يعيش الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر مرحلة من التضخم العالي وتزايد مخاطر حدوث ركود اقتصادي يشمل الاقتصاديات الكبرى الى جانب اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، هذا التضخم الذي كان جزء منه ناتج عن جائحة كورونا، والذي كان من المفترض ان يتراجع خلال العام 2022م، مع بدأ الاقتصاديات العالمية في التعافي، واصل الارتفاع نتيجة الحرب الروسية على اوكرانيا التي تسببت في ارتفاع كبير في اسعار الطاقة، خصوصا الغاز الطبيعي، وهو ما ادى الى ارتفاع معدلات التضخم الى مستويات قياسية في اكثر من دولة ومنطقة اقتصادية حول العالم.
ومع شمولية التأثيرات السلبية لمعدلات التضخم العاليه على مختلف القطاعات الاقتصادية، فان النظام المالي والمصرفي يعد احد اكثر القطاعات تأثرا بالركود الاقتصادي والتضخم، وفي نفس الوقت فان هذا النظام المصرفي والسياسات النقدية التي يدار بها، هو ايضاً أكثر القطاعات الاقتصادية التي من خلالها يمكن معالجة التضخم وخفضه الى المستويات الآمنة.
القطاع المصرفي الألماني
يعد القطاع المصرفي الألماني واحدًا من أكبر القطاعات المصرفية في العالم. ويتكون هذا القطاع من ثلاث انواع مختلفة من البنوك. اولها البنوك التعاونية، وهي مؤسسات ائتمانية تدار بالشكل القانوني لشركة مساهمة وتنتمي إلى مجموعة بنكية تعاونية (مثل البنك التعاوني الألماني DZ Bank ، البنك التعاوني لغرب ألمانيا ومقره دوسلدورف WGZ Bank) ، ثانياً، البنوك والمؤسسات المالية الحكومية العامة (مثل بنك اعادة التعمير KfW Bank و البنوك التابعة للولايات الفيدرالية Landesbanken ) ثالثاً، البنوك التجارية الخاصة (مثل Deutsche Bank و Commerzbank).
يعرّف قانون البنوك الألماني (KWG) المؤسسات الائتمانية على أنها «شركات تجري معاملات مصرفية معينة على أساس تجاري أو إلى حد يتطلب عملية مالية منظمة تجاريًا». ولهذا لا تعتبر البنوك والمؤسسات المصرفية الحكومية مثل بنك اعادة التعمير او البنوك التابعة للولايات الفيدرالية، مؤسسات ائتمانية بالمعنى المقصود في القانون .
في نهاية عام 2021م ، كان هناك حوالي 1519 بنكًا ومؤسسة ائتمانية في ألمانيا. وفي نفس العام، بلغ إجمالي أصول القطاع المصرفي الألماني حوالي 9 تريليون يورو. كما بلغ صافي الربح المعلن للقطاع حوالي 5.9 مليار يورو، وذلك بحسب ارقام العام 2020م.
مخاطر التضخم على النظام المالي العالمي
لا يوجد قطاع اقتصادي مترابط ومتشابك على المستوى العالمي كما هو قطاع البنوك والمؤسسات المصرفية. بحيث ان اي ازمة في قطاع مصرفي وطني في أحد الاقتصاديات الكبيرة نسبياً تنعكس وبشكل تلقائي وسريع على القطاع المالي المصرفي العالمي وتتسبب في ازمة في بقية القطاعات المصرفية في دول العالم. وهو ما ينعكس بالضرورة على معدلات النمو الاقتصادي. ويبقى أكبر دليل على ذلك الازمة المالية العالمية عامي 2008 و2009م، عندما انهارت احدى المؤسسات الائتمانية الامريكية متسببة في أكبر ازمة مالية عالمية منذ عقود.
كشفت دراسة جديدة للبنك الدولي أن العالم قد يتجه نحو ركود اقتصادي في 2023م، وسلسلة من الأزمات المالية في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية ستُسبِّب لها ضررا دائما، وذلك مع قيام البنوك المركزية في أنحاء العالم بزيادات متزامنة لأسعار الفائدة لمكافحة التضخم.
وتشير الدراسة إلى أن البنوك المركزية في أنحاء العالم قد أقدمت على رفع أسعار الفائدة هذا العام بدرجة من التزامن لم يسبق ان شهدها العالم خلال العقود الخمسة الماضية، وهو اتجاه من المرجح أن يستمر في العام القادم. ولكن المسار المتوقع حالياً لزيادة أسعار الفائدة والإجراءات الأخرى على صعيد السياسات النقدية قد لا تكفي للنزول بمعدلات التضخم العالمية إلى المستويات التي كانت سائدة قبل تفشِّي جائحة كورونا. ويتوقع المستثمرون قيام البنوك المركزية في العالم برفع أسعار الفائدة الأساسية إلى نحو 4 في المئة خلال عام 2023م، وهو ارتفاع يزيد بنقطتين مئويتين عن متوسط أسعار الفائدة العالمية في عام 2021م. وأربع نقاط مئوية عن معدل الفائدة الاساسية في منطقة اليورو والتي ظل معدل الفائدة فيها عند مستوى صفر في المئة لنحو ستة اعوام.
ووجدت الدراسة أنه ما لم يتم اصلاح سلاسل الإمدادات، وضغوط أسواق العمل، فإن تلك الزيادات لأسعار الفائدة قد تُفضي إلى ارتفاع معدل التضخم الأساسي على مستوى العالم (ماعدا أسعار الطاقة) في 2023م، إلى نحو 5 في المئة، وهو ما يعادل تقريبا ضعفي متوسط التضخم العالمي في السنوات الخمس قبل الجائحة. ووفقاً للبنك الدولي ايضاً فإنه لخفض التضخم العالمي إلى المستويات المستهدفة، قد يتعيَّن على البنوك المركزية زيادة أسعار الفائدة نقطتين مئويتين إضافيتين. وإذا صاحبت هذه الإجراءات زيادة الضغوط في الأسواق المالية، فإن معدل نمو إجمالي الناتج المحلي العالمي سيتراجع خلال العام القادم. فالاقتصاد العالمي يمر الآن بـأشد تباطؤ له عقب التعافي من كساد منذ عام 1970م. كما سجَّلت معدلات ثقة المستهلكين على مستوى العالم تراجعاً أشد بكثير مما شهدته في الفترات السابقة على نوبات الكساد العالمي السابقة. وتشهد أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم، وهي الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو، تباطؤاً حاداً للنمو. وفي ظل هذه الظروف، فإن مجرد وقوع صدمة خفيفة للاقتصاد العالمي خلال العام القادم قد تدفع به الى الركود. وفي هذا المجال فان اهم تأثيرات الركود والتضخم العالي على النظام المصرفي يتمثل في حصول ازمة مديونية حيث تعجز الشركات والافراد عن تسديد قروضها وبالتالي ترتفع تكلفة القروض المعدومة على البنوك وتتراجع ربحيتها، وقد يصل الامر في البنوك الصغيرة الى تسجيل خسائر في ميزانياتها الختامية.
مخاطر الركود التضخمي على النظام المصرفي الألماني
حذر البنك المركزي الألماني (Bundesbank) المؤسسات المالية من اجل اتخاذ المزيد من الاحتياطات في ضوء المخاطر المتزايدة على الاستقرار المالي بسبب رفع اسعار الفائدة واحتمالات الركود الاقتصادي. وفي هذا المجال أكدت كلوديا بوخ، نائبة رئيس البنك المركزي الألماني، خلال عرض تقرير الاستقرار المالي 2022م، على انه «يجب أن تكون البنوك قادرة على استيعاب الخسائر بمفردها».
وعلى الرغم من ان البنوك تستفيد من ارتفاع أسعار الفائدة، الا ان العائدات من الخدمات المصرفية الاستثمارية تتراجع بشكل كبير. خصوصا مع تسارع عملية رفع الفائدة سواء في منطقة اليورو او في الولايات المتحدة الامريكية التي تقود مؤسساتها المالية المصرفية النظام المصرفي العالمي. الى جانب ان السوق الأمريكي يمثل أحد اهم الأسواق التي تنشط فيها البنوك الألمانية والأوروبية ومنها أكبر بنك ألماني واوروبي (Deutsche Bank).
محلياً، ووفقًا لدراسة أجرتاها شركة PwC للاستشارات، فإن إيرادات البنوك الألمانية وارباحها من الأعمال المالية سيتضاعف خلال العام الحالي نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة بثلاثة أضعاف ليصل إلى 3.3 مليار يورو. وستصل في العام القادم 2023م، الى 14.8 مليار يورو، وفي العام 2024م، الى 12.6 مليار يورو. والى جانب هذا المستوى من الأرباح، يظهر مديرو البنوك الألمانية ارتياحهم من التخلص من أسعار الفائدة السلبية وأيضًا إزالة رسوم الحفظ لعملائهم.
الا انه ومع التفاؤل الذي تظهره البنوك الألمانية من زيادة الاعمال وارتفاع الإيرادات بعد التحول في أسعار الفائدة، ترتفع أيضا المخاوف من حدوث ركود اقتصادي، حيث انه في حال ما حدث ركود اقتصادي فان حالات التخلف عن سداد القروض سوف ترتفع بشكل حاد. إذ يحذر Martin Faust، أستاذ الإدارة المصرفية في مدرسة فرانكفورت للتمويل والإدارة، من أن الركود سيحبط الآثار الإيجابية لتحول أسعار الفائدة. حيث «ستزيد مخصصات خسائر القروض بشكل كبير، وستكون هناك أيضًا تعديلات على قيمة استثمارات البنوك الخاصة». في سيناريو الركود الاقتصادي، يرى Faust «أن المخاطر تواجه مؤسسات الائتمان التي تمول مطوري العقارات بشكل كبير. بالإضافة الى ان القطاع يعاني من ارتفاع تكاليف البناء بسبب التضخم «، ويشير Faust ايضاً الى ان العديد من بنوك الادخار والبنوك التعاونية قامت بتوسيع أعمالها في مجال التمويل العقاري بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
من وجهة نظر Magdalena Stoklosa، الخبيرة المالية في مؤسسة الخدمات المالية والاستثمارية الأمريكية Morgan Stanley، فإنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الآثار الإيجابية لتحول أسعار الفائدة ستفوق الآثار السلبية للتخلف عن سداد القروض بالنسبة للبنوك. من حيث المبدأ، فإن ارتفاع أسعار الفائدة قد عمل على « تغيير قواعد اللعبة» بالنسبة للمؤسسات المالية الأوروبية. حيث تؤكد Stoklosa «منذ إدخال أسعار الفائدة السلبية، انخفضت ربحية القطاع المصرفي الأوروبي بشكل كبير». حيث «لم يكن أي بنك يمتلك نموذج أعمال مناسب لمثل هذا السيناريو».
وفي سياق متصل، أظهرت دراسة لوكالة التصنيف الائتماني موديز، أن البنوك الكبيرة في ألمانيا ستستفيد أكثر من ارتفاع أسعار الفائدة مقارنة بالمؤسسات المالية الصغيرة التي تركز على العملاء من القطاع الخاص. وقال Bernhard Held الخبير المصرفي في الوكالة «نتوقع أن تستفيد البنوك الأكبر في ألمانيا لأن آثار إعادة تسعير معدلات الإقراض ستعوض الزيادة في تكاليف التمويل والمخاطر». من ناحية أخرى، تمتلك البنوك الأصغر حصة كبيرة نسبيًا من القروض العقارية بأسعار فائدة ثابتة وطويلة الأمد في ميزانياتها العمومية، ووفقًا لدراسة موديز، سيمر وقت طويل قبل أن تجري هذه البنوك تعديلات على الأسعار. هذا بالإضافة الى ان البنوك الصغيرة غالبًا ما تستثمر ودائعها الزائدة في السندات طويلة الأجل بأسعار فائدة منخفضة نسبيًا والتي فقدت جزء من قيمتها الآن بسبب ارتفاع أسعار الفائدة في السوق.
وبناء على هذه المعطيات يمكن القول ان مخاطر الركود الاقتصادي والتضخم على القطاع المصرفي تتركز في النقاط التالية:
– غالبًا ما يؤدي الركود إلى خسائر للبنوك في قيمة الأسهم والاوراق المالية التي تستثمر فيها. كما يمكن أن تؤدي المستويات المرتفعة من ديون الشركات أو الأسر إلى زيادة احتمالية تعثر تسديدها لهذه القروض وهو ما يضعف مرونة النظام المالي. وهنا يمكن للنظام المالي الضعيف أن يعيق بشكل كبير معدلات النمو الاقتصادية للبلد.
– يؤدي الركود الاقتصادي الى خفض اسعار العقارات، التي تعد أحد أبرز الاصول التي تقدم كضمانات للحصول على قروض التمويل سواءً كان هذا التمويل استثمارياً او كان تمويلاً عقارياً، وهو ما سيؤدي الى تراجع القدرة على الاقتراض والحصول على تمويل مالي، مما سينتج عنه تراجع اساسي في نمو الاقتصاد، الى جانب تراجع الاعمال في القطاع المصرفي.
– تتوقع البنوك والمؤسسات المصرفية انخفاض الطلب على الائتمان والقروض على مدار العام القادم 2023م، بسبب التباطؤ الاقتصادي. وهو على عكس ما شهده النصف الاول من العام 2022م، حيث تم تسجيل زيادة كبيرة في عدد الشركات التي كانت في مفاوضات ائتمانية مع البنوك في الربع الثاني (23 في المئة مقارنة بالربع السابق). وبشكل خاص ازداد الطلب على القروض قصيرة الأجل، التي تستخدمها الشركات لتمويل الزيادة في أسعار الطاقة والمواد الخام ولتلبية الحاجة إلى تخزين الطاقة والمواد الخام والمواد الوسيطة.
ويرافق هذه التطورات في معدلات التضخم والركود الاقتصادي المحتمل زيادة في معايير الإقراض وسياسة إقراض أكثر تقييدًا من جانب البنوك. وبشكل عام، وعلى الرغم من هذه السياسة التقييدية، فلا توجد حاليًا علامات على وجود أزمة ائتمانية في النظام المصرفي الألماني. على العكس من ذلك، وبالمقارنة مع بقية الدول الأوروبية، لا يزال الوصول إلى الائتمان والحصول على القروض في ألمانيا مستقراً.