يعد حجم ومدى مشاركة المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية في أي مجتمع أحد اهم المؤشرات على مدى تقدم هذا المجتمع وتمتعه بالحرية والديناميكية وكذلك أحد اهم الدلالات على الدرجة التي وصلت اليها المساواة والعدالة فيه، وعلى الرغم من المستوى الذي وصلت الية المرأه وحققته في المجتمعات الاوربية عامة والمجتمع الألماني خاصة الا ان عملية تحقيق العدالة وتساوي الفرص بين الرجل والمرأة في قطاعات عديدة ما تزال مهمة غير منجزة وهدفا ينتظر تحقيقه تجاوز عقبات كثيرة وقطع مراحل ليست بالقصيرة.
فحتى الوقت الحاضر ما تزال المرأة في ألمانيا تتلقى راتباً اقل من الرجل بمتوسط يصل الى 21% عن أداء نفس العمل او الوظيفة، يضاف الى ذلك ان نسبة النساء في المواقع القيادية ومراكز صنع القرار في المؤسسات الخاصة في العديد من قطاعات الاقتصاد اقل بمراحل عما تمثله النساء من نسبة في المجتمع، فبينما تبلغ نسبة عدد النساء الخريجات من الجامعات او ذوات التعليم والتأهيل العالي نحو 48% من مجموع الخريجين الإجمالي، تتضاءل نسبة حضورهن كلما صعدنا في السلم الوظيفي اذ ما تزال النساء يشغلن فقط كل رابع منصب قيادي في قطاع الاعمال الخاصة وهو الحال المستمر دون تغيير أساسي او جذري منذ اكثر من عشرة أعوام حيث كانت النساء يشغلن في عام 2004 ما نسبته 24% من المناصب القيادية العليا فيما بلغت نسبة شغلهن لهذه المناصب في عام 2014م نحو 29% فقط. ولا يقتصر تراجع شغل المرأة للمواقع القيادية العليا على القطاعات الاقتصادية المختلفة بل يشمل أيضا قطاعات أخرى داخل مؤسسات المجتمع والدولة فعلى سبيل المثال في قطاع التعليم العالي وعلى الرغم من التقارب بين نسبة الطلاب ونسبة الطالبات المسجلين في الجامعات. الا ان موقع المرأة يتراجع على مستوى قمة الهرم التعليمي والمتعلق بأعداد أساتذة الجامعات المحاضرين حيث لا تشغل النساء أكثر من نسبة 27% فقط من قوام أعضاء هيئة التدريس العليا، وفي العام 2015 كانت نسبة النساء في قطاع أساتذة الجامعات اقل من الربع.
هذه الحقائق حول نصيب النساء من المراكز القيادية العليا في قطاع الاعمال وضعت ألمانيا في مركز متأخر بالمقارنة مع العديد من دول الاتحاد الأوروبي، إذ ان متوسط وجود المرأة في مناصب الإدارة العليا على المستوى الأوروبي بحسب مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني هو الثلث تقريبا (33 %) بمعنى ان ثالث منصب قيادي عال تشغله امرأة، وفيما تقبع ألمانيا تحت هذا المتوسط تعد لاتفيا، احدى دول البلطيق، أكثر الدول الاوربية تقدما في هذا المجال بنسبة 44% تليها المجر بنسبة 40% ثم بولندا ولتوانيا بنسبة 39% لكل منها وتعد قبرص أوروبيا الأقل في نسبة شغل النساء لمراكز قيادية عليا في القطاعات الاقتصادية المختلفة بنسبة 17% فقط.
الدور القيادي للمرأة
محطات تاريخية
مشاركة المرأة في المجالين السياسي والاقتصادي لم تكن تاريخيا شيئا مسلما به في ألمانيا فبين الطبيعة العسكرية التي اتصفت بها مملكة بروسيا (ما تشكل اليوم جزءا كبيرا من ولايات شمال ألمانيا) وبين الطبيعة التقليدية المحافظة التي اتصفت بها مملكة بافاريا (اهم ولايات جنوب ألمانيا واكبرها حاليا) لم تكن الفرص متاحة بسهولة للمرأة في ألمانيا للعب أدوار محورية سياسيا او اقتصاديا. في المراحل التاريخية التالية لعبت حزمتين من العوامل دورا رئيسيا في اتاحة الفرصة للمرأة للاندماج في هيكل الاقتصاد المحلي الألماني وحصولها على مراكز قيادية متقدمة في إطاره وهاتين الحزمتين من العوامل تمثلتا في الحاجة الى المرأة كقوة عاملة ودور الأيدلوجيا والتغيرات السياسية والاجتماعية.
مثلت الحاجة الى النساء كقوة عاملة دافعا رئيسيا لزيادة دورها ومشاركتها في مختلف نشاطات المجتمع ومنها الاقتصاد وقد نتجت الحاجة الى المرأة كعاملة وموظفة بشكل رئيسي عن الحروب التي خاضتها ألمانيا سواءً في الحرب العالمية الاولى الى حد ما والحرب العالمية الثانية بشكل أساسي وذلك اثناء الحرب او في المرحلة التي اعقبتها، اذ أدى غياب الحجم الأكبر من القوة العاملة من الرجال في جبهات القتال الى ان تشغل النساء أماكن العمل الشاغرة سواء في المصانع ومواقع الإنتاج المختلفة او في الوظائف والمواقع الحكومية، وعقب انتهاء الحرب وكنتيجة حتمية للعدد الهائل للضحايا من الجنود و كذلك للحاجة الملحة للقوة العاملة في مرحلة إزالة انقاض الحرب وإعادة الاعمار وأيضا في مرحلة متأخرة عن ذلك اثناء عملية النهضة الاقتصادية التي شهدتها ألمانيا نهاية عقد الخمسينات وما بعدها والتي سميت ب» المعجزة الاقتصادية الألمانية « انخرطت المرأة في ألمانيا بكثافة في مختلف انواع الاعمال والوظائف وزادت مساحة حضورها في مختلف مستويات الإدارة ان كانت في القطاع الحكومي ام كانت في قطاع الاعمال والشركات الخاصة.
من جهة أخرى لعبت التغيرات السياسية والاجتماعية الجذرية التي شهدتها ألمانيا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية دورا محوريا في تغيير التصورات المجتمعية لدور المرأة من ناحية الحقوق ومن ناحية القُدرات، وان تم ذلك في إطار تحول تدريجي استغرق مدىً زمنياً بعشرات السنين، وقد بدأ هذا التحول بنص الدستور الألماني، والذي اُقر في 1949 على ان « الرجال والنساء متساوون» وهي العبارة التي لم تكن من المُسلمات قبل ذلك، حد وصف المستشارة انجيلا ميركل، الا ان احدى اهم واولىَ الخطوات في هذا الاطار استغرقت نحو 12 عاما حتى تتحقق وذلك في عام 1961 حين تم للمرة الأولى تعيين إمرأة في منصب وزاري في ألمانيا والتي شغلته السيدة اليزابيث شفارتزهوبت (1901 – 1986) التي عُينت وزيرةً للصحة في الحكومة الاتحادية الألمانية واستمرت تشغل هذا المنصب حتى العام 1966م. خلال نفس الحقبة، الستينات، شهدت حركة الحقوق النسوية انتشارا وانتعاشا ليس فقط في ألمانيا بل في اغلب دول أوروبا تاركة اثرا مهما على الوعي الشعبي بأهمية واحقية المرأة بالاضطلاع بأدوار اكثر تأثيرا في المجال العام سياسيا كان ام اقتصاديا، وقد اخذ هذا الامر أيضا زمناً ليس بالقصير حتى يتحول الى جزء من سياسة وبرنامج الحكومة الألمانية حيث تم للمرة الاولى اعتبار دعم دور المرأة مسؤولية حكومية عبر إضافة تسمية المرأة عام 1986 الى تسمية وزارة الشباب، العائلة والصحة لتصبح وزارة الشباب، العائلة، المرأة والصحة وذلك تحت إدارة الوزيرة آنذاك ريتا زوسموت. هذا التغيير اعٌتبر من الأهمية والرمزية ان يتم هذا العام الاحتفال بالذكرى الثلاثين لحدوثه وبحضور المستشارة الألمانية انجيلا ميركل.
قانون الكوتا النسائية
مقدمات ونتائج
مع بداية العام 2016 دخل قانون الكوتا النسائية حيز التنفيذ، ويقوم منطوق هذا القانون على تحديد نسبة الزامية لنسبة وجود النساء في مجلس ادارة الشركات الكبرى والمتوسطة وفي المناصب القيادية العليا فيها تبلغ 30%. وبهذا، وبداية من شهر يناير من العام الحالي، أصبحت حوالي 151 شركة كبرى مدرجة في سوق الأوراق المالية « البورصة» ملزمة قانونا مع إعادة او تجديد اختيار أعضاء مجلس ادارتها بان تشغل النساء نسبة 30% من مقاعده كحد أدنى وفي حالة عدم نجاحها في تحقيق هذه النسبة فعلى هذه الشركات إبقاء المقاعد المخصصة للنساء خالية. في نفس الوقت وُضعت خطط ملزمة لحوالي 3500 شركة متوسطة الحجم في القطاع الخاص تقضي برفع نصيب النساء من المراكز القيادية العليا بنسبة 30%، كما ان هذه النسبة ملزمة أيضا للمؤسسات وللقطاعات الحكومية.
اصدار هذا القانون مثّل إنجازا مهما بالنسبة لأنصار تعزيز دور المرأة الاقتصادي وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل في الأجور والفرص الوظيفية رغم المعارضة التي ووجه بها القانون والتي قامت على أسباب عدة كان من ضمنها رأي المعترضين على القانون بترك مسألة الحصول على مراكز وظيفية متقدمة لقوانين المنافسة ومعايير القدرة والكفاءة دون فرض اية نسبة الزامية كل ما ستؤدي اليه هو الغاء تساوي الفرص والغاء المساواة وليس تحقيقها. وان تحديد نسبة ثابته تحصل عليها النساء سوف يؤدي بهن الى الركون وسيؤدي كذلك الى اضعاف روح المثابرة والتنافسية لديهن وسينعكس كذلك في شعور بالغبن لدى زملائهن الذكور. في المقابل رأى مؤيدو القانون ان إقرار الكوتا النسائية هو اعتراف بقدرات المرأة ودورها في المجتمع والذي لا يقل عن الرجال وفقا للعديد من المعطيات والتي منها ان النساء يمثلن ما نسبته 55% من خريجي الدراسة الثانوية كما تبلغ نسبة النساء العاملات من مجموع النساء 68% فيما تبلغ هذه النسبة لدي الرجال 77,6% (وفقا لإحصائيات عام 2012م) مما يعد دلالة على مدى اتساع واهمية المشاركة النسائية في سوق العمل في ألمانيا. وبالنسبة أيضا لمؤيدي الكوتا النسائية فأن فرص المرأة لا تتساوى مع الرجل في إمكانية النفاذ الى المراكز القيادية العليا في الشركات بسبب الوظيفة التي تقوم بها المرأة في المجتمع كأم في تكوين العائلة والحفاظ عليها وما يفرضه ذلك عليها من تقسيم وقتها وجهدها بين العمل والعائلة، وان الكوتا النسائية، الى جانب انها تمثل اعترافا بأهمية دور المرأة كأم، هي اعتراف أيضا بقدراتها العملية والوظيفية وكذلك هي وسيلة لتحقيق مزيد من العدالة والمشاركة للمرأة في إدارة وقيادة المؤسسات الاقتصادية.
وعلى قدر ما يبدو تنفيذ قانون الكوتا النسائية في ألمانيا خطوة متقدمة في مجال تمكين المرأة الا انها تبدو أيضا خطوة متأخرة بعض الشيء، حيث سبقت العديد من الدول الأوروبية ألمانيا في هذا المجال، وتعد النرويج اول دولة اوروبية تقر نسبة اجبارية من النساء في المناصب القيادية العليا في شركات القطاع الخاص حيث اقر القانون الذي صدر في العام 2003 وبدأ سريانه عام 2006 على ان تمثل النساء ما لا يقل عن نسبة 40% من عدد اعضاء مجلس إدارة الشركات الكبرى فيما اقر البرلمان الفرنسي منتصف يناير عام 2011 قانونا يلزم الشركات الكبرى بتخصيص 40% من مقاعد مجالس ادارتها للنساء وأعطى القانون هذه الشركات مهلة ست سنوات لتنفيذ ذلك، اسبانيا اقرت في عام 2007 قواعد تنص على ان الشركات المسجلة في سوق الأوراق المالية «البورصة» او تلك التي تشغل ما يزيد عن 250 عامل تتشكل مجالس ادارتها بالمناصفة بين الجنسين وكهدف رئيسي ان تشكل النساء على الأقل 40% من مجالس الإدارة في الشركات الكبرى حتى العام 2015 وكحافز لهذه الشركات لتحقيق هذا الهدف أعطت لها الحكومة الاسبانية الأفضلية والاولوية في تنفيذ العقود الحكومية. في ايسلندا يسري قانون منذ عام 2013 ينص على ان تكون نسبة النساء 40% من مجالس إدارة اية شركة توظف أكثر من 50 عاملا. بلجيكا اقرت قانونا نهاية العام 2011 يلزم الشركات الخاصة او الشركات التي تخضع للرقابة الحكومية ان تمثل النساء ثلث مجالس ادرتها. هولندا من جهتها حددت بالقانون العام 2015 كبداية لنفاذ نسبة 30% الاجبارية لعضوية النساء في مجالس إدارة الشركات الخاصة المسجلة في البورصة او تلك التي توظف أكثر من 250 عاملا. وعلى نفس المنوال فرضت إيطاليا بالقانون بداية من العام 2015 ان تمثل النساء في مجالس إدارة الشركات المسجلة في البورصة او تلك التي تخضع للسيطرة الحكومية بنسبة الثلث كحد أدني.
نتائج قانون الكوتا النسائية
اظهرت النتائج الأولية لتطبيق قانون الكوتا النسائية بعد مرور أكثر من سته أشهر من بدء سريانه عن التأثير الإيجابي للقانون على نسبة مشاركة المرأة في المناصب العليا في قطاع الاعمال الألماني حيث، وبحسب وزيرة شئون المرأة الاتحادية مانويلا شفيزيج، فقد أعادت 50 شركة كبرى تشكيل مجلس ادارتها بحيث أصبحت نسبة النساء فيها 30% تقريبا. وبشكل عام وبحسب صحيفة «هاندلزبلات» الألمانية فان ثلثي الشركات الألمانية المسجلة في بورصة فرانكفورت او ما يطلق عليها « شركات داكس» على اسم مؤشر داكس الخاص بالبورصة، أنجزت تغيير وإعادة تشكيل مجالس اداراتها لتتضمن نسبة 30% المقررة للنساء. وبحسب معطيات الصحيفة فقد استطاعت عدد من الشركات الكبرى تخطي نسبة ال 30% من مثل شركة بي ام دبليو لصناعة السيارات وشركة سيمنز 30%، اديداس 31%، دويتشه بنك 37%، دويتشه بوست ودويتشه تيليكوم 40%، ميديا اس أي 44% فيما ما تزال العديد من الشركات الألمانية الكبرى بعيدة عن تحقيق هذه النسبة والتي تعد أبرزها شركة دايملر لصناعة السيارات بنسبة 25%، باير للصناعات الدوائية 25%، وشركة صناعة السيارات الأكبر في ألمانيا فولكسفاغن بنسبة 15% فقط.
وفي المنظور العام حول واقع تولي المرأة لمناصب عليا في الهيكل الإداري اظهرت دراسة لمعهد أبحاث سوق العمل والوظائف الحكومي (أي اية بي) حول شغل النساء لمواقع قيادية عليا في قطاعات الاقتصاد الألماني المختلفة ارتفاع حظوظ النساء في شغل المناصب القيادية العليا في الشركات الصغيرة أكثر منها في الشركات الكبيرة وكذلك ارتفاع حظوظهن في شغل هذه المناصب في ولايات شرق ألمانيا أكثر من غربها. كما أظهرت الدراسة حضورا قويا للمرأة في المراكز القيادية في قطاعات الصحة والتربية بنسبة 43% ثم في قطاع الفندقة 39%، قطاع تجارة التجزئة 38%، فيما تعد قطاعات البنوك، التأمين والبناء والتشييد الأقل في هذا المجال بنسبة 12% فقط.
في الجانب الاخر تظهر بيانات الحكومة الاتحادية الألمانية ان المرأة تلعب دورا قياديا متزايدا في المؤسسات والشركات التي تسيطر عليها او تساهم فيها الحكومة الاتحادية حيث بلغت نسبة شغلهن للمواقع القيادية العليا في هذه الشركات نسبة 36% وهي ما تمثل نسبة أكبر من تلك التي فرضها قانون الكوتا النسائية.
مستقبل المرأة في قيادة الشركات
ان قضية المساواة بين الرجال والنساء في الأجور والفرص داخل إطار سوق العمل في ألمانيا باعتبارها قضية شائكة استغرقت وتستغرق وقت طويلا في النقاش والاختلاف ما تزال بحاجة الى المزيد من القوانين والقواعد لإنجازها. وإذا كان قانون الكوتا النسائية سيساهم في حصول المرأة على فرص أكثر عدالة في الترقي الوظيفي واستلام زمام المبادرة والقيادة الا انه لا يعد كافيا لتحقيق ذلك بدون استكمال منظومة التشريعات المتعلقة بهذه المسألة والتي يأتي منها مثلا قانون المساواة في الأجور بين الجنسين، وهو أحد التشريعات التي عبرت المستشارة ميركل عن املها في إنجازه قبيل الانتخابات البرلمانية القادمة. ويبقى العائق الأساسي في مواجه حياة مهنية ناجحة للمرأة مرتبط دائما بقضية التوفيق بين الوظيفة والعائلة والتي يجب ان تصبح قضية يعمل المجتمع بمجملة على إنجازها لا ان تترك المرأة وحيدة في مواجهتها، وبقدر النجاح في تحقيق هذا التوافق، والذي نجحت دول مثل فنلندا في إنجازه، بقدر ما سيتحدد مستقبل دور المرأة في حركة الاقتصاد في ألمانيا سواءً كموظفة او كمديرة.