قام المستشار الألماني اولاف شولتز في بداية شهر نوفمبر بزيارة للصين برفقة وفد اقتصادي يمثل كبريات الشركات الألمانية. الزيارة على أهميتها لم تدل على تحسن في العلاقات بين البلدين بقدر ما اثارت العديد من التساؤلات وفرضت الكثير من النقاشات والمراجعات بخصوص هذه العلاقات، وبالذات من الجانب الألماني. وتتركز هذه النقاشات في الحاجة المتزايدة للاقتصاد الألماني للمواد الأولية الصينية واعتماد قطاعات صناعية هامة في ألمانيا على الأسواق الصينية. وزاد من حدة هذه المناقشات المعاناة التي يعيشها الاقتصاد الالماني في الوقت الحاضر بسبب الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية وخصوصا الغاز، وهي المعاناة التي يمكن ان تتكرر وبمستوى أكثر خطورة بسبب الاعتماد على المواد الأولية والاعمال التجارية مع الصين.
تعد الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا، حيث وبحسب ارقام العام 2021م، بلغت قيمة البضائع المتبادلة بين البلدين 246.5 مليار يورو وهو ما يعني ان الصين أهم شريك تجاري لألمانيا في عام 2021م، وذلك للعام السادس على التوالي. تليها هولندا في المركز الثاني بحركة بضائع بلغت 206.2 مليار يورو والولايات المتحدة في المركز الثالث بحجم تبادل تجاري بلغ 194.3 مليار يورو. كما تعد الصين ثاني مشتر للبضائع والسلع الألمانية في العالم وبقيمة 103.6 مليار يورو بعد الولايات المتحدة الامريكية التي استوردت بضائع المانية بقيمة 122 مليار يورو. وتعد الصين كذلك أكبر مصدر للسلع الى ألمانيا بقيمة 143 مليار يورو وبفارق كبير عن المركز الثاني في قائمة الدول المصدرة لألمانيا والتي احتلته هولندا بقيمة صادرات بلغت 105 مليار يورو. وبينما حققت ألمانيا فوائض تجارية مع اهم شركائها التجاريين في العام 2021م، مثل الولايات المتحدة (49.7 مليار يورو) وفرنسا (40.8 مليار يورو) والمملكة المتحدة (32.8 مليار يورو)، الا انها سجلت عجزاً تجارياً مع الصين في نفس العام بقيمة 39.4 مليار يورو.
ولا يبدو الاعتماد الألماني على الصين مقتصرا على تبادل السلع والبضائع وحسب بل يتجاوزه الى استثمارات الشركات الألمانية، حيث ان أكثر من 40 في المئة من جميع الاستثمارات الأوروبية في الصين خلال العام 2021م، ترجع الى شركات صناعة السيارات الألمانية. وتتمثل أهمية السوق الصيني لهذه الشركات من كونها أكبر سوق سيارات في العالم، فعلى سبيل المثال تحقق مجموعة فولكس فاجن نصف أرباحها من مبيعاتها في الصين. كما ان هناك تعاون مكثف أيضا في البحث والتطوير حيث تمتلك مجموعة فولكس فاجن أسهمًا في شركة تصنيع خلايا البطاريات الصينية Gotion Hightech.
ولا تقتصر الاستثمارات الألمانية في الصين على شركات صناعة السيارات بل تستثمر الشركات الألمانية من مختلف القطاعات بكثافة في ثاني أكبر اقتصاد في العالم. من ذلك تقوم مجموعة BASF للصناعات الكيميائية حاليًا ببناء مصنع بقيمة 10 مليارات دولار في مقاطعة قوانغدونغ جنوب الصين. كما تخطط سلسلة بيع المواد الغذائية بالتجزئة Aldi لفتح مئات المتاجر الجديدة في الصين.
ومع كل الفرص الاقتصادية التي تقدمها العلاقات الصينية الألمانية الا ان العديد من المخاطر والعقبات تظهر في إطار هذه العلاقات، حيث يحذر اتحاد الصناعات الألمانية (BDI) من مزيد من التبعية في صناعة السيارات، حيث ان الاعتماد الألماني على العناصر الأرضية النادرة التي تحتكر الصين تعدينها الى حد بعيد، مثل الليثيوم، اللازم لبطاريات السيارات الكهربائية، أكبر بالفعل من الاعتماد على الغاز الروسي. كما تشتكي الشركات الألمانية من عدم المساواة في الوصول إلى السوق الصيني. على سبيل المثال، تُمنح الشركات الصينية المملوكة للدولة الأفضلية عندما يتعلق الأمر بالقروض المصرفية أو المناقصات العامة.
في الجانب الاخر وعلى الرغم من تراجع الاستثمارات الصينية في ألمانيا بالمقارنة بالسنوات الماضية الا انها ما تزال تثير الكثير من الجدل وتجذب المزيد من الاهتمام العام خصوصا في صفقات الاستثمار التي تشمل البنية التحتية الأساسية والحيوية او في صفقات الاستثمار التي تتركز على بعض القطاعات الصناعية الاستراتيجية. ومن ذلك النقاشات والمفاوضات التي تمت في إطار الحكومة الاتحادية بخصوص دخول شركة Cosco الصينية المملوكة للحكومة في بكين كمستثمر في احدى محطات الحاويات في ميناء هامبورج، وانتهي القرار بخفض نسبة مشاركة الشركة الصينية من 35 في المئة من أسهم المحطة الى نحو 24.5 في المئة فقط وبحيث تفقد شركة Cosco إمكانية السيطرة على المحطة او توجيه سياستها وقراراتها. كما رفضت الحكومة الألمانية عروض لشركات الصينية بالاستثمار في شركتين ألمانيتين متخصصتين في صناعة الرقائق الالكترونية، إذ كشف وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، أن الحكومة منعت استحواذ مستثمرين صينيين على شركتين ألمانيتين، وأعلنت وزارة الاقتصاد أن الحكومة حظرت شراء شركة “سيليكس” السويدية، التي تملكها مجموعة “ساي مايكرو إليكتريكس” الصينية، لمصنع تابع لشركة “إيلموس” الألمانية لتصنيع الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، كما حظرت صفقة أخرى تتعلق باستحواذ مستثمر صيني على شركة “اي آر اس إيليكترونيك” في ولاية بافاريا، وهي شركة توفر تقنية التبريد لمصنعي الرقائق الالكترونية.
وفي هذا الجانب يقول ماكس زنجلين من معهد مركاتور لدراسات الصين في برلين (Mercator Institute for China Studies)، ان الاستثمارات الصينية لا تتعلق بالأعمال فقط، حيث ان “الاختلاف الأساسي هنا هو أننا لا نستطيع التظاهر بأن شركة مثل Cosco هي شركة لوجستية عادية، هذه المقارنة غير واقعية، إنها شركة مركزية مملوكة للدولة وهي في النهاية أداة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للحكومة”. “لذلك، فإن التعامل مع الصين لا يتعلق فقط بالمخاطر الاقتصادية بل بالأمن القومي.”