تعد ألمانيا احدى اهم الدول المتقدمة تكنولوجيا وصناعيا والتي يقوم اقتصادها على التصدير بدرجة رئيسية، خصوصا تصدير السلع والبضائع الصناعية. ولهذا تحتاج ألمانيا الى تأمين امداداتها من المواد الخام لضمان استمرارية الإنتاج وتعزيز القدرة التنافسية وتقوية مركز ألمانيا كموقع لإقامة الاعمال. كما يعد الإمداد الآمن بالمواد الخام شرطًا أساسيًا لنجاح التحول الرقمي للاقتصاد والمجتمع ووصول ألمانيا أيضا الى تحقيق الحياد المناخي. لذلك يجب اعتباره مسألة استراتيجية للأمن القومي. وفي هذا الإطار تواجه ألمانيا إشكالية الاعتماد في الحصول على العديد من المواد الخام الأولية على الاستيراد وبدرجة تتجاوز في بعض المواد اعتمادها على واردات النفط والغاز.
اهم الثروات المعدنية الموجودة في ألمانيا
على الرغم من أن ألمانيا مقارنة بالعديد من دول العالم تصنف بانها فقيرة نسبياً في المواد الخام، إلا أنها لا تزال لديها بعض مصادر المواد الخام والثروات المعدنية، ومن أهم هذه المواد من حيث كمية الإنتاج الحصى ورمل البناء الذي يُنتج منه سنوياً حوالي 270 مليون طن، بالإضافة الى الحجر الطبيعي بحوالي 200 مليون طن سنوياً وكذلك الفحم البني الذي يتم استخراج ما يقرب من 180 مليون طن منه كل عام. من جانب اخر تمتلك ألمانيا مخزونات طبيعية من العديد من المعادن والموزعة بطريقة على مساحة البلاد وذلك بسبب الماضي الجيولوجي لألمانيا. وتشمل المعادن ذات الأهمية الاقتصادية لاستخراجها أملاح البوتاس والصخور، خامات الحديد والمنغنيز، والفلورسبار (الفلوريت)، والحجر الجيري، والجبس، والكوارتز، والبازلت والنحاس. ووفقاً للمعلومات المتوفرة من العام 2019م، في عام 2019م، كانت ألمانيا ثاني أكبر منتج للليغنيت (الفحم البني)، وثالث أكبر منتج للكاولين الخام، ورابع أكبر منتج للملح الصخري وخامس أكبر منتج لملح البوتاس.
وتعتمد عملية استخراج وتعدين هذه المعادن على الجدوى الاقتصادية والتي تتطور مع الوقت، فعلى سبيل المثال اُكتشف في ألمانيا منذ أكثر من 50 عاما واحد من أكبر رواسب النحاس في أوروبا على عمق 1000 متر في منطقة Lusatian على الحدود الشرقية لألمانيا مع بولندا، ولكن وبسب ارتفاع تكلفة استخراج النحاس ورخص ثمنه في السوق الدولية في ذلك الوقت لم يتم استغلال هذا المحزون منه، قبل ان يتغير هذا المشهد ويرتفع سعر خام النحاس في الأسواق العالمية، فبينما كان سعر طن النحاس العالمي أقل من 2000 دولار في بداية عام 2003م ، يبلغ سعره حاليًا عند 8900 دولار ، وهو ما يجعل قيمة 1,5 مليون طن من مخزونات النحاس في Lusatian أكثر من 8 مليار يورو مما دفع ثلاث شركات عالمية كبرى للتعدين للتنافس على الحصول على حق استغلال المنجم.
ويمثل هذا التطور في تعدين النحاس مؤشرا للأفاق التي يمتلكها قطاع التعدين في ألمانيا، فكما تسبب استنفاد المحزونات او إمكانية استيرادها بكلفة أقل من استخراجها في إيقاف تعدين الفضة والرصاص والحديد في ألمانيا في أوقات سابقة، فان الارتفاع المستمر في أسعار المواد الخام المختلفة في الأسواق العالمية دفع الى إعادة النظر في الجدوى الاقتصادية في استخراج العديد من الثروات المعدنية والتي كان من أهمها البوتاس ، وهو معدن مهم للغاية لإنتاج الأسمدة الاصطناعية ، والذي اصبح استخراجه أكثر ربحية في ولايتي هيسن وتورنغن عن أي وقت مضى، وبدرجة أقل ينطبق هذا أيضًا على إنتاج الجبس والحديد الى جانب الكبريت الذي اعتاد منتجو النفط في ألمانيا اعتباره مجرد ملوث مصاحب لاستخراج النفط، أصبح أيضًا أحد الأصول الاقتصادية المثيرة للاهتمام.
اعتماد ألمانيا على استيراد المواد الخام
بحسب دزاسه اجرتها شركة الاستشارات الادارية (EY) بطلب من وزارة الاقتصاد وحماية المناخ الاتحادية عن اهم المعادن والمواد الخام التي يحتاجها الاقتصاد الألماني تم تصنيف 46 مادة أولية على أنها «استراتيجية» لأنها ذات أهمية كبيرة لإنتاج سلع مهمة، خاصة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة. وتعتمد ألمانيا على الواردات لـ 39 من هذه المواد الخام، كما تؤكد الدراسة «ان سلاسل التوريد لاغلب هذه المواد محدوده جدا، وهو ما يفرض مخاطر متزايدة تتعلق بالعرض». وفي دراسة مشابهه أجراها المعهد الاقتصادي الألماني (IW) ، اتضح أن الاعتماد على الصين في مجال استيراد المواد الخام الهامه والمعادن النادرة، خصوصا تلك المستخدمه في تكنولوجيا البطاريات، مرتفع بشكل كبير. اتحاد الصناعات الألمانية (BDI) يعتبر ان الإمداد الآمن بالمواد الخام شرط أساسي لنجاح التحول الأخضر والرقمي للاقتصاد والمجتمع وبشكل خاص بسبب ان «السباق للحصول على المواد الخام المهمة استراتيجيًا على قدم وساق. وان ألمانيا وأوروبا تواجه خطر فقدان المواد الخام الهامة في منافسة مع دول أخرى، والنتيجة تزايد التبعيه والاعتماديه على عدد محدود من الدول»، لذلك يجب اعتباره قضية استراتيجية متعلقة بالأمن القومي، اكثر منها قضية حاجة اقتصادية.
من جانبها تحدد المفوضية الأوروبية ما مجموعه 23 مادة خام على أنها ضرورية لإنتاج التقنيات الرئيسية مثل تكنولوجيا البطاريات والروبوتات والطاقات المتجددة. واظهرت دراسة لمعهد ifo للأبحاث الاقتصادية ان سلاسل توريد الكوبالت والبورون والسيليكون والجرافيت والمغنيسيوم والليثيوم والنيوبيوم والتيتانيوم معرضة للأزمات. واكدت الدراسة ان هناك حاجة إلى المزيد من مصادر التوريد لجعل سلاسل التوريد أكثر مرونة خاصة في أوقات مشاكل سلسلة التوريد والتوترات الجيوسياسية.
ارتفاع الطلب على المعادن والمواد الخام النادرة
وفقًا لمفوضية الاتحاد الأوروبي، سيتضاعف الطلب على المواد الخام المهمة بحلول عام 2030م. فيما يتوقع البنك الدولي زيادة الطلب على المعادن ثلاثين ضعفًا خلال الثلاثين عامًا القادمة، ومن أجل تغطية هذه الكميات سيتعين تعدين أكثر من ثلاثة مليارات طن من المواد الخام في هذه الفترة. كذلك تتوقع وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن يزداد الطلب على المعادن النادرة مثل الليثيوم بمقدار أربعين ضعفًا( الليثيوم مادة خام أساسية لتقنيات التخزين الحديثة خصوصا بطاريات السيارات الكهربائية، كما يتم أيضًا تركيب بطاريات اليثيوم في الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة اللوحية). نتيجة لذلك، ارتفع سعر العنصر ثمانية أضعاف تقريبًا منذ بداية العام الماضي. ووفقًا لوكالة الموارد الطبيعية الاتحادية، يوجد 75 في المئة من احتياطي الليثيوم في تشيلي وأستراليا.
بالإضافة إلى الاعتماد الشديد والطلب المرتفع على المواد الخام، هناك عقبات أخرى أمام الاستيراد الآمن والمستدام للمواد الخام. حيث تعتبر المخاطر الجيوسياسية والاستقرار السياسي مشكلة أيضًا، حيث تختلف المعايير الساسية والاقتصادية في العديد من البلدان الغنية بالموارد عنها في أوروبا، وتصنف بلدان منشأ بعض المواد الخام غير القابلة للاستبدال على أنها حرجة. وفقًا لمعهد لايبنز للبحوث الاقتصادية (RWI)، فإن النيكل والبلاديوم، الذي يستخدم كمحفزات للعمليات الصناعية، يتم انتاجة بدرجة اساسية في روسيا. والكوبالت، الذي يستخدم في صناعة البطاريات والسبائك، يتم استخراجه بشكل اساسي في جمهورية الكونغو الديمقراطية والصين.
الحلول الممكنة لمواجهة نقص المواد الخام الأولية
امام إشكالية ارتفاع أسعار المواد الخام في الأسواق الدولية ومحدودية المصادر المحلية لتوفير هذه المواد الى جانب الارتفاع المتوقع مستقبلاً في استخدام العديد من المعادن والمواد الأكثر ندرة او التي تحتكر انتاجها دولة او عدد محدود من الدول، تبقى إعادة التدوير واحدا من الحلول الأكثر مناسبة لتحسين وضمان توريد المواد الخام.
إعادة التدوير او ما تسمى « التعدين الحضري»، أي استخراج المواد الخام من النفايات، تعد طريقة ناجعة جدا لتوفير المواد الخام، فعلى سبيل المثال، يمكن استخراج طن واحد من النحاس من عشرة إلى 14 طنًا من النفايات الإلكترونية مقابل نفس الكمية من النحاس يتعين استخراج 1000 طن من الصخور في منجم. ولا يزال هناك الكثير من إمكانيات أفضل للاستفادة من النفايات في هذا الجانب حيث يقدر الاتحاد الألماني للمواد الخام الثانوية وتصريفها (BVSE) أنه من بين 1.8 مليون طن من الأجهزة الكهربائية القديمة التي يتم التخلص منها كل عام، ينتهي نصفها فقط في دورة إعادة التدوير، بينما ينتهي الأمر بالعديد من الأجهزة في النفايات المتبقية، في بعض الحالات، يتم إخراجها بشكل غير قانوني من البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن تحسين معدل إعادة التدوير للأجهزة المجمعة. وفقًا ل ـ BVSE، في الوقت الحاضر يمكن بالفعل إعادة تدوير 70 في المئة من المواد من الأجهزة الكهربائية الصغيرة. ومع ذلك، يمكن أن تكون النسبة أعلى إذا أولى المصنعون مزيدًا من الاهتمام لفكرة سهولة تفكيك هذه الأجهزة بعد انقضاء عمرها الافتراضي او خروجها من الخدمة.
استراتيجية الحكومة الاتحادية لتأمين المواد الخام
امام اهمية تامين واردات المواد الخام للاقتصاد تم اقرار استراتيجية المواد الخام الألمانية في عهد وزير الاقتصاد السابق بيتر ألتماير (CDU) في العام 2020م، كما يسعى وزير الاقتصاد الاتحادي الحالي روبرت هابيك في أن تصبح ألمانيا أكثر استقلالية في هذا الجانب. مفوضية الاتحاد الأوروبي تسعى أيضًا الى اقرار قانون يسمى «قانون المواد الخام» الذي يهدف إلى تقليل مخاطر الاختناقات. اتحاد الصناعة الألمانية (BDI) قدم من جانبه خطة لتعزيز توريد المواد الخام المهمة وأيضًا في استخراج المواد الخام المحلية، ويقترح الاتحاد تشجيع التعدين المحلي وجعله «مقبولاً اجتماعياً»، ويضيف الاتحاد ان « استخراج كل طن من المواد الخام المحلية يقلل من الاعتماد على الواردات ويعزز مرونة ألمانيا وأمن التوريد.
كما تتضمن مقترحات اتحاد الصناعة الألمانية (BDI) أيضًا على ضرورة تعزيز التعاون الدولي في مجال المواد الخام وتعدين المواد الخام المهمة في الخارج. حيث تأتي الكثير من المعادن والمواد النادرة بشكل أساسي من آسيا. فإلى جانب الصين ، تعد ميانمار وتايلاند من كبار المنتجين أيضًا للمواد الخام. كما تمتلك فيتنام أيضًا مخزونات واحتياطات عالية غير مستغلة من المعادن الهامة ، مما قد يسمح لألمانيا بتقليل اعتمادها على البلدان الاساسية المصدرة لهذه المواد. بالإضافة إلى ذلك، يرى اتحاد الصناعات ان على الاتحاد الأوروبي تشجيع إبرام الاتفاقيات التجارية مع هذه البلدان.
وبشكل عام تقوم استراتيجية الحكومة الألمانية لتأمين المواد الخام على المحاور التالية التالية:
– اعادة تدوير المعادن النادرة كاحد ( او ما يسمى الاقتصاد الدائري) كاهم الطرق لتأمين امداداتها. وفي هذا المجال ما يزال هناك الكثير مما يمكن عمله حيث لا يقوم الاتحاد الأوروبي حتى الان بإعادة تدوير واحد في المئة من العناصر الأرضية النادرة «مع بعض المعادن الإستراتيجية أو ما يسمى بالمعادن التكنولوجية مثل التنتالوم أو المغنيسيوم، لا تزال هناك بالفعل تدفقات غير مستخدمة لإعادة التدوير». ففي الوقت الحاضر غالبًا ما يتم إعادة استخدام نفايات البناء فقط في تشييد الطرق بدلاً من استعادة المواد المتنوعه في هذه النفايات. وعلى الرغم من ان التكنولوجيا اللازمة متوفرة ، لكن التكاليف المرتفعة والمتطلبات القانونية تقف في طريق تفعيل اعادة التدوير.
– تعزيز تخزين المواد الخام الهامة والاستراتيجية في الشركات، وإذا لزم الأمر، المساعدة على ذلك من قبل الدولة.
– انشاء صندوق حكومي خاص لدعم مشاريع المواد الخام في الداخل والخارج لتوفير القروض والضمانات لتمويل مشاريع استخراج المواد الخام ومعالجتها وإعادة تدويرها، لا سيما في مرحلة التوسع كثيفة رأس المال، أي في المرحلة التي يتم فيها توسيع المشاريع القائمة.
– السعي الى «دور أكثر فاعلية» للحكومة الاتحادية في توريد المواد الخام المهمة» لتحقيق التوازن بين العرض والطلب، وتأمين احتياجات الشركات من المواد الخام بشكل أفضل.
– التنسيق مع الشركات حتى لا تتعرض سلاسل التوريد الخاصة بها للتهديد بالانقطاع او التاخير والتعامل مع هذه المخاطر على المدى المتوسط من أجل سد أي فجوات قصيرة الأجل.
– توسيع التعاون مع البلدان والمناطق المنتجة للمواد الخام وتقليل التبعيات أحادية الجانب وتخفيف الاعتماد على مصادر محدودة.