، باستثناء Tesla». الا ان المنافسة على السوق الألمانية من مصنعين غير ألمان تتوسع بشكل أكبر.
وعلى الرغم من سعي شركات فولكس فاجن ومرسيدس بنز وأوبل نحو توسيع وتنويع منتجاتهم من السيارات الكهربائية واعلانهم عن موديل جديد بين الفترة والأخرى الا ان المشكلة تتمثل في ان العديد من المنافسين خارج ألمانيا ينمون بشكل أسرع. بل وينافسون الشركات الألمانية في السوق المحلي. فوفقاً لبيانات المكتب الاتحادي للمواصلات الآلية Kraftfahrt-Bundesamt (KBA)، وخلال فترة الأشهر السبعة الأولى من العام 2022م، الممتدة من يناير وحتى يوليو، جاءت كل ثاني سيارة كهربائية تم التصريح لها بالسير على الطرقات الألمانية من مزود أجنبي، وهو ما يعني ايضاً ان ما نسبته 50 في المئة من السيارات الكهربائية كانت من مصنعين ألمان. وبالمقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي 2021م، كان توزيع السيارات الكهربائية المصرح لها في ألمانيا، 60 في المئة من انتاج شركات ألمانية و40 في المئة من انتاج شركات اجنبية. وهو ما يعني خسارة الشركات الألمانية لجزء من السوق المحلي خلال العام 2022م. بالإضافة الى ذلك كانت المراكز الثلاث الأولى لأكثر السيارات الكهربائية مبيعاً في ألمانيا هذا العام لمصنعين أجانب، حيث حلت السيارة الكهربائية من طراز (Fiat 500e) الإيطالية في المركز الأول وسيارة (Tesla Model 3) الامريكية في المركز الثاني وسيارة (Hyundai Kona) الكورية الجنوبية في المركز الثالث، بينما حلت السيارة الكهربائية من سلسلة (VW ID.4 و ID.5.) التي تنتجها شركة فولكسفاجن الألمانية في المركز الرابع.
تنافسية السيارات الكهربائية الألمانية في الاسواق الدولية
ولا تبدوا الصورة أفضل لمصنعي السيارات الكهربائية الألمان في الأسواق الدولية وخصوصا في السوق الصيني، الذي يعد أكبر سوق للسيارات في العالم. حيث وبحسب مصرف Jefferies للاستثمار فانه ومن ضمن قائمة أكبر 28 مورد للسيارات الكهربائية في الصين، فإن شركة فولكس فاجن، بصفتها المورد الألماني الأكبر حجماً، تحتل حاليًا المرتبة السادسة فقط، فيما تحتل شركةBMW المركز الثامن عشر وشركة Mercedes المركز التاسع عشر كما تأتي شركة Audi في المركز الخامس والعشرين. وبالنسبة للعام 2022م بأكمله، لم يُظهر أي من الشركات الألمانية المصنعة للسيارات الكهربائية اتجاهًا واضحًا للنمو في سوق السيارات الكهربائية في الصين، وتظل المبيعات عند مستوى يمكن التحكم فيه، خاصة وأن شركة أوبل ألغت مؤخراً توسعها المخطط له في الصين بسبب المخاطر الجيوسياسية.
ويعيد الخبراء ضعف تنافسية السيارات الكهربائية الألمانية بالمقارنة مع بقية منتجي هذا النوع من السيارات وبالمقارنة أيضا بصناعة السيارات التقليدية الألمانية والتي تتمتع بسمعة ومكانة عالمية مرتفعة، الى عدد من العوامل من أهمها: ان أسعار السيارات الكهربائية الألمانية أعلى من نظيراتها الأخرى على الرغم من عدم وجود تميز كاف في هذه السيارات يبرر ارتفاع أسعارها. يضاف الى ذلك تركيز المصنعين الألمان على الفئات العليا من السيارات الكهربائية حيث يقدمون نماذج وموديلات متميزة، على سبيل المثال سيارة Taycan الرياضية من بورش بسعر أساسي يبلغ 88399 يورو. اما من حيث المدى والكفاءة فتعد سيارة الدفع الرباعي الكهربائية من طراز EQS التي تنتجها شركة Mercedes بلا شك واحدة من أفضل الماركات في السوق إلى جانب Lucid Air وTesla Model S Plaid. لكن من ناحية أخرى، فإن السيارات الكهربائية الأصغر والأرخص التي تنتجها الشركات الألمانية ليست مقنعة بعد، اما في فئة السيارات المتوسطة الحجم فما تزال الشركات الألمانية في طور إنشاء هياكل التوريد المناسبة. على سبيل المثال، لا تزال مرسيدس تفتقر إلى سيارة كهربائية للفئة C. هناك أيضًا فجوة في مجموعة السيارات الكهربائية التي تنتجها شركة Audi.
بشكل عام، يفضل الألمان التركيز على النماذج الكبيرة عالية الإنتاجية من السيارات الكهربائية، فيما يتم التخلص التدريجي من السيارات الصغيرة مثل VW e-Up أو Smart-Fortwo أو BMW i3. ويقول Stefan Bratzel، مؤسس ومدير مركز إدارة السيارات (CAM) «في الفئة المتوسطة، يقدم الألمان عدداً قليلاً من السيارات الكهربائية، وفي الفئات الاصغر لا شيء على الإطلاق». ويؤكد أنه «من الخطير عدم تقديم فئات وموديلات أرخص أو تقديمها فقط بشكل محدود». ويعتقد Bratzel ان «الألمان لم يبدأوا حقاً بداية جيدة في إنتاج السيارات الكهربائية، وان كل شيء يسير بشكل أبطأ مما كان متوقعاً».
الى جانب كل ذلك تواجه تنافسية السيارات الكهربائية الألمانية مزيدا من التهديدات وذلك بسبب إقرار إدارة الرئيس بايدن لقانون خفض التضخم (IRA) في منتصف أغسطس الماضي والذي يحتمل ان يتسبب في نزاع تجاري بين الاتحاد الأوروبي من جهة والولايات المتحدة الامريكية من جهة أخرى. وتنص بعض مواد القانون على قيام حكومة الولايات المتحدة بدعم الصناعة المحلية الامريكية في مجال التقنيات المحايدة مناخياً بمبلغ 400 مليار دولار، وبشكل خاص تكنولوجيا البطاريات الخاصة بالسيارات الكهربائية.
ويتركز الخلاف الأوروبي الأمريكي على مادة في قانون الحد من التضخم تمنح مزايا ضريبية لمشتري السيارات الإلكترونية إذا كانت نسبة معينة من البطارية الكهربائية تأتي من الولايات المتحدة، في مسعى من الحكومة الامريكية لتقليل الاعتماد على الصين. حيث سيحصل مشترو السيارات الكهربائية على خصم ضريبي بحد أقصى 7500 دولار إذا تم تصنيعها في الولايات المتحدة. ووفقا لهذه الفقرة يجب أن تكون بطاريات السيارات الكهربائية قد تم تصنيعها بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأمريكية. كما تنص القواعد الجديدة، واعتبارًا من العام المقبل 2023م، على وجوب أن يأتي ما لا يقل عن 40 في المئة من المعادن المستخدمة في البطاريات الكهربائية من الولايات المتحدة، على ان ترتفع هذه النسبة إلى 80 في المئة في مرحلة لاحقة. ويطالب الجانب الأوروبي بان تستفيد السيارات الكهربائية المصنعة في الاتحاد الأوروبي أيضًا من المزايا الضريبية المقدمة للسيارات المصنعة في الولايات المتحدة. وتجد ألمانيا نفسها معنية أكثر من غيرها من دول الاتحاد بهذه القضية حيث تعد الولايات المتحدة أكبر دولة مستوردة للبضائع والسلع الألمانية والتي تأتي على رأسها السيارات.
وبالرغم من ان كبريات شركات صناعة السيارات الألمانية مثل فولكسفاجن ومرسيدس بنز و BMW تمتلك مصانع لإنتاج سياراتها في الولايات المتحدة الامريكية فان اشتراط القانون انتاج اغلب أجزاء السيارة، وخصوصا البطاريات الكهربائية، داخل الولايات المتحدة قد يدفع بهذه الشركات اما لخفض حصتها من السوق الأمريكي البالغ الأهمية لها او التضحية واغلاق مصانعها الموجودة في ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي ونقل الإنتاج بالكامل الى الولايات المتحدة والتي ستكون من نتائجه المباشرة تسريح العاملين في هذه المصانع ورفع البطالة في ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي .
لذلك يفترض الخبراء أن مصنعي السيارات الكهربائية الألمان سيواجهون خلال العامين الى الثلاثة أعوام القادمة حالة من الركود وتراجع حصصهم في سوق السيارات الكهربائية، خصوصا وان لديهم في بعض الأحيان أوقات تسليم أطول بكثير من منافسيهم. ومع ذلك فان هؤلاء الخبراء يتوقعون ان تستطيع صناعة السيارات الكهربائية الألمانية من اللحاق بالركب وتعويض تأخرها في الأسواق المحلية والدولية بسبب الاهتمام الكبير الذي يضعونه لتطوير وصناعة البطاريات ذات العمر التشغيلي الطويل.