تعد الصناعات الكيميائية (بما فيها الصناعات الدوائية) قطاعًا رئيسيًا للاقتصاد الألماني وجزءًا لا يتجزأ من سلاسل وشبكات القيمة المضافة، وتوصف الصناعة أيضا بانها احدى أكثر الصناعات المنتجة للابتكارات، هذا الى جانب الدور التقليدي الذي تلعبه في الاقتصاد سواء من حيث الإيرادات المحققة أو نسبة الصادرات أو المساهمة في سوق العمل. وتشمل الصناعات الكيميائية بالمعنى الأوسع تلك الصناعات التي تتعامل بشكل حصري أو أساسي مع تحويل المواد الطبيعية وإنتاج المواد الخام الاصطناعية. ووفقًا لتوصيف مكتب الإحصاء الاتحادي ، يدخل ضمن اطار الصناعات الكيميائية المصنعون للمنتجات التالية: المواد الأساسية والمواد الكيميائية غير العضوية، المواد الخام والمواد الكيميائية العضوية، الأسمدة ومنتجات معالجة النباتات والمبيدات والبلاستيك والمطاط الصناعي، المنتجات الكيميائية الأخرى (المواد اللاصقة ، الجيلاتين ، المواد المساعدة في صناعة الجلود، المنسوجات، الأصباغ، الورق، مواد حماية المباني، المنتجات الكيماوية الضوئية، الصابون، مواد التنظيف، منتجات العناية الشخصية (مستحضرات التجميل)، المواد الحافظة، منتجات الألعاب النارية والمتفجرات. وتعد صناعة الادوية والمستحضرات الصيدلانية فرع مهم من الصناعة الكيميائية، حيث تمثل المنتجات الصيدلانية أكثر من 20 في المئة من إجمالي إنتاج قطاع الصناعات الكيميائية.

الأهمية الاقتصادية لقطاع الصناعات الكيميائية

تعتبر الصناعات الكيميائية من أهم فروع الصناعة في ألمانيا حيث بلغت مبيعاتها أكثر من 186 مليار يورو العام 2020م، وهي بذلك تعد القطاع الاقتصادي الثالث من ناحية قيمة الإيرادات بعد صناعة السيارات وصناعة المعدات والآلات الصناعية. ويعمل في القطاع أكثر من 464 ألف موظف، وهي بهذا أيضا تحتل المركز السادس ضمن القطاعات الاقتصادية الأكثر تشغيلا للعمالة في القطاع الصناعي في ألمانيا بعد صناعة الآلات والمعدات، صناعة السيارات، الصناعات الكهربائية وصناعة المعادن الى جانب صناعة الأغذية. تستثمر شركات القطاع ما يقرب من 7 مليار يورو في ألمانيا، بيانات العام 2018م، وبذلك تحتل المرتبة الثانية بعد صناعة السيارات في حجم الاستثمارات الداخلية. كما تعد الصناعات الكيميائية أحد القطاعات الثلاثة الأكثر ابتكارًا والأبحاث المكثفة اذ تقوم شركات القطاع بإنفاق أكثر من 10 مليارات يورو كل عام على البحث والتطوير. كما تعد الصناعات الكيميائية من أكثر القطاعات تصديراً، حيث تحتل ألمانيا المركز الأول في هذا المجال على مستوى القارة الأوروبية والرابع على مستوى العالم بعد الصين والولايات المتحدة واليابان.

تنتج الصناعة الكيميائية مجموعة واسعة من المنتجات، بداية من مستحضرات التجميل إلى شراب السعال وألياف النسيج ومن المواد اللاصقة إلى الأسمدة، وغيرها من المنتجات التي تُستخدم في جميع مجالات الحياة. ويذهب حوالي 17 في المئة فقط من المنتجات الكيميائية مباشرة إلى المستهلك النهائي، بينما تتوجه ما يقرب من 80 في المئة من منتجات الصناعة الى القطاعات الصناعية الأخرى المختلفة خصوصا في صناعة البلاستيك وصناعة السيارات وصناعة التعبئة والتغليف وصناعات البناء.

هيكل الصناعات الكيميائية

تنتمي حوالي 2000 شركة في ألمانيا إلى قطاع الصناعات الكيميائية، أكثر من 90 في المئة منها عبارة عن شركات صغيرة ومتوسطة الحجم، أي الشركات التي يقل عدد موظفيها عن 500 موظف. تولد الشركات الصغيرة والمتوسطة في الصناعات الكيميائية ما يقرب من ثلث المبيعات وتوظف أكثر من ثلث الموظفين في الصناعة بأكملها. في الصناعات الكيميائية، لا تعتبر الشركات المتوسطة الحجم شركات منتجة اصلية للمنتجات الكيميائية، بل هي شركات صناعية وسيطة حيث تقوم بمعالجة المواد الكيميائية الأولية التي تصلها من الشركات الكبيرة، والتي تقوم هي بدورها في معالجتها بشكل أكبر وتحويلها الى منتجات نهائية. وتتخصص الشركات الصغيرة والمتوسطة في انتاج مواد كيميائية مثل الورنيش والدهانات والمواد اللاصقة والأثاث وتلميع الأحذية والمستحضرات الصيدلانية أو مواد التنظيف.

تطورات الصناعات الكيميائية خلال ازمة كورونا

حتى قبل أزمة كورونا، لم تكن الشركات العاملة في صناعة الكيماويات والأدوية متفائلة جدًا بشأن عام 2020م وتوقعت زيادات طفيفة في الإنتاج والمبيعات، اذ كان عام 2019م عامًا صعبًا بالنسبة لقطاع الصناعات الكيميائية بسبب التباطؤ الاقتصادي العالمي والنزاعات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، بالإضافة الى انخفاض الطلب المحلي أيضًا. حيث انخفض إنتاج الصناعات الكيميائية العام 2019م بنسبة 7.4 في المئة مقارنة بالعام السابق. ويرجع جزء كبير من هذا الانخفاض الى تراجع مبيعات الادوية والتي تراجعت بنسبة 16,5 في المئة، بينما تراجعت مبيعات بقية المنتجات الكيميائية بنسبة 2,5 في المئة. وعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط العالمية الا ان أسعار المنتجين ارتفعت بنسبة 1 في المئة في عام 2019م ككل. كما تراجع الطلب المحلي على المنتجات الكيماوية من قبل فروع الصناعة الأخرى في عام 2019م بنسبة 3,3 في المئة من مستوى العام السابق، في حين تراجعت المبيعات الخارجية بنسبة 1,7 في المئة.

في عام 2020م وما فرضته ازمة كورونا من صعوبات للقطاعات الاقتصادية المختلفة، ومنها الصناعات الكيميائية، خصوصا في مجال تراجع الطلب العالمي وانقطاع سلاسل التوريد، وعلى الرغم من الطلب الهائل على المطهرات والمعقمات، انخفض الإنتاج والمبيعات في القطاع في النصف الأول من العام، حيث تقلصت في الأشهر الستة الأولى من عام 2020م، المبيعات بنسبة 6.1 في المئة لتصل إلى 96 مليار يورو.

ومع ذلك يرى اتحاد الصناعات الكيميائية الألمانية (VCI) ان الشركات الألمانية العاملة في القطاع استطاعت تجاوز عام الازمة بدون خسائر كبيرة بل واستطاعت استعادة جزء مهم من الأرباح في الربع الرابع من العام، حيث حققت العديد من الشركات مثل شركة BASF، احدى كبريات الشركات المصنعة للمواد الكيميائية في العالم، أرباحاً تفوق المتوقع خلال الربع الأخير من العام بمقدار الثلث. كما أعلنت شركة «Covestro» أن أرباحها السنوية سترتفع بنسبة تصل إلى 25 في المئة عما كان متوقعا بفضل المبيعات القوية في الربع الأخير من العام 2020م. ووفقًا لتصريحاتها الخاصة، كان الربع الرابع هو أقوى ربع نهائي لشركة Lanxess AG، ومقرها مدينة كولونيا، منذ ثماني سنوات، حيث يتوقع المحللون أن تتجاوز أرباح الشركة خلال هذا الربع نسبة عشرة في المئة، مقارنة بنفس الفترة من الأعوام السابقة.

ويعود الوضع الجيد نسبيا للصناعات الكيميائية خلال ازمة كورونا الى ان شركات القطاع تم استثنائها من الاغلاق الاقتصادي الشامل، بالإضافة الى الطلب الخارجي العالي خلال النصف الثاني من العام، خصوصا من الصين والولايات المتحدة الامريكية على المنتجات الكيمائية الألمانية، هذا الى جانب رفع الأسعار الذي قامت به شركات القطاع والتي أعلنت استعدادها لتوفير كافة احتياجات القطاعات الصناعية الأخرى، والتي تسعى الى تعبئة مخازنها الفارغة، لكن بسعر أعلى. ويتوقع اتحاد الصناعات الكيميائية ان تستعيد شركات القطاع مستوى انتاجها قبل الازمة مع نهاية العام 2021م وبداية العام 2022م.

التحديات التي تواجه الصناعات الكيميائية

مع الطيف الواسع من المنتجات والمواد التي تقدمها الصناعات الكيميائية للمستهلكين وفي الدرجة الأولى للقطاعات الصناعية الأخرى، تنشأ العديد من التحديات امام تطور هذه الصناعة والتي يمكن تركيزها في ثلاث تحديات أساسية: الأول يتمثل في الحاجة المستمرة للابتكار وتطوير الأدوات والمنتجات، ثانيا رفع الكفاءة الإدارية والتركيز على بعض التخصصات التنافسية خصوصا في الأسواق العالمية، ثالثاً التعامل مع قضية حماية البيئة والحد من اضرار الصناعات الكيميائية على المناخ.

وتتميز الصناعة الكيميائية بضغط مستمر للابتكار، بحيث ان أي شركة لا تستطيع مواكبة التقدم في هذه الصناعة تخرج من المنافسة وتتخلف بسرعة وتفقد الحصة السوقية. لذلك، يلعب البحث والتطوير في الصناعات الكيميائية دورًا بارزًا في الشركات، اذ ان تصنيع منتجات جديدة له تأثير كبير على استمرارية وزيادة الربحية. لذا تجد الشركات في هذا القطاع نفسها دائما في سباق من اجل تطوير منتجاتها وتطوير عمليات التصنيع المختلفة بما فيها الأتمتة بالإضافة الى الحاجة المستمرة إلى أحدث التقنيات وأكثر المتخصصين من علماء الطبيعة والمهندسين كفاءة من أجل الدفاع عن مكانتها في السوق العالمية.

من جهة أخري تعد الإدارة وإعادة الهيكلة والتخصص في انتاج مواد معينة من اهم التحديات التي تواجه شركات الصناعات الكيميائية، خصوصا خلال السنوات الأخيرة، وذلك لمواجه التغيرات المستمرة في القطاع سواء من ناحية المواد المنتجة او من جهة المنافسة الشديدة التي يشهدها السوق العالمي، خصوصا من قبل الشركات الكبرى والتي تلقى معاملة تفضيلية من حكوماتها، كما هو الحال مع الشركات الصينية. وقد شهدت شركات القطاع عمليات اندماج كبيرة (Hoechst، Rhône-Polence، Degussa، SKW)، وفي هذا السياق أيضا جرى فصل وتقسيم الشركات وجعلها أكثر تخصصاً من أجل التركيز على «المجالات الأساسية»، اذ على سبيل المثال قامت شركة Bayer للصناعات الكيميائية بفصل اقسام صناعة الادوية عن اقسام الزراعة وحماية المحاصيل بعد ان كانت ضمن قسم واحد تحت مسمى «علوم الحياة».

أحد اهم التحديات أيضا التي تهدد الصناعات الكيميائية في ألمانيا تتمثل في انها واحدة من أكثر القطاعات الصناعية تلويثاً للبيئة والمناخ، سواء من خلال العديد من المنتجات الكيميائية النهائية او من خلال عمليات التصنيع وما ينتج عنها من مخلفات ومياه صرف سامة. ويتركز هذا التحدي في مدى قدرة القطاع على التقليل من انبعاثات الغازات السامة الى مستوى مقبول وكذلك معالجة مياه الصرف الصناعية شديدة التلوث. خصوصا وان ألمانيا والعالم يضع قوانين وسياسات صارمة للتقليل من المواد الضارة للبيئة، وهنا تبدوا الحلول التكنولوجية مطلوبة بشكل أكبر.

مستقبل الصناعات الكيميائية في ألمانيا

تولي الحكومة الألمانية اهتماما كبيرا لضمان استمرار قطاع الصناعات الكيميائية كقطاع صناعي رائد في أوروبا وفي العالم، مع الأدراك ان القطاعات الصناعية والاقتصادية الأخرى لا يمكنها الاستغناء عن منتجات هذا القطاع. الا ان على القطاع ان يتكيف وان يتطور لضمان الانتقال الناجح للصناعات الكيميائية إلى إنتاج محايد مناخيًا عالي الأداء وذو قدرة تنافسية على المستوى الدولي. وبتناسق وثيق مع أهداف «الاستراتيجية الصناعية 2030“، وخطة حماية المناخ 2050م، وبرنامج حماية المناخ 2030م، و «الصفقة الخضراء الأوروبية». وفي هذا السياق عقد وزير الاقتصاد الاتحادي بيتر التماير مؤتمرا افتراضيا للحوار ومناقشة مستقبل الصناعة ضم كبرى شركات الصناعات الكيميائية، ورابطة أصحاب العمل الاتحادية للمواد الكيميائية (BAVC) واتحاد التعدين والصناعات الكيماوية والطاقة (IG BCE) واتحاد الصناعة الكيميائية (VCI) أكد فيه على ان «حماية المناخ مهمة مركزية لجيلنا. نريد أن نكون محايدين مناخيا ونستمر في الحفاظ على قدرتنا التنافسية الدولية. واضاف الوزير الاتحادي ان الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة، مثل الصناعات الكيميائية، تواجه تحديات ارتفاع تكاليف الطاقة لذلك نريد العمل مع الصناعة لوضع خطة عمل ولتحديد المسار لصناعات كيميائية قوية ومحايدة مناخياً.