أعلن كبار خبراء الاقتصاد الألماني في “تقرير الخريف 2017” الصادر في آخر شهر سبتمبر الفائت أنه في إمكان الحكومة الألمانية الجديدة التي ستتشكل في البلاد قريباً أن تعتمد على أن الانتعاش الاقتصادي في ألمانيا سيستمر لفترة غير وجيزة. وجاء في التقرير أن معدل النمو لهذه السنة سيبلغ 1,9 في المئة، وفي السنة القادمة 2 في المئة، وسيحقق في سنة 2019م نحو 1,8 في المئة. وتابع التقرير أن الانتعاش الاقتصادي المستمر سيملأ خزائن الدولة الألمانية من خلال الرسوم المالية والضرائب، الأمر الذي سيوسّع قدرات الدولة على الصرف المالي.

لكن الأهم في التقرير أعلاه هو ما ينتظره هؤلاء الخبراء من الحكومة ذاتها، إذ أن التقرير طالب الدولة العمل على خفض الضرائب العامة على ذوي الدخل المنخفض والمتوسط  في البلاد بصورة خاصة لتعزيز أوضاعهم المالية، وكذلك خفض اشتراكات المواطنين في الصناديق الاجتماعية، إلى جانب رفع الاستثمارات الحكومية في قطاعي التربية والتعليم والبنى التحتية. ولحظ التقرير أن الاقتصاد الألماني يستفيد بقوة من تنامي الاستهلاك الداخلي وتوسّع الانتعاش في القارة الأوروبية والعالم. وتابع التقرير أن قطاع الصناعة الألمانية ينتظر هذا العام نمواً أعلى في البلاد رافعاً توقعاته أخيرا من 1,8 إلى أكثر من 2 في المئة. وذكر التقرير كذلك أن بعض الاقتصاديين الألمان يتخوفون الآن من التأثيرات السلبية التي قد تنتج عن انتفاخ الانتعاش الاقتصادي في البلاد أكثر من اللازم بعد استمراره فترة طويلة نسبياً، الأمر الذي قد ينعكس سلباً على الاقتصاد في نهاية الأمر، علما أن الكثيرين منهم يعتقدون بأن استمراره إلى ما لا نهاية أمر غير ممكن حدوثه أيضاً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفائض المالي الكبير جداً المتراكم حالياً في صناديق الدولة.

وبحسب التقرير الشهري الصادر عن البنك المركزي الألماني في شهر سبتمبر المنصرم يواصل الاقتصاد الألماني انتعاشه دون عائق كبير، مشيراً إلى أن التوقعات الاقتصادية تشير إلى أن معدل النمو الذي حققه الربع الثالث من هذا العام سيكون تقريباً بقوة المعدل الذي تم تسجيله في الربع الأول الذي بلغ 0,7 في المئة، و 0,6 في المئة في الفصل الثاني. وأضاف أن من أسباب الانتعاش الحاصل في البلاد تدفق الطلب على الصناعة الألمانية من الداخل والخارج، ومشاريع البناء المتوسعة، واستمرار الرغبة في المزيد من الاستهلاك، والطلب المتزايد من الشركات ومؤسسات العمل على الأيدي العاملة. وقال مكتب الإحصاء المركزي الاتحادي في بيان له إن الطلب على الصناعة الألمانية من الخارج ومن الداخل ارتفع في شهر أغسطس الفائت وسطيا أكثر بكثير مما كان متوقعا من الخبراء، إذ بلغ 3,6 في المئة. وعقّب Carsten Brzeski كبير خبراء مصرف ING-Diba على ذلك بالقول “إنه بفضل التقديرات الجيدة لشهر أغسطس يسير الاقتصاد هذه السنة بصورة جيدة مماثلة لعام 2016م”. وتابع أن الدفاتر المليئة بالطلبات والانتاج المتوقع حصوله “يدلان على أن الصناعة الألمانية ستُنهي العام الجاري بنجاح بأقصى سرعة”. ومع ذلك ينتظر مصرف Bankhaus Lampe حصول ضعف في نمو الاقتصاد في الربع الثالث من العام. وقال كبير خبرائه Alexander Krüger إن من الصحيح أن النمو الحاصل ثابت المسار، إلا أن ذلك لا يعني أننا ذاهبون نحو نمو متنامٍ ومستدام”.

سوق العمالة في وضع جيّد وعدد العاملين في البلاد يرتفع

واصل سوق العمل الألماني “تطوره الايجابي جداً” تبعاً لما أعلنته وكالة العمل الاتحادية BA أواخر شهر سبتمبر الماضي. وبفضل انتعاش سوق العمالة الألمانية في فصل الخريف تقليدياً كان الانخفاض في عدد العاطلين عن العمل في الشهر المذكور أعلى من العادة. وقال رئيس الوكالة Detlef Scheele في مؤتمره الصحافي الشهري الذي يعقده في مقر الوكالة في مدينة نورنبيرغ إن العمالة “تزداد بصورة إيجابية في البلاد، ويترتفع كذلك طلب الشركات الألمانية عليها في هذا الشهر بالذات باستمرار”. وبفعل ذلك سجّل عدد العاطلين عن العمل في سبتمبر 2,449 مليون شخص، بتراجع بلغ 96 ألفاً عن شهر أغسطس الفائت، و 159 ألفاً عن الشهر ذاته من العام المنصرم. وانعكس ذلك على معدل البطالة في البلاد الذي انخفض من 5,7 إلى 5,5 في المئة.

وأضافت الوكالة أن عدد العاملين جزئياً وبالساعة، وكذلك الذين يتلقون دورات تأهيل مدفوعة الأجر، بلغ 3,406 مليون شخص، بتراجع بلغ 118 ألفاً عن الشهر ذاته من العام الماضي. ولفت المكتب الاتحادي للاحصاء إلى أن عدد العاملين في البلاد ارتفع إلى 44,5 مليون شخص، بزيادة 64 ألفاً عن شهر أغسطس السابق و 692 ألفاً عن الفترة ذاتها من العام السابق. وقالت وكالة العمل إن عدد المشتركين في الصناديق الاجتماعية بلغ 32,15 مليون شخص، بزيادة 888 ألفاً خلال عام واحد. وبالنسبة إلى اليد العاملة المطلوبة قالت الوكالة إن عددها بلغ 773 ألفاً، بزيادة بلغت 11 ألفاً عن الشهر السابق و 86 ألفاً خلال عام واحد أيضاً. وتابعت أن 684 ألف عاطل عن العمل في سبتمبر تلقوا تعويضات بطالة، بتراجع بلغ 42 ألفاً عن الشهر ذاته من العام المنصرم.

ومن وجهة نظر معاهد البحوث الألمانية ستتحسن أوضاع سوق العمل والعمالة في البلاد خلال السنوات القليلة القادمة، مضيفة أن عدد العاملين فيها سيتزايد، وإن بوتيرة ضئيلة نوعا ما. وفيما سيصل العدد هذا العام إلى 44,285 مليون عامل وعاملة سيرتفع العدد إلى 44,768 مليون شخص في نهاية عام 2018م وإلى 45,155 مليوناً عام 2019م. في المقابل سيتراجع عدد العاطلين عن العمل بصورة أضعف من تنامي عدد العاملين، أي من نسبة 5,7 في المئة هذه السنة إلى 5,5 في المئة عام 2018م وإلى 5,2 في المئة عام 2019م. وأسباب ذلك تعود إلى تزايد دخول النساء والمتقاعدين في سوق العمل، وكذلك المهاجرين يضاف إليهم اللاجئون إلى ألمانيا الذين سيبدأون التفتيش عن فرصة عمل في السوق الألمانية بمجرد انتهاء معاملات إقامتهم في ألمانيا ودورات التأهيل المهني والتدريب التي يجرونها.

اقتصاديون:أسباب نجاحات اليمين الشعبوي في انتخابات ألمانيا

بعد النتائج المدوّية التي حصل عليها حزب البديل من أجل ألمانيا AFD الشعبوي واليميني المتطرف في الانتخابات النيابية الألمانية (حلّ في المرتبة الثالثة بفضل نسبة الأصوات التي نالها رغم تأسيسه قبل أربع سنوات فقط)، سعى ليس فقط السياسيون هنا، بل وخبراء الاقتصاد الألمان أيضاً إلى تحليل أسباب النجاح المفاجئ عقب انتقال أكثر من مليون صوت إليه من الناخبين المسيحيين، ونصف مليون من ناخبي الاشتراكيين وأكثر من 400 ألف من ناخبي حزب اليسار. بل وحلّ الحزب في المرتبة الأولى في ولاية ساكسن الشرقية بحصوله على 27 في المئة، ونال في بعض الأماكن والمدن والبلدات ما بين 35 و50 في المئة من الأصوات فيها.

ولفهم هذه الظاهرة المثيرة للتساؤل التي تشبه إلى حد كبير ظاهرة تنامي قوة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في فرنسا دخل خبراء الاقتصاد الألماني، ولأول مرة بهذه القوة، على خط تحليل الأسباب، خاصة وأنه قد يكون للتبدل الحاصل في اختيارات الناخبين علاقة أيضاً بالتغيّرات الاقتصادية والسياسية المناطقية في البلد، وبتدفق مئات آلاف اللاجئين إلى البلاد وخوف الكثيرين على الهوية الألمانية، علما أن المانيا تعيش منذ سنوات انتعاشاً اقتصادياً   تُحسد عليه. وفي رأي معهد الاقتصاد الألماني (IW)  في كولونيا قد يكون حزب البديل استفاد بصفة خاصة من تذمر ألمان شرقيين كثر من ترك بلداتهم وقراهم وعائلاتهم للتفتيش عن عمل لهم في غرب البلاد، وشعورهم بأنهم “متروكون لحالهم”. وأضاف المعهد أن البطالة لم تعد عالية في شرق البلاد، لكن النقص واضح في عدد الأطباء، وفي المواصلات في المناطق الريفية بعد أكثر من ربع قرن على الوحدة الألمانية، ما يدفع بعدد غير قليل من الناس للتصويت لحزب البديل الذي يحمّل اللاجئين المسؤولية.

وأرجع Clemens Fuest رئيس معهد بحوث الاقتصاد Ifo في ميونيخ بدوره جمع الحزب أعلاه كل هذه الأصوات إلى غضب الشرقيين من سياسة انفتاح الحكومة على اللاجئين، وشعورهم بفقدان سيطرتها على الوضع على الحدود. وقال لصحيفة Handelsblatt الاقتصادية الألمانية (عدد 3/10/2017) إن بعض الدراسات أظهرت أن ناخبي حزب البديل يحصلون على دخل شهري أعلى بقليل من المتوسط، ولذلك ينصح الحكومة، في حال رغبت في استعادة هؤلاء الناخبين، العمل “على توجيه وإدارة عملية الهجرة إليها من دول من خارج الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك هجرة اللاجئين”. وتابع أنه “هكذا فقط يمكن للناخبين استعادة الثقة بعدم تكرار موجة لجوء وهجرة غير منظمة، كما حصل في عام 2015”. وبدوره رأى Gustav Horn مدير معهد الاقتصاد الكبير وبحوث النمو IMK التابع لمؤسسة Hans-Böckler-Stiftung القريبة من النقابات العمالية بأن للتصويت لحزب البديل “علاقة قوية بمشاعر فقدان الرقابة الاجتماعية الداخلية”. ووجد أيضاً أن موضوع البطالة في شرق البلاد ليست سبباً كافياً لتبديل الاختيارات السياسية، مضيفاً أن المطلوب “تطبيق خطة اقتصادية سياسية تمتص قلق الناس وتخوفاتهم”. واقترح تطوير استراتيجية اندماج اقتصادية للاجئين “تواجه قلق البعض في ما يخص ضمان عمله والحفاظ على هويته الثقافية”، وخطة مماثلة تقريباً على المستوى الأوروبي أيضاً.

وقال رئيس المعهد الألماني لبحوث الاقتصاد Marcel Fratzscher للصحيفة الاقتصادية إن التأييد الذي حظي به حزب البديل إنما هو “جَمْعٌ مركّب يبدأ بالدخل المالي ولا ينتهي بالأسباب المناطقية، الأمر الذي يفسّر الدعم القائم لمواقف اليمينيين المتطرفين والمعادين للأجانب، وبشكل خاص في مناطق لا توجد فيها هجرة كبيرة”. ورأى ان الأطراف الحاكمة فشلت في التعاطي مع الألمان الشرقيين ونزع مخاوفهم لتقبل المجتمع الجديد المنفتح على الخارج المناقض لمجتمعهم السابق المنغلق على نفسه. وفي هذا المجال لفت العالم السياسي  Lothar Probst إلى تركة ديكتاتورية الحزب الشيوعي في ألمانيا الديمقراطية، وشعور الناس فيها بعد قيام الوحدة “بأنهم يخضعون لسيطرة الغرب الألماني عليهم”. ورأى أن القيم الشرقية تحت الحكم الديكتاتوري دامت زمنياً أكثر من قيم الشطر الغربي الذي عايش تحولاً ثقافياً مع ثورة جيل الـ 68 الانفتاحية على الخارج والرافضة للقيم السائدة حتى ذلك الحين. وكتبت صحيفة “هاندلسبلات” أن الرئيس الألماني Frank-Walter Steinmeier  دلل في خطابه الأخير في مناسبة العيد الـ 27  للوحدة الألمانية على الطريق التي توصل إلى حل يرضى به الجميع، “وهو الاتفاق على قانون للهجرة يحدد شروطها وتصبح مشروعة للذين تتلاءم أوضاعهم معها”  .

ما بعد الانتخابات: خمسة مواضيع اقتصادية أمام حكومة مركل

بغض النظر عن تركيبة الحكومة التي ستشكلها المستشارة Angela Merkel للسنوات الأربع اللاحقة للمرة الرابعة على التوالي، وعن القوى السياسية التي ستشارك معها، يرى سياسيون واقتصاديون ألمان أنها ستجد أمامها خمسة مواضيع رئيسة هي، أولاً: رفع وتيرة وحجم الاستثمار في البلاد. ثانياً: خفض وتيرة الازدهار المتضخم. ثالثاً: رفع مستوى الأجور والمعاشات. رابعاً: مكافحة الفقر. خامساً: توسيع قاعدة التعليم. ويعتقد الخبراء أن الاستمرار بالحكم بالوتيرة ذاتها لم يعد ينفع، ولا بد من مواجهة التحديات المستقبلية على مختلف الصعد بعد الدخول في العصر الرقمي الذي يطرح تحديات جديدة ويتطلب حلولاً مختلفة عن السابق:

  1. الاستثمارات: يعتقد اقتصاديون كثر أن الوقت حان كي ترفع الدولة الألمانية استثماراتها التي لم تعد تتناسب مع الحجم الاقتصادي للبلد. وفي مقارنة مع الدول الأعضاء في منظمة الدول الاوروبية للتعاون الإقتصادي والإنمائي OECD تصرف ألمانيا نسبياً مالاً أقل بوضوح لتطوير وتحسين مؤسساتها العامة. وعلى سبيل المثال تصرف برلين مخصصات أقل من النمسا وسويسرا، وأقل من فرنسا والدول الإسكندينافية. والواقع هو أن ألمانيا تتشابه في هذا المضمار مع مجموعة من الدول مثل المكسيك والدول الأوروبية التي لم تخرج بعد من الأزمة الاقتصادية التي حلّت في أوروبا مثل إيطاليا والبرتغال وإيرلندا واسبانيا، علما أن خزائن الدولة الألمانية مليئة منذ سنوات بفضل الضرائب والرسوم. ومعروف أن رجال الاقتصاد الألمان والخبراء يطالبون برلين منذ سنوات بالعودة إلى الاستثمار في البنى التحتية المختلفة مثل الطرق والمدارس، وشبكات الاتصالات التي تتقادم وتتآكل سنة بعد سنة. والمرة الأخيرة التي استثمرت فيها الدولة الألمانية بقوة كانت في تسعينات القرن الفائت بفعل توحّد شطري ألمانيا.
  2. خفض وتيرة الازدهار المتضخم: يرى خبراء أنه لا توجد دولة كبيرة مثل ألمانيا حالياً تعيش حالة من الازدهار المتضخم. وتشير حسابات بنك التوازي المالي الدولي BIZ في بازل بسويسرا وحسابات منظمة الدول الأوروبية إلى أن ألمانيا تعيش أقوى ازدهار اقتصادي منذ وقت طويل. ويتفق خبراء الاقتصاد على أن الطلب على الإنتاج في البلاد يزيد بكثير عن القدرات الإنتاجية المتوافرة، ويرون أن ألمانيا تقترب كثيراّ من أوضاعها في عام 2007م حين كانت في أوج إزدهارها الاقتصادي، ما لبث أن تبعه الزلزال الاقتصادي المُتمثل في الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008 مباشرة. والمثير للانتباه أن موضوع الازدهار الحالي لم يلعب أي دور في الحملة الانتخابية النيابية التي شهدتها ألمانيا أخيراً، علماً أن الإشارات المُحذّرة موجودة. وعلى سبيل المثال تراجعت البطالة في البلاد إلى حد الصفر في العديد من المناطق الألمانية، لكن أسعار العقارات تناطح السحاب حالياً. ولا تأخذ ألمانيا حتى الآن تبدل الشروط والأطر العامة بعين الاعتبار إلى حدّ أنها تتجاهل المخاطر. لذا على الحكومة المقبلة العمل على ضبط وتيرة الازدهار الحاصل قبل أن يضطر البنك المركزي الأوروبي للتدخل.
  3. رفع مستوى الأجور والمعاشات: تتحدد المشكلة الأكبر في الاقتصاد الألماني حالياً بالنقص الموجود في اليد العاملة. ولم تعرف البلاد منذ زمن بعيد مثل العدد الحالي من العاملين فيها، وكذلك عدد فرص العمل المتوافرة في الشركات الألمانية. في هكذا وضع من الطبيعي أن ترتفع أجور العاملين ومعاشاتهم، إلا أن ذلك لا يحدث، لذا لا يصل الازدهار الحاصل إلى جيوب العاملين كما يتوجب. وبحسب القانون المعتمد ليس من حق الدولة التدخل في مفاوضات النقابات العمالية مع نقابات أرباب العمل، لكن عندما تفشل آلية رفع الأجور إلى هذا الحد على مدى سنوات عدة، الأمر الذي يكشفه الفائض الكبير الذي يحققه الميزان التجاري الألماني سنوياَ وتشتكي منه بروكسيل ودول أوروبية ودولية عدة، يُصبح واجباً عل الدولة التدخل هنا لتعديل قواعد اللعبة بحيث تصبح آلية رفع الأجور أكثر مرونة وتماشياً مع ارتفاع النمو الاقتصادي.
  4. مكافحة الفقر: الفقر آفة موجودة في ألمانيا ويتوجب على الدولة الاجتماعية العمل على مكافحتها من خلال العمل على مساعدة المصابين بها. وأمر غير مقبول ويستدعي قرع جرس الانذار حين يتبين أن عدد الفقراء يتزايد بدلا من أن ينخفض، خاصة في أزمنة الازدهار الاقتصادي. قد يكون الأمر مفهوماً في حال تعرض البلد لأزمة اقتصادية، وفرص العمل تتضاءل، والبطالة تتزايد في المقابل كما سبق وحصل، لكن من الواضح أيضاً أن الازدهار لا يصل إلى جميع الناس، ما يسبب في تنامي عدد العاطلين الذين يتلقون 60 في المئة أو أقل من الحد الأدنى للأجور. لذا ينصح خبراء الحكومة الجديدة المنتظرة أخذ وضع الفقراء وتراجع قدراتهم على العيش المريح والصحي بعين الاعتبار. والمعني الأول في هذا الأمر النساء اللواتي يعشن لوحدهن مع أطفالهن، وكذلك العاطلين القدماء عن العمل، والعاملين بصورة جزئية. من هنا ضرورة رفع المساعدات المالية المخصصة لهؤلاء.
  5. توسيع قاعدة التعليم: مقارنة مع قدراتها الاقتصادية تصرف الدولة الألمانية الإتحادية على قطاع التعليم 4,3 في المئة من الموازنة العامة السنوية فقط (يُقصد هنا البحوث والتدريب المهني، كون التعليم العام في المدارس والجامعات من إختصاص الولايات الألمانية)، أي أقل مما تصرفه الدول الأخرى، وعلى سبيل المثال الدول الأوروبية التي تخصص نسبة 5,3 في المئة تقريباً من موازناتها. إن التوسع في قطاع التعليم يبقى عاملاً حاسماً للمستقبل، لا فرق إن تعلق الأمر هنا بالأتمتة وتأثيرها على عالم العمل والعمالة، وصولاً إلى العمل عالي المستوى والخلاق، أو تعلق بالعلاقة مع التطور الديموغرافي، ورفع سن التقاعد، والتبديل المتكاثر في المهن والوظائف الذي يفرضه الواقع والتطور. كل هذا وغيره يتطلب المزيد من الاستثمارات.

رغم ازدهار ألمانيا يزداد التفاوت بين الفقراء والأغنياء

خلال الانتخابات النيابية الألمانية الأخيرة رفعت أحزاب ألمانية مختلفة شعار تعزيز “العدالة الاجتماعية” في البلاد بعد تنامي الفقر فيها رغم الازدهار الاقتصادي الحاصل. في موازاة ذلك قام Gustav Horn مدير معهد بحوث النمو والاقتصاد الكبير IMK في ألمانيا بجمع أربعة خبراء آخرين من معهده للبحث في هذا التطور الحاصل وسبل مكافحته. ووضع الخبراء الخمسة بعد بحث وتدقيق ومقارنات اقتراحات محددة تسمح بخفض فعّال للتفاوت الاجتماعي الحاصل. وبكلمة موجزة يقترح الخبراء إشراك الأقوياء اقتصادياً في البلاد في الأمر، وتقوية وضع الفئات الوسطى في المجتمع للمساهمة في محاربة الفقر.

وقسّم خبراء المعهد، استناداً إلى أحدث المعلومات المتوافرة حالياً، الشعب الألماني إلى ثلاث مجموعات دخل، الأولى: وهي المجموعة السفلى التي تتلقى أجراً يقل عن نسبة 70 في المئة مما تتلقاه الفئة المتوسطة، الثانية: من يتجاوز أجره الحدّ المتوسط للأجور بنسبة 150 في المئة وهي المجموعة العليا، والباقي ينتمي إلى المجموعة المتوسطة من المجتمع. وتبعا لحسابات الخبراء الخمسة فان متوسط دخل المجموعة العليا ارتفع فعلياً بنسبة 17 في المئة بين أعوام 1991 و2014 مقابل ارتفاع عشرة في المئة للمجموعة المتوسطة فيما لم يرتفع دخل المجموعة الثالثة السفلى إلا بنسبة 3 في المئة فقط خلال أكثر من عقدين من الزمن. من هنا استنتاج الخبراء الخمسة بأن التفاوت كبير جداً بين المجموعات الثلاث، بل وزاد اتساعه. إضافة إلى ذلك انكمشت المجموعة المتوسطة عددياً خلال هذه الفترة الزمنية من 63 إلى 56 في المئة. وذكر الخبراء الخمسة في دراستهم هذه أن التطور السلبي القائم لا يمكن وقفه من خلال تدابير فردية وأحادية الجانب، ولا بد من اتخاذ مجموعة من القرارات السياسية الطابع لتغيير التدابير الاقتصادية المتخذة بهدف، أولاً: الحفاظ على الدينامية الاقتصادية للبلاد من جهة، وثانياً: لرفع مستوى العدالة الاجتماعية للمجموعة السفلى من المجتمع من جهة أخرى.

واقترح خبراء المعهد على الدولة اشراك أصحاب الدخل العالي في تمويل المشاريع الخيرية، وشددوا على أن تعديل النظام الضريبي في البلاد أصبح ضرورة لا يمكن تجاهلها، واقترحوا بعض الخطوات مثل: اغلاق المنافذ أمام من يسعى إلى تهريب أمواله أو قسم منها لتفادي دفع الضرائب، رفع نسبة الضريبة التصاعدية على الأرباح العالية، الغاء الأفضليات الضريبية للإرث وإعادة إحياء ضريبة الأملاك. ولمنع تعرض أصحاب الأعمال لمصاعب مالية بسبب ذلك يقترح الخبراء الخمسة على الدولة أن تنشئ  “صندوق دولة” يدير بمساعدة غير مباشرة من الدولة الألمانية الديون التي لا يستطيع بعض هؤلاء تسديدها فوراً. وطالب الخبراء الخمسة الدولة باتخاذ خطوة أخرى هامة تتمثل في تحويل “ضريبة البناء” إلى “ضريبة الأرض”، خاصة وأن المحكمة الدستورية العليا تبحث حالياً في الأمر. وقالوا إن أفضلية ضريبة الأرض تتمثل في نوعية استخدام قطعة الأرض المعنية، فان كانت ستتحول إلى ملكية لعائلة واحدة غنية للسكن عليها يتوجب رفع الضريبة عليها مقابل خفضها على عائلات عديدة تسكن شققاً في بناء اُقيم فوق قطعة من الأرض، الأمر الذي سيشجع كثيرين على البناء المشترك في زمن تواجه فيه ألمانيا نقصاً في عدد المساكن. كما دعا الخبراء إلى زيادة قيمة علاوة الطفل الشهرية لمساعدة العائلات وأطفالها.