تلعب الشركات الناشئة ورواد الاعمال دورا هاما في تطوير الاقتصاد والرفع من قدرته الابتكارية، علاوة على المرونة التي توفرها هذه الشركات والقدرة على تعزيز التنافسية، حيث ان اغلب رواد الاعمال الجدد يركزون انشطتهم في مجال الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات وتقديم الحلول المبتكرة والتطورات التكنولوجية المتعلقة بها مثل الذكاء الصناعي. وفي ضوء التطورات المتسارعة في هذا المجال والتقدم الذي تسجله اقتصاديات العديد من دول العالم، تلعب الشركات الناشئة دور محوري للحفاظ على تميز الاقتصاد الألماني في إطار المنافسة المحتدمة في السوق العالمي.

تعريف الشركات الناشئة

يعد مصطلح الشركات الناشئة/ رواد الاعمال (Startup) مصطلح حديثا نسبيا في عالم الاقتصاد، وهو يؤشر الى تأسيس شركة بفكرة عمل مبتكرة واحتمال نسبة نمو مرتفعة، وغالبًا ما تتعامل الشركات الناشئة مع سوق جديد أو تقوم بأنشاء هذا السوق، بنموذج أعمال فعّال وقابل للتطوير. وبناءً على هذا فان معظم الشركات الناشئة حديثاً هي شركات لا يزيد عمرها عن عشر سنوات وتتمتع بإمكانيات نمو وتوسع كبيرة وتعمل في الغالب في الاقتصاديات والأسواق التي تضع في أولوياتها الذكاء الصناعي والرقمنة. ويعتمد نجاح الشركات الناشئة بالأساس على القدرة الابتكارية، المرونة، الحداثة والتسلسل الإداري الهرمي المسطح. ومن اجل ان ينطبق مصطلح شركة ناشئة على أي مؤسسة او شركة تم تأسيسها حديثًا، يجب توافر ثلاثة معايير أساسية:

  • تأسيس شركة مع قيد في السجل التجاري
  • نموذج عمل أو منتج أو خدمة مبتكرة
  • إمكانات نمو عالية

وبسبب المخاطر العالية التي ينطوي عليها تأسيس شركة ناشئة في مجال جديد، لا يتم تنظيم تمويل أنشأ وتطوير الشركات الناشئة غالبًا من خلال البنوك التقليدية، ولكن من خلال بنوك التنمية أو أشكال التمويل المبتكرة مثل رأس المال الاستثماري المخاطر والتمويل الجماعي.

مميزات الشركات الناشئة في ألمانيا

وفقا لبيانات بنك إعادة الاعمار الألماني KfW ارتفع عدد الشركات الناشئة التي تعمل في مجال الابتكار في ألمانيا العام 2018م، الى أكثر من 70 ألف شركة ناشئة، أي بزيادة قدرها 10 آلاف شركة مسجلة العام 2017م، ونحو 54 ألف شركة ناشئة في عام 2016م، وبحسب دليل الشركات الناشئة الذي أصدره اتحاد الشركات الناشئة في ألمانيا Bundesverband Deutsche Startups e. V. عام 2019م، فان الجزء الأكبر من الشركات الناشئة تعمل في قطاع تقنية المعلومات والاتصالات وبنسبة 30,2 في المئة من مجموع هذه الشركات، فيما يأتي قطاع المواد الغذائية والاستهلاكية في المركز الثاني من حيث كثافة عدد الشركات الناشئة وبنسبة 10,6 في المئة، ومن ثم قطاع الطب والعلوم الصحية بنسبة 8,5 في المئة، كما تتخصص 6,7 في المئة من الشركات الناشئة الألمانية في قطاع السيارات والنقل والمواصلات.

وتتميز الشركات الناشئة في ألمانيا بأن المبادرة الفردية تلعب الدور الرئيسي في تأسيس مشاريع رواد الاعمال، حيث بلغت نسبة الشركات الناشئة التي تم تأسيسها من قبل شخص واحد 23,3 في المئة من مجموع هذه الشركات، ومن شخصين 34,8 في المئة، ومن ثلاثة اشخاص 25,5 في المئة، وهو ما يعني ان 82,6 في المئة من الشركات الناشئة في ألمانيا تم تأسيسها من 3 اشخاص او أقل. وقد بلغ متوسط عدد مؤسسي الشركات الناشئة في المانيا خلال العام 2020م 2,4 شخص، بينما بلغ متوسط عدد الموظفين في هذه الشركات، بدون احتساب عدد المؤسسين، 14,3 موظف لكل شركة ناشئة.

ويمتلك 81,7 في المئة من رواد الاعمال في ألمانيا شهادة جامعية عليا، اذ ان كل رابع مؤسس شركة ناشئة لديه شهادة ماجستير (27,8 في المئة)، كما يمتلك 20,1 في المئة منهم شهادة دبلوم عالي، ما بعد البكالوريوس، فيما يمتلك 20,8 في المئة من رواد الاعمال هؤلاء شهادة بكالوريوس، كما حصل 13,0 منهم على شهادة الدكتوراة. ويمثل تخصص إدارة الاعمال والاقتصاد التخصص الأكثر انتشارا بين رواد الاعمال وبنسبة 38,6 في المئة، يليه تخصص الهندسة بنسبة 18,5 في المئة، اما نسبة 15,1 في المئة من مؤسس الشركات الناشئة فقد كان تخصصهم في البرمجة وعلوم الحاسوب والرياضيات. بينما تبلغ نسبة الحاصلين على شهادة في العلوم الطبيعية 9,5 في المئة وفي العلوم الاجتماعية والأدبية 7,1 في المئة.

الشركات الناشئة في ألمانيا وأوروبا أكثر ربحية واقل عرضة للفشل

اظهر أحدث تحليل للبيانات الخاص بالشركات الناشئة ان الشركات الألمانية والأوروبية التكنولوجية الناشئة أكثر ربحية للمستثمرين واقل عرضة للفشل من نظيرتها الامريكية والآسيوية، وهو ما جعلها أكثر جاذبية للمستثمرين، فخلال الخمس سنوات الماضية بلغ معدّل الربحية للشركات الناشئة في أوروبا مستوى 11,9 نقطة بينما كان المعدل بالنسبة للشركات الامريكية 9,9 نقطة وللشركات الاسيوية 9,1 نقطة.

ويرى المستثمرون إمكانية ربح عاليا بشكل خاص في الشركات المتخصصة في توفير مساحات تخزين سحابية لشركات قطاع الصناعة وكذلك في الشركات المتخصصة بتقديم الحلول البرامجية للشركات متوسطة الحجم. وفي هذا المجال «تأتي اغلب الشركات الرائدة من أوروبا» بحسب Luciana Lixandru مديرة مكتب شركة الاستثمارات الامريكية Sequoia Capital في أوروبا.

لقد أدرك المستثمرون الأمريكيون على وجه الخصوص نقاط القوة في أوروبا منذ وقت مبكر، حيث ضاعفت أكثر من 30 شركة أمريكية للاستثمار في راس المال، منذ العام 2010م، نسبة الشركات الأوروبية في محافظها الاستثمارية من متوسط أربعة إلى تسعة في المئة. كما تضاعف عدد صفقات الاستثمار أيضا خلال نفس الفترة بثلاث اضعاف من 8 صفقات الى 25 صفقة، ويعود ذلك ليس فقط بسبب العوائد الأعلى، ولكن أيضًا بسبب نسبة المخاطر الأقل بالمقارنة مع الشركات الامريكية.

الشركات الألمانية والاوروبية الناشئة أكثر ربحية: فيما يتعلق بما يسمى «كفاءة رأس المال» أظهرت الشركات الألمانية والأوروبية قدرتها على تحقيق عائدات أكبر، حيث مقابل كل يورو مستثمر، حصل المستثمرون في الشركات الناشئة في أوروبا، التي تم بيعها بنجاح أو إدراجها في سوق الأوراق المالية على متوسط عائد يتراوح بين سبعة إلى اثني عشر يورو، بينما في الولايات المتحدة بلغ متوسط العائد من أربعة إلى عشرة يورو، وفي آسيا من ثلاثة إلى تسعة يورو فقط. وعلى هذا تطورت كفاءة رأس المال في أوروبا بدرجة اعلى من الولايات المتحدة وآسيا وبالتالي يمكن استخدام الأموال بشكل مربح في قطاع الشركات الناشئة الأوروبي أكثر من بقية الدول.

blank

shutterstock ©Liz Stevens

ويرجع الخبراء تفوق الشركات الأوروبية الناشئة في هذا المجال الى ان العديد من الشركات الأوروبية ركزت على العملاء الصغار والمتوسطين، كما ركزت على تطوير المنتجات التي تناسب عملائها حقًا، حيث ليست هناك حاجة « إلى مؤسسة مبيعات باهظة الثمن». إذا نجحت الخطة، فستنتشر المنتجات من تلقاء نفسها، وهذا هو في الواقع سبب كفاءة رأس المال في الشركات الاوربية مقارنة بالعديد من الشركات الأمريكية.

ويشير محللون اقتصاديون الى نقطة أخرى في اختلاف تقييم الشركات الناشئة الاوروبية والأمريكية والمتعلق بعدد الشركات الناشئة التي تجاوز تقييمها في الأسواق حاجز المليار دولار، اذ وفق هذا التقييم يوجد في الولايات المتحدة 276 شركة، و271 شركة في آسيا و65 شركة فقط في كل أوروبا، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن شركات التكنولوجيا الأمريكية الناشئة أكثر قيمة. وفي هذا الجانب أشار الخبير الاستثماري Retterath من مؤسسة Earlybird الى انه يتم تصنيف الشركات الامريكية وفق معايير مختلفة عن الشركات الأوروبية، حيث كان على أي شركة أمريكية ناشئة في السنوات الخمس الماضية أن تجمع 175 مليون دولار حتى يتجاوز تقييمها المليار دولار، بينما كان على أي شركة ناشئة في ألمانيا ان تحقق 250 مليون دولار حتى يتم تصنيفها كشركة فوق المليار دولار. اما بالنسبة للشركات الناشئة الأوروبية فكان عليها جمع 208 مليون يورو لحصولها على هذا التقييم. وبناءً على هذا يشير العديد من المختصين الى ان التقييم هو مجرد قيمة وهمية يتفق عليها المشاركون وتصبح القيمة الفعلية لشركة ما واضحة فقط عند خروجها، أي عندما يتم بيع الشركة أو طرحها للاكتتاب العام.

الشركات الأوروبية الناشئة اقل عرضة للفشل: اعتادت الشركات الأوروبية أن تواجه مشاكل كبيرة في جمع مزيد من الاستثمارات المالية لتحقيق مزيد من النمو السريع، أو ما يسمى التوسع، وذلك بعد حصولها على التمويل الأولي لبدء التشغيل. وقد اُعتبر هذا أحد أوجه القصور في أوروبا وألمانيا ومثّل حافزًا قويًا للراغبين في تأسيس اعمالهم والمستثمرين للذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لكن هذا الواقع تغير خلال السنوات الأخيرة حيث، وفيما يتعلق بمعدلات البقاء، لحقت الشركات الأوروبية الناشئة بنظيراتها الأمريكية، واستطاعت ألمانيا تجاوز الولايات المتحدة أيضا في هذا المجال. وتشير التقارير الصادرة عن مؤسسات مالية واستثمارية متخصصة مثل Dealroom وMattermark وMcKinsey إلى نتائج واستنتاجات مماثلة.

ويؤكد توبياس هينز، خبير الشركات الناشئة في شركة McKinsey ان متوسط معدل نجاح الشركات الناشئة في ألمانيا أعلى من متوسط نجاح الشركات الناشئة في الاتحاد الأوروبي وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، وان احتمال فشل هذه الشركات وتوقف أعمالها في ألمانيا أقل من الشركات الناشئة في الولايات المتحدة ايضاً. حيث تتمتع ألمانيا ببيئة صناعية متميزة توفر للشركات الناشئة العدد المناسب من العملاء والمشترين وكذلك المستثمرين. ويضيف Karel Dörner، الخبير المالي في McKinsey « يأتي أحدث جيل من الشركات الناشئة التي تتجاوز قيمتها مليار دولار من مجالات مثل الأتمتة في القطاع الصناعي، وبالنظر الى وجود الشركات المختصة والمهارات المؤهلة في هذا المجال في ألمانيا، فان ذلك يتيح احتمالية عالية لنجاح الشركات الناشئة».

وبشكل عام، لا يزال لدى أوروبا بعض إمكانات اللحاق بالركب في مجال تمويل الشركات الناشئة حتى بيع الشركة او طرح أسهمها في سوق الأوراق المالية. حيث تحقق خُمس الشركات الناشئة في الولايات المتحدة، تقييمًا بمليار دولار أو بيعًا جديرًا بالملاحظة، في أوروبا ما تزال النسبة أقل بقليل من السدس. ويعيد Dörner السبب في ذلك الى انه «في الولايات المتحدة، تلعب صناديق التقاعد دورًا رئيسيًا في التمويل اللاحق لتأسيس الشركات الناشئة وبدئها للعمل». بينما توجد في ألمانيا عقبات قانونية في مجال رأس المال الاستثماري لمثل هذه الصناديق وشركات التأمين. ويدعو اتحاد الشركات الألمانية الناشئة بشدة إلى تغيير ذلك. بحيث ان المزيد من الاستثمار من قبل هذه المؤسسات الاستثمارية الكبيرة سيمثّل خطوة هامه في تحويل أوروبا الى بيئة أكثر مناسبةً لنجاح الشركات الناشئة.