يواجه سوق العقارات وقطاع البناء في المانيا خلال الآونة الأخيرة العديد من التحولات والتغيرات نتيجة اثار الازمات المختلفة من كورونا وحرب أوكرانيا، بداية من انقطاع سلاسل التوريد والنقص في العديد من المواد الأولية مرورا بارتفاع معدلات التضخم والارتفاع الكبير في أسعار الطاقة وبقية المواد الانشائية وانتهاءً برفع أسعار الفائدة البنكية ورفع تكلفة التمويل والاقراض لغرض البناء او شراء العقارات. كل هذه التغيرات اثرت بالسلب على سوق العقارات ومشاريع البناء الجديدة والتي ستكون لها عواقب اقتصادية على مجمل قطاع البناء من حيث تراجع مستوى الاعمال وتراجع النمو، حيث كان قطاع البناء ركيزة من ركائز الاقتصاد الألماني لفترة طويلة وحقق أرباحًا جيدة بفضل الطفرة العقارية خلال السنوات الماضية. كما ستكون لهذه التغيرات تبعات سلبية على محاولات حل ازمة قلة المساكن التي تعيشها ألمانيا.
تراجع سوق التمويل العقاري
يشهد سوق التمويل العقاري في ألمانيا تراجعا كبيرا في حجم الاعمال في ضوء ارتفاع أسعار الفائدة البنكية، حيث وصل حجم الأعمال الجديدة إلى أدنى مستوى لها منذ العام 2011م. ويظهر قطاع العقارات الآن اقل جاذبية وجدوى اقتصادية بالنسبة للمستثمرين وهو ما يتوقع الخبراء استمراره حتى العام 2024م على الأقل. فبحسب دراسة لشركة Barkow Consulting للاستشارات تراجع الطلب على الإقراض العقاري بدرجة كبيرة مع ارتفاع أسعار الفائدة والتي زادت بأكثر من ثلاثة أضعاف في غضون عام. حيث تراجع حجم القروض العقارية الجديدة التي تقدمها البنوك الألمانية للأسر الخاصة والعاملين لحسابهم الخاص بنسبة 43 في المئة في ديسمبر الماضي مقارنة بالشهر نفسه من العام 2021م.
واستناداً الى أرقام البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الألماني وصل حجم القروض العقارية التي قدمتها البنوك الى 13.5 مليار يورو، وهو أدنى مستوى لحجم القروض العقارية الشهري منذ يونيو 2011م، وبحسب شركة Barkow فان التراجع المسجل في شهر ديسمبر 2022م، هو رابع تراجع سلبي على التوالي. وبالمقارنة بين حجم القروض في ديسمبر 2022م، مع الحجم القياسي لحجم القروض العقارية والذي سُجل في شهر مارس من العام 2022م، والبالغ 32.3 مليار يورو هناك تراجع بنسبة 60 في المئة تقريبًا. كما استمر تراجع القروض العقارية في شهر يناير 2023م، ليسجل انخفاضاً بنسبة 41 في المئة مقارنة بالشهر نفسه من العام 2022م.
ويرجع الخبراء المصرفيون استمرار تراجع الاقبال على قروض التمويل العقاري، الى جانب زيادة تكلفة التمويل والاقراض، الى تردد العملاء والمستثمرين بسبب تراجع العائد والارباح، بالإضافة الى ان هناك عدد أقل من الأشخاص القادرين على دفع رأس المال الأساسي بنسبة 20 في المئة من قيمة شراء العقار. هذا بالإضافة الى ان الأعمال الجديدة في مجال تمويل الإنشاءات تتقلص منذ شهور نتيجة تكاليف البناء المرتفعة، مما يؤدي إلى إبطاء أعمال البناء الجديدة، وهو ما أدى الى انسحاب مطوري المشاريع وانتشار حالة من عدم اليقين في سوق العقارات بشأن مستقبل القطاع بعد فترة الازدهار الطويلة التي عاشها قطاع العقارات والبناء في ألمانيا.
وتأتي الزيادة في أسعار البناء نتيجة لارتفاع أسعار المدخلات والمنتجات الاولية، والتي بدورها ناتجة عن ارتفاع أسعار الطاقة وتعطل سلاسل التوريد. لكن الخبراء يرون ان هذه الاسباب تفسر جزءًا فقط من زيادة الأسعار، بينما يمكن ارجاع ارتفاع أسعار البناء في جزء منه أيضا الى شركات البناء والتي تحاول من خلال رفع أسعارها الحصول على مزيد من الأرباح. وهو الرأي الذي يؤيده تقرير صادر عن معهد الأبحاث الاقتصادية في جامعة ميونخ ifo والذي استنتج «أن العديد من الشركات قد انتهزت على ما يبدو الفرصة لرفع أسعارها بما يتجاوز الزيادة في أسعار مشتريات المواد الخام والتكاليف الأخرى».
من جانب أخر، حذرت الشركات العاملة في قطاع البناء من وجود خطر حدوث تراجع كبير في البناء السكني. ففي عام 2022م، تم الانتهاء من حوالي 280.000 شقة، بينما من المحتمل ان يتم انجاز حوالي 245.000 شقة في العام الحالي. وقد صرحت وزيرة لإسكان والتنمية العمرانية والبناء في الحكومة الاتحادية Klara Geywitz أن الهدف الذي وضعه الائتلاف الحاكم لبناء 400 ألف شقة سنويًا لن يتم الوصول اليه.
وفي سياق متصل، وبحسب تقييم خبراء العقارات حول سوق إيجار الشقق في العام 2022م، ارتفعت الإيجارات بنسبة 5.2 في المئة وهي نسبة أعلى من نسبه الارتفاع في الإيجارات في السنوات السابقة. فبالمقارنة في عام 2021م، ارتفعت أسعار الإيجارات بنسبة 3.7 في المئة، وفي عام كورونا 2020م بنسبة 3.1 في المئة. ويمكن ارجاع جزء من ارتفاع الإيجارات في العام 2022م، الى اثار الحرب في أوكرانيا والزيادة الكبيرة في اللاجئين الاوكرانيين الى ألمانيا، ولكن أيضًا من الأسباب الرئيسية لهذا الارتفاع حقيقة أن الأسر قد أوقفت خطط ملكية او بناء منازلها الخاصة بسبب ارتفاع أسعار الفائدة الى جانب ارتفاع أسعار شراء المنازل والشقق أيضًا في عام 2022م. والتي ارتفعت بنسبة 7.8 في المئة مقارنة بالعام 2021م.
مطالبات بتدخل حكومي لمساعدة قطاع البناء
على ضوء هذه التطورات تحذر الشركات الألمانية العاملة في قطاع البناء من ركود في البناء السكني وتطالب بدعم حكومي للقطاع حيث قال Felix Pakleppa، المدير العام للاتحاد المركزي لشركات البناء الألمانية (ZDB)، إنه في الأزمات السابقة مثل جائحة كورونا والأزمة المالية العالمية، قامت الحكومة الاتحادية بضخ استثمارات حكومية كبيرة. متسائلا «إذا لم يكن الآن، فمتى ستستثمر الحكومة في قطاع البناء؟»
وفقًا لـ Pakleppa، زاد عدد سكان ألمانيا بنحو ثلاثة ملايين شخص منذ عام 2015م، كثير منهم لاجئون من سوريا وأفغانستان وأوكرانيا وهم جميعا بحاجة الى سكن. وبدلاً من رفع المبالغ المخصصة لتمويل ودعم مشاريع البناء الجديدة، خفضت وزارة لاقتصاد الاتحادية بشكل كبير الدعم الذي كانت تقدمة الحكومة لمشاريع البناء الجديد عبر بنك التنمية وإعادة الاعمار الألماني KfW لعام 2023م، إلى مليار يورو، للمقارنة وصل حجم المبالغ المخصصة لتمويل مشاريع بناء مساكن جديدة التي وافق بنك التنمية الحكومي على تقديمها حتى نهاية شهر نوفمبر من العام 2022م، الى 16.4 مليار يورو.
اتجاهات سوق العقارات خلال العام 2023م
يؤثر ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم وسلاسل التوريد المعطلة على سوق العقارات بشكل كبير في إشارة على نهاية عصر الطفرة العقارية التي عاشتها المدن الألمانية خلال السنوات الماضية واحتمالات الدخول فيما يسمي «الفقاعة العقارية» والتي تعني ارتفاع أسعار العقارات بأكثر من قيمتها الحقيقة نتيجة المضاربات في السوق وتدفق الاستثمارات الخارجية في سوق العقارات والذي يعد من أكثر الأسواق والقطاعات الاقتصادية عائدا والأكثر أمانا بالمقارنة مع العديد من القطاعات الأخرى.
ومع صعوبات توقع تطورات سوق العقارات وقطاع البناء خلال العام 2023م، خصوصا مع تغير العوامل المؤثرة على السوق الا ان العديد من الخبراء يرون أربع اتجاهات رئيسية سيتخذها سوق العقارات في المانيا خلال العام الحالي:
1- استمرار ارتفاع أسعار الفائدة على العقارات
على الرغم من التغيرات التي طرأت على أسعار فائدة القروض العقارية في المانيا منذ بداية التسعينات عقب إعادة الوحدة الألمانية هبوطا وارتفاعا الا ان الخبراء يجمعون على ان ما حدث في عام 2022م مع أسعار قروض البناء لم يسبق له مثيل من قبل، حيث وفي غضون تسعة أشهر، تضاعف سعر الفائدة على قروض الرهن العقاري ذات معدل الفائدة الثابت لمدة عشر سنوات أربع مرات تقريبًا من واحد في المئة إلى أربعة في المئة تقريبًا. ومع استمرار معدلات التضخم المرتفعة في منطقة اليورو وإعلان البنك المركزي الأوروبي عزمه على مواصلة رفع أسعار الفائدة لمعالجة التضخم، فانة من المتوقع ان تستمر أسعار فائدة القروض العقارية في الارتفاع خلال العام 2023م.
2- ارتفاع أسعار ايجار المساكن في العام 2023م
بحسب مؤشر أسعار العقارات لاتحاد بنوك التمويل العقاري الألمانية Der Verband deutscher Pfandbriefbanken (vdp)، ارتفعت إيجارات العقود الجديدة بنسبة 1.6 في المئة في الربع الثالث من عام 2022م، مقارنة بالربع السابق وبنسبة 4.8 في المئة مقارنة بالربع الثالث من عام 2021م. حيث يواجه الطلب المتزايد على الشقق المؤجرة نقص العقارات السكنية ذات الأسعار المعقولة، فمن جهة تراجعت حركة بناء المساكن الجديدة بسبب نقص التمويل ونقص المواد الأولية، كذلك أدى تزايد عدد اللاجئين من أوكرانيا الى المانيا والذي اقترب عددهم من 1.1 مليون لاجئ خلال العام 2022م، الى ارتفاع الطلب على الشقق المؤجرة بشكل كبير، كما أدى عجز العديد من المشترين المحتملين للشقق والمساكن عن إتمام صفقات الشراء نتيجة ارتفاع تكاليف التمويل العقاري الى اختيار السكن في شقق مستأجرة مما رفع الطلب عليها بشكل إضافي. ولهذا يتوقع خبراء البنك التعاوني المركزي الألماني (DZ Bank) ان ترتفع الإيجارات بشكل كبير في عام 2023م، بسبب ندرة المعروض وارتفاع عدد السكان، ومن المحتمل أن يصبح وضع المستأجرين أكثر صعوبة في المناطق الحضرية، حيث سترتفع الأسعار بشكل أسرع. بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع أسعار الكهرباء ووقود التدفئة والغاز سيؤدي إلى ارتفاع كبير في قيمة فواتير المرافق مما سيزيد من العبء المالي للعديد من المستأجرين بالتأكيد.
3- تكاليف التشغيل والطاقة تلعب دوراً رئيسياً في تحديد قيمة العقار
بحسب عدد من الخبراء في موقع (Immobilienscout24) أكبر سوق ألماني على الإنترنت للعقارات السكنية، شهدت العقارات القديمة في عدد من المدن الألمانية خلال النصف الثاني من العام 2022م، تراجعا في الأسعار ففي مدينة شتوتغارت تراجعت أسعار العقارات بنسبة (- 10 في المئة) وفي فرانكفورت (- 9 في المئة) وفي مدن دوسلدورف وهامبورغ وكولونيا وميونيخ (- 6 في المئة) وفي برلين بنسبة (-4 في المئة). الا ان عدد من الخبراء لا يعتبرون هذا الانخفاض مؤشرا الى وجود فقاعة عقارات بقدر ما يؤشر الى ان هناك قدر كبير من عدم اليقين في السوق في الوقت الحاضر. من جانب أخر ووفقًا لدراسة أجراها البنك التعاوني DZ، من المتوقع أن تنخفض أسعار العقارات السكنية على مستوى السوق الألماني بنسبة أربعة إلى ستة في المئة في المتوسط في عام 2023م. لكن أيضا وبحسب العديد من الخبراء، ستظل العقارات في المواقع الجيدة والتي تتمتع بتوازن طاقة جيد ثابتة في السعر أو حتى تصبح أكثر تكلفة. وهو ما يعني ان تلعب تكاليف التشغيل دورا أكثر أهمية في تحديد أسعار العقارات، حيث سترتفع أسعار العقارات ذات كفاءة استخدام الطاقة العالية، وهي في الغالب المباني الحديثة التي تم بنائها خلال السنوات العشر او العشرين الماضية، بينما المباني التي تم بنائها ما بين 1950 و1999م سوف تنخفض أسعارها بسبب ارتفاع كلفة استخدام الطاقة.
4- انخفاض المعروض من المباني الجديدة
بحسب خطط الحكومة الألمانية فانه من المفترض ان يتم بناء 400 ألف شقة سنويا في المانيا منها 100 ألف وحدة سكنية اجتماعية. لكن في قطاع العقارات، لا أحد يعتقد أنه لا يزال من الممكن تحقيق هذا الهدف. على وجه التحديد، يتوقع Axel Gedaschko رئيس الجمعية العامة لصناعة الإسكان الألمانية، (Gesamtverbands der deutschen Wohnungswirtschaft) بناء حوالي 250 ألف شقة جديدة العام 2022م. اما في عام 2023م يتوقع بناء 200 ألف وفي العام 2024م «عدد أقل». ويعود تراجع عدد المباني الجديدة في ألمانيا بسبب اختناقات العرض وارتفاع أسعار المواد بشكل حاد والاختناقات في سلاسل التوريد والتمويل الأكثر تكلفة. بالإضافة الى التراجع الكبير في عدد تصاريح البناء للشقق الجديدة في ألمانيا في الربع الثالث من العام 2022م. اذ بحسب مكتب الإحصاء الاتحادي، أصدرت السلطات المختصة تصاريح بناء لـ 272054 شقة خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر 2022م، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 3.7 في المئة او ما يساوي 10366 شقة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وفي شهر سبتمبر، كان التراجع 9.1 في المئة مقارنة بالشهر نفسه من العام 2021م.