عانت اغلب كبرى اقتصاديات الدول الصناعية من ارتفاع كبير في معدلات التضخم خلال العامين الماضيين والذي تسبب في ارتفاع كبير في أسعار مختلف السلع والخدمات خصوصا الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والغذاء الامر الذي انعكس في تراجع الاستهلاك وتراجع الانتاج الصناعي وتسجيل معدلات نمو اقتصادي ضعيفة ان لم تعاني بعض الاقتصاديات من انكماش اقتصادي كما كان الحال في المانيا خلال العام 2023م. ولمواجهة هذا التضخم قررت البنوك المركزية في اكثر من دولة بما فيها البنك المركزي الأوروبي(ECB) المسؤول عن السياسات النقدية في منطقة اليورو، رفع أسعار الفائدة البنكية، باعتبارها الوسيلة الأكثر نجاعة في خفض معدلات التضخم العالية.

وابتدأ من خريف العام 2022م، رفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة الأساسية للمرة الأولى منذ مارس 2016م بعد ان استمرت هذه الأسعار عند مستوى صفر في المئة لأكثر من ست سنوات. ووصلت أسعار الفائدة في منطقة اليورو الى أقصاها عند معدل 4.5 في المئة في سبتمبر 2023م، والتي استمرت عند هذا المستوى حتى يونيو 2024م، عندما قرر البنك المركزي الأوروبي تغيير الاتجاه وخفض سعر الفائدة الأساسي بمقدار 0.25 نقطة مئوية إلى 4.25 في المئة، كما أعاد البنك المركزي الأوروبي خفض سعر الفائدة في منطقة اليورو في سبتمبر 2024م على إعادة التمويل من 4,25 في المئة الى 3,65 في المئة وخفض فائدة الودائع في البنوك من 3,75 في المئة الى 3,5 في المئة.

أسباب التضخم في ألمانيا ومنطقة اليورو

ويأتي خفض أسعار الفائدة على الرغم من ان معدلات التضخم في منطقة اليورو ما تزال اعلى من المعدل المستهدف من البنك المركزي الأوروبي والمحدد بنسبة 2 في المئة، حيث أكدت رئيسة البنك كريستين لاغارد «لقد أحرزنا تقدماً كبيراً، لكن معركتنا ضد التضخم لم تنته بعد.» الا ان قرار مسئولي البنك جاء لمساعدة اقتصاديات دول منطقة اليورو على تحقيق نمو حقيقي والحد من مخاطر الانكماش والركود الاقتصادي خصوصا في أكبر اقتصاد في أوروبا وهو الاقتصاد الألماني.

شهد عام 2022م أكبر زيادة في الأسعار شهدتها ألمانيا منذ إعادة تحقيق الوحدة حتى الآن بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة والمواد الغذائية، حيث ارتفعت الأسعار بمتوسط قدره 7.9 في المئة، وفقًا لمكتب الإحصاء الاتحادي. وبلغ معدل التضخم في ألمانيا اعلى مستوى له في نوفمبر 2022م، عندما سجل نسبة 8.8 في المئة. وتمثل هذه النسبة متوسط ارتفاع أسعار كل السلع والخدمات في الاقتصاد الألماني الا ان العديد من السلع، خصوصا من المواد الغذائية، شهدت زيادات تجاوزت نسبة 70 في المئة، كما كان الحال في الزيوت وكذلك نسبة 50 في المئة في منتجات غذائية أخرى مثل الزبدة. وهو ما انعكس على المستهلكين بشكل أكثر وطأة.

ويعود السبب الرئيسي لارتفاع معدلات التضخم في ألمانيا وفي منطقة اليورو الى الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والذي بدأ في العام 2021م، عندما ارتفع متوسط أسعار منتجات الطاقة بشكل خاص بنسبة 10.4 في المئة مقارنة بالعام السابق. وبالنسبة للمستهلكين، كانت هناك زيادات ملحوظة في الأسعار خاصةً لزيت التدفئة الخفيف والوقود، كما ارتفعت أسعار الغاز والكهرباء.

في عام 2022م، استمرت الزيادات في أسعار الطاقة. واشتعلت هذه الزيادات من جهة نتيجة الانتعاش الاقتصادي العالمي بعد التراجع الاقتصادي بسبب كورونا. ولكن السبب الأهم من ذلك، كان في اندلاع الحرب في أوكرانيا والتي أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية بشكل كبير. وكان ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والنفط مرتبطًا بحزمة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على واردات الطاقة من روسيا حيث قررت دول الاتحاد في مايو 2022م، خفض واردات النفط الروسية بنحو 90 في المئة والتخلي التدريجي عن واردات الاتحاد من الغاز الروسي، بالرغم من ان نصف واردات الاتحاد من الغاز الطبيعي وأكثر من ثلث وارداتها من النفط تأتي من روسيا. وأمام صعوبة تعويض حجم هذه الواردات من الأسواق الدولية، خصوصا واردات الغاز الطبيعي، ارتفعت أسعار كل أنواع الطاقة بما فيها الكهرباء وهو ما ساهم أيضا وبشكل جذري في رفع أسعار مختلف المواد الأخرى الاستهلاكية بداية من المواد الغذائية وحتى أسعار الخدمات المختلفة.

العلاقة بين النمو الاقتصادي وأسعار الفائدة

يعد النمو الاقتصادي وأسعار الفائدة عاملين حاسمين يلعبان دوراً مهماً في تحديد اتجاه نمو واستقرار الاقتصاد. وهذان المفهومان متشابكان بشكل وثيق ولهما علاقة معقدة تؤثر على جوانب مختلفة من النظام المالي. ويمكن فهم العلاقة بين النمو الاقتصادي وأسعار الفائدة على أفضل وجه من خلال متابعة السياسة النقدية، حيث تستخدم البنوك المركزية، مثل الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة والبنك المركزي الأوروبي، أسعار الفائدة كأداة للسيطرة على التضخم وتحفيز النمو الاقتصادي أو إبطائه. وعندما يمر الاقتصاد بفترة من النمو المنخفض أو الركود، غالبا ما تختار البنوك المركزية خفض أسعار الفائدة لتشجيع الاقتراض والإنفاق. وهذا بدوره يحفز النشاط الاقتصادي، حيث أن انخفاض أسعار الفائدة يحفز الشركات والأفراد على الحصول على قروض لأغراض الاستثمار أو الاستهلاك. من ناحية أخرى، عندما يشهد الاقتصاد طلبا عاليا على السلع والخدمات سواء بسبب توافر السيولة المالية وارتفاع الميل للاستهلاك او بسبب نقص المعروض من السلع والخدمات او كلا السببين ويصبح التضخم مصدرا للقلق، تقوم البنوك المركزية عادة برفع أسعار الفائدة للحد من الإفراط في الاقتراض والإنفاق حيث يجعل ارتفاع أسعار الفائدة الاقتراض أكثر تكلفة، مما يؤدي إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار. ويساعد هذا الانخفاض في الطلب على إبطاء الاقتصاد ومنع التضخم من الخروج عن نطاق السيطرة.

يمكن ملاحظة مثال رئيسي على العلاقة بين النمو الاقتصادي وأسعار الفائدة خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008م. فمع تكشف الأزمة وتوقف النمو الاقتصادي، قامت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم بخفض أسعار الفائدة بشكل كبير لتعزيز النشاط الاقتصادي ومنع حدوث أزمة ركود اقتصادي طويل. واستمرت أسعار الفائدة المنخفضة تاريخياً لفترة طويلة، مما وفر بيئة مواتية للشركات والأفراد للاقتراض والاستثمار، مما ساعد في النهاية في عملية التعافي.

تأثير تغير سعر الفائدة على النمو الاقتصادي في منطقة اليورو

خفض البنك المركزي الأوروبي (ECB) سعر الفائدة الرئيسي في منطقة اليورو من 4.5 في المئة في شهر يوليو 2024م، إلى 4.25 في المئة. وبالرغم من محدودية هذا الخفض الا ان له اثار مهمة على العديد من القطاعات الاقتصادية وعلى مالية الدول الأعضاء في منطقة اليورو خصوصا ان هذا الخفض يفترض ان يكون خطوة أولى تتبعها خطوات أخرى لخفض الفائدة في الأشهر القادمة.

وتكمن أهمية تغير سعر الفائدة ليس في تعديل الأرقام المباشرة للنمو الاقتصادي او الاستهلاك ولكن، وبشكل أكبر في تغيير اتجاهات المؤشرات الاقتصادية، خصوصا ان التأثير المباشر يحتاج الى فترة زمنية والى مزيد من خفض أسعار الفائدة حتى يكون ملموسًا. هذا التأثير في تغير العديد من المؤشرات الاقتصادية والتي يعد من أهمها على الاطلاق تشجيع الاستثمار والأنفاق من قبل الشركات والمستهلكين حيث يجعل انخفاض أسعار الفائدة تكلفة الاقتراض أرخص مما يسمح للشركات والافراد بإنفاق المزيد من الأموال، بالإضافة الى ان هذا الخفض يؤدي لجعل الاستثمار أكثر جدوى من الادخار وبهذه الطريقة، يمكن لتخفيضات أسعار الفائدة أن تحفز النمو الاقتصادي. الى جانب ذلك يؤدي تحفيز الاستثمار والاستهلاك الى ارتفاع الطلب على العمالة، مما يساهم في خلق فرص عمل جديدة ويعزز سوق العمل.

من التأثيرات المهمة لخفض أسعار الفائدة هي خفض سعر اليورو مقارنة بالعملات الأجنبية الأخرى والذي يتم من خلال قيام المستثمرين الأجانب بتحويل أموالهم إلى العملات التي تدفع أسعار فائدة أعلى من اليورو، والذي سيؤدي الى ان يشهد الطلب على اليورو وسعر صرفه انخفاضا، وهو ما يجعل السلع والخدمات أرخص في الاتحاد الأوروبي وبالتالي يقوي من تنافسية هذه السلع في الأسواق الدولية ويرفع من الصادرات، وهو الامر الهام والحيوي للاقتصاد الألماني القائم بدرجة كبيرة على التصدير.

علاوة على ذلك، استفادت البورصات بشكل كبير مسبقًا من التوقعات بخفض أسعار الفائدة. فقد ارتفع مؤشر الأسهم الألماني (DAX) والذي يضم أكبر 40 شركة في ألمانيا، منذ بداية العام بنحو 12 في المئة، حيث عادةً ما تكون أسعار الفائدة المنخفضة جيدة لأسعار الأسهم. فمن ناحية، يتم تخفيف أعباء الشركات فيما يتعلق بتكاليف القروض، مما يزيد من ربحيتها بشكل عام. ومن ناحية أخرى، تصبح الأوراق المالية مثل السندات أو الودائع الثابتة أقل جاذبية لأنها تحقق عوائد أقل، مما يجعل الأسهم أكثر جاذبية.

كذلك يأمل وزراء المالية في دول منطقة اليورو في تخفيف أعباء القروض الحكومية حيث تصبح هذه الديون أقل تكلفة بعد خفض الفائدة. لهذا السبب، كانت دول اليورو في جنوب اوروبا تطالب بمثل هذه الخطوة، بينما كانت هناك اعتراضات من البنك المركزي الألماني (Bundesbank). حيث انه في نهاية عام 2023م، كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليونان تبلغ 162 في المئة، وفي إيطاليا 137في المئة، بينما كانت تبلغ في ألمانيا 64 في المئة تقريبًا، وهو أقل من المتوسط في الاتحاد الأوروبي البالغ 82 في المئة.

كما تزداد أهمية وتأثير خفض سعر الفائدة في منطقة اليورو عند ملاحظة ان الأغلبية من دول منطقة اليورو سجلت عجوزات في موازناتها خلال العام 2023م بأكثر من الحد المسموح به والبالغ 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي سوف تضطر الى الاستدانة من اجل تمويل هذه العجوزات ودفع فوائد عالية على هذه القروض. حيث كانت نفقات غالبية دول الاتحاد الأوروبي أكثر من إيراداتها في عام 2023م. وتجاوزت إحدى عشرة دولة عضو الحد الأقصى لعجز الميزانية مسجلة عجزا يزيد على ثلاثة بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الاجمالي، وفقا لبيانات مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي يوروستات. وباستثناء قبرص والدنمرك وأيرلندا والبرتغال، أنفقت جميع دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين أموالاً أكثر من إيراداتها. وسجلت إيطاليا أعلى عجز بنسبة 7.4 في المئة، تليها المجر (6.7 في المئة) ورومانيا (6.6 في المئة).

واعتبر Martin Beznoska، كبير الاقتصاديين المتخصصين في السياسة المالية والضريبية في معهد الاقتصاد الألماني (IW) إن النقطة التي تشكل فيها نسبة الدين مشكلة خطيرة لبلد تتمثل في حالة «إذا استمر عبء الفائدة على الميزانية الوطنية في الارتفاع، ففي مرحلة ما سوف تعاني البلاد من عجز بالفعل فقط بسبب الفائدة». وفي أسوأ السيناريوهات، قد يحدث الإفلاس الوطني في مرحلة ما إذا لم تعد أسواق رأس المال تعتقد أن الدولة قادرة على خدمة ديونها.

من جهة أخرى لم يكن لخفض الفائدة نفس الاثار الإيجابية على قطاع البناء، بل على عكس ما هو مفترض ارتفعت الفائدة على القروض العقارية بعد أسبوعين من أول خفض في سعر الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي (ECB) منذ عام 2019م، وتشير شركة الاستشارات المالية Max Herbst (FMH)، ان القيمة الوسطية للفائدة على القروض العقارية تبلغ في الوقت الحاضر 3.66 في المئة مع تثبيت الفائدة لمدة عشر سنوات. قبل شهر، كانت هذه القيمة 3.60 في المئة. ويصف ممولو البناء والمستشارون الماليون خفض الفائدة الذي تم حتى الآن بأنه «غير كافٍ» ليكون له تأثير فعلي في السوق. بالإضافة إلى ذلك، فإن سعر الفائدة الرئيسي الذي خفضه البنك المركزي الأوروبي من 4.5 في المئة إلى 4.25 في المئة هو ما يسمى بـ «سعر إعادة التمويل الرئيسي». والذي بموجبه يمكن للبنوك التجارية اقتراض المال من البنك المركزي الأوروبي لمدة أسبوع على الأقل، ويعتبر هذا قرض قصير الأجل جداً، وليس له علاقة تذكر بالتمويل العقاري طويل الأجل.

بالإضافة الى ذلك تحدد السندات والرهون العقارية سعر الفائدة للقروض العقارية، وتوضح شركة (FMH) ان « أسعار الفائدة في قطاع البناء تعتمد أكثر على معدلات الفائدة التي يكون المستثمرون مستعدين لإقراض الحكومة الألمانية من خلالها في شكل سندات حكومية لمدة 10 سنوات»، وقد ارتفعت عوائد السندات الحكومية الألمانية ذات العشر سنوات منذ بداية العام من 2.1 في المئة إلى 2.43 في المئة، وهذا الارتفاع له أيضًا تأثير على أسعار الفائدة على السندات العقارية، التي غالبًا ما تستخدمها البنوك لتمويل القروض العقارية التي تقدمها. وهذا يعني انه إذا ارتفعت هنا الفوائد، ترتفع أيضًا فوائد القروض العقارية.

وبعد الخطوة الأولى في خفض الفائدة في منطقة اليورو يدور تساؤل حول إلى أي مدى سيستمر البنك المركزي الأوروبي (ECB)، في الخفض التدريجي لأسعار الفائدة في منطقة اليورو. ويعتمد هذا الامر بشكل كبير على التطورات الاقتصادية خلال الفترة القادمة. حيث كانت التوقعات في الأوساط المالية تشير إلى ان خفض الفائدة سيتم في ستة إلى سبع خطوات، لكن التوقعات أصبحت الآن أكثر تحفظًا خاصة أن معدل التضخم في منطقة اليورو ما يزال عند مستوى أعلى من المعدل المستهدف.

ويعتبر Jörg Krämer، كبير الاقتصاديين في بنك Commerzbank، أن خطوة خفض الفائدة كانت خطأ مشيرًا الى استمرار الأسعار المرتفعة. مؤكدًا انه «باستثناء الأسعار المتقلبة للطاقة والمواد الغذائية، فإن أسعار المستهلكين ترتفع بشكل أكبر منذ بداية العام، وبمعدل سنوي يصل إلى 3.5 في المئة، وهو أعلى بكثير من هدف التضخم للبنك المركزي الأوروبي البالغ 2 في المئة». كما يمكن أن يؤدي انتعاش الاقتصاد الأوروبي إلى تعطيل خطط خفض الفائدة للبنك المركزي الأوروبي، فإذا ما سارت الأمور بشكل جيد، فإن خطر تأثير الفائدة العالية على النشاط الاقتصادي سينخفض، وعندها قد يستفيد فقط القطاع المالي، وبنسبة محدودة، من انخفاض الفوائد.