تعد ألمانيا ثالث أكبر اقتصاد عالمي بعد الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الصيني، ويعتمد استمرار نجاح النموذج الاقتصادي لألمانيا بشكل متزايد على قدرتها على تطوير أسواق جديدة وتقديم خدمات ومنتجات مبتكرة، وهو ما توفره الشركات الناشئة. حيث تسهم هذه الشركات بنسبة كبيرة في تعزيز قدرة الاقتصاد الألماني على الابتكار وعلى التكيف مع التحديات العالمية مثل التغيرات المناخية والرقمنة، فضلًا عن تحفيز المنافسة في قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة والخدمات الرقمية. ولا تقتصر وظيفة الشركات الناشئة على الابتكار فقط، بل تسهم في تحسين بيئة الاستثمار في ألمانيا، حيث يسهم رأس المال الاستثماري والتوجه نحو تمويل الشركات الناشئة في تعزيز التنمية الاقتصادية وتحقيق النمو المستدام.
الا ان الشركات الناشئة واجهت خلال الفترة الماضية تحديات عدة، منها بيئة تمويل متوترة وظروف السوق الغيرة مؤكدة وانخفاض تقييم الشركات. علاوة على وتراجع عدد الاكتتابات العامة الأولية وانسحاب المستثمرين الغير تقليدين او ما يسمى بالاستثمار الجريء. الى جانب الأداء الضعيف الذي ميز الاقتصاد الألماني خلال العام 2023م والربع الثاني من العام الحالي والاحتمالات المتزايدة لاستمرار الركود الاقتصادي لمجمل العام 2024م. كل هذه التحديات تؤثر على قدرة الشركات الناشئة على التوسع والنمو في بيئة تتميز بالعديد من القيود الاقتصادية والسياسية.
ما هي الشركات الناشئة
تُعرَّف الشركات الناشئة بأنها شركات صغيرة تم تأسيسها لتحقيق فكرة أعمال مبتكرة. غالبًا ما تبدأ هذه الشركات برأس مال محدود، مما يجعلها تعتمد على التوسع السريع وعلى الحصول على رأس المال الجريء (Venture Capital)، أو مصادر تمويل أخرى. كما تُصنَّف الشركات الناشئة بأنها شركات يقل عمرها عن 10 سنوات، تسعى لتحقيق نمو في عدد الموظفين و/أو الإيرادات، وتتميز بكونها مبتكرة بدرجة عالية من خلال تقنياتها، نماذج أعمالها، منتجاتها، أو خدماتها.
الدعم الحكومي للشركات الناشئة
تدرك الحكومة الألمانية أهمية هذا القطاع، ولهذا عملت على تحسين بيئة الشركات الناشئة في ألمانيا بشكل مستمر في السنوات الأخيرة وقدمت العديد من البرامج والمبادرات لدعمه. على سبيل المثال، أطلقت الحكومة استراتيجية الشركات الناشئة في 2022م، والتي تهدف إلى توفير بيئة قانونية وتنظيمية أكثر دعمًا للشركات الناشئة، إلى جانب تشجيع الاستثمارات الخاصة في هذه الشركات. تدعم هذه الاستراتيجية الشركات الناشئة من خلال برامج تمويل جديدة واستشارات، بالإضافة إلى قوانين عملية، وتعزيز التنوع في اكتساب المواهب، وتقوية دور المؤسسين والمبدعين في الشركات الناشئة.
استراتيجية الشركات الناشئة للحكومة الألمانية:
في صيف عام 2022م، قدمت الحكومة الألمانية لأول مرة استراتيجية شاملة للشركات الناشئة. من بين 130 إجراءً تم تحديدها في هذه الاستراتيجية، تم تنفيذ حوالي 80 في المئة منها حتى الآن. وقد بدأت الاثار الإيجابية لتنفيذ الاستراتيجية في الظهور خلال العام الحالي 2024م، فمن ناحية تم تأسيس حوالي 15في المئة أكثر من الشركات الناشئة في النصف الأول من عام 2024م مقارنة بنفس الفترة من العام السابق، حيث بلغ عدد الشركات الناشئة الجديدة 1,384 شركة في ألمانيا. كما يعمل حاليًا حوالي 522,000 شخص في ألمانيا في قطاع الشركات الناشئة، وهناك الان في ألمانيا 31 شركة ناشئة يطلق عليها اسم شركات «يونيكورن» (أي شركات تصل قيمتها السوقية إلى مليار دولار أمريكي أو أكثر).
في إطار الاستراتيجية ايضًا توفر الحكومة الألمانية من خلال ما يسمى «صندوق المستقبل»، ما يصل إلى 10 مليارات يورو حتى عام 2030م، للإسهام في تحفيز الاستثمارات الخاصة وتعزيز تمويل الشركات الناشئة التي في طور النمو داخل البلاد. بالإضافة إلى ذلك، قامت الحكومة بإنشاء «صندوق النمو الألماني»، والذي جمع أموالاً من مستثمرين مؤسسيين. بحلول نهاية العام 2023م، بلغ الصندوق هدفه المتمثل في مليار يورو، وتم استثماره بالفعل في حوالي 25 صندوقاً لرأس المال الاستثماري.
قمة الشركات الناشئة في ألمانيا
في إطار الدعم الذي تقدمة الحكومة الألمانية للشركات الناشئة وفي ضوء الصعوبات التي واجهتها هذه الشركات خلال الفترة الماضية عُقدت في شهر سبتمبر 2024م، في العاصمة الألمانية برلين، قمة الشركات الناشئة في المانيا تم فيها توقيع إعلان نوايا لمبادرة WIN (Wagniskapital-Initiative) بدعم من قبل المستشار الألماني اولاف شولتز ووزير الاقتصاد روبرت هابيك ووزير المالية السابق كريستيان ليندنر. تهدف المبادرة إلى تعزيز مكانة ألمانيا كمركز مالي عالمي وتشجيع نمو الشركات الناشئة من خلال توفير بيئة داعمة لرأس المال الاستثماري والابتكار. وقد استطاعت الحكومة عبر بنك التنمية واعادة الاعمار KfW جذب مستثمرين بارزين لدعم هذا المشروع، ومن بين هؤلاء بنك « Deutsche Bank « وبنك « Commerzbank «، بنك DZ، شركة التأمين «أليانز»، مجموعة بلاك روك، وصندوق التقاعد البافاري.
وتسعى مبادرة WIN إلى معالجة التحديات التي تواجه الشركات الناشئة، مثل نقص التمويل والافتقار إلى مستثمرين نشطين. وقد تم الاتفاق على حزمة شاملة من الإجراءات لتحسين ظروف التمويل والنهوض برأس المال الاستثماري. من بين أبرز الأهداف، تعزيز رأس المال الاستثماري وتشجيع الاستثمار الخاص في الشركات الناشئة والتقنيات المبتكرة. واستقطاب استثمارات جديدة عبر التزام الشركات والمؤسسات المشاركة باستثمار حوالي 12 مليار يورو في رأس المال الجريء بحلول عام 2030م. علاوة على دعم الابتكار والتكنولوجيا وتوفير الدعم اللازم للقطاعات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا الرقمية والطاقة المتجددة.
وعلى الرغم من التفاؤل الذي يحيط بالمبادرة، فإن نجاحها يعتمد على التنفيذ الفعلي للإجراءات المعلنة واستمرارية التعاون بين الحكومة والمستثمرين. كما ستحتاج الشركات الناشئة إلى التكيف مع التحديات الاقتصادية المستمرة، مثل التضخم وارتفاع أسعار الفائدة. ومع ذلك تمثل مبادرة WIN نقطة تحول محتملة في مشهد الشركات الناشئة بألمانيا، حيث تجمع بين الدعم الحكومي والتمويل الخاص لخلق بيئة مواتية للنمو والابتكار.
هيكل الشركات الناشئة
تعمل الشركات الناشئة في ألمانيا بشكل فعال في جميع القطاعات الاقتصادية، الا انه وبسبب طبيعتها الابتكارية يتركز نشاطها بشكل اكبر في عدد من القطاعات المحددة. ويشكل قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحصة الأكبر بين الشركات الناشئة، حيث تعمل حوالي 28.3 في المئة من هذه الشركات في هذا المجال. يليه قطاع الصحة، الذي يشهد نشاطاً ملحوظاً بنسبة 11 في المئة، مما يجعله ثاني أهم قطاع للشركات الناشئة. وفي قطاع الأغذية والسلع الاستهلاكية، تنشط حوالي 7.6 في المئة من الشركات، بينما يشكل التعليم 5.6 في المئة من نشاطها. كما تساهم 5 في المئة من الشركات الناشئة في قطاع الطاقة وبنفس النسبة تعمل الشركات الناشئة في قطاع النقل والدعم اللوجستي. وتعكس هذه الأرقام الدور الهام الذي تلعبه الشركات الناشئة في دعم التحول الاجتماعي والبيئي، خاصة في مجالات التعليم، الطاقة، والتنقل.
أثار الأداء الاقتصادي الضعيف على الشركات الناشئة
مع تسجيل الاقتصاد الألماني تراجعًا اقتصاديًا في العام 2023م، بواقع 0.3 في المئة وتزايد توقعات المعاهد الاقتصادية الرئيسية بحصول تراجع مرة أخرى خلال العام الحالي 2024م أيضا، بدأت اثار هذا التراجع في الظهور على الشركات الناشئة، وهو ما أوضحه تقرير «مراقب الشركات الناشئة الألمانية» (DSM) والذي أصدره اتحاد الشركات الناشئة الألماني بناءً على استطلاع لأكثر من 1800 شركة ناشئة لتقييم أوضاعها الاقتصادية والتغيرات التي طرأت عليها خلال الفترة الأخيرة. وقد شملت أبرز التغيرات أربع مجالات أساسية:
الموظفين: بحسب التقرير، ولأول مرة منذ سنوات، يتراجع عدد الموظفين في الشركات الناشئة، حيث بلغ متوسط عدد موظفي هذه الشركات في الوقت الحالي 16.7 موظفاً لكل شركة مقارنة بـ 18.9 موظفًا في العام السابق. وبذلك، يتوقف الاتجاه التصاعدي في التوظيف الذي ميز ظاهرة الشركات الناشئة والذي استمر منذ عام 2019م. وبالرغم من ذلك لاتزال الشركات الناشئة تخطط لتوظيف المزيد من الأشخاص وان انخفض متوسط العدد المتوقع من الموظفين الجدد من ثمانية اشخاص الى ستة اشخاص لكل شركة. كذلك لاحظ التقرير تراجع نسبة النساء من رائدات الاعمال والمؤسِسات من اجمالي عدد المؤسسين للشركات الناشئة، حيث انخفضت نسبتهن إلى 18.8 في المئة في العام 2024م، بعدما كانت 20.7 في المئة في العام 2023م. ويبلغ معدل الموظفين الأجانب في منظومة الشركات الناشئة في ألمانيا 30.8 في المئة، كما ان 34.9 في المئة من هذه الشركات تعتبر اللغة الإنجليزية لغة العمل الرسمية. أما في برلين، التي تعد اهم مدن ألمانيا وأوروبا في مشهد الشركات الناشئة، فتصل نسبة الموظفين الأجانب إلى 42.3 في المئة وتصل نسبة الشركات الناشئة التي تستخدم اللغة الإنجليزية كلغة العمل الرسمية إلى 55.8 في المئة.
الاستثمارات: في الوقت نفسه ومع استمرار الركود، يزداد الاحتياج إلى رأس المال بشكل حاد، حيث تحتاج ثلاثة أرباع الشركات الناشئة حالياً إلى تمويل جديد خلال الاثني عشر شهراً القادمة لضمان البقاء، حيث انخفضت الاستثمارات في الشركات الناشئة الألمانية بنحو 40 في المئة خلال العام الماضي لتصل الى مستوى 2.373 مليار يورو. ونتيجة انتهاء سياسة الفائدة المنخفضة أصبح المستثمرون المحتملون أكثر انتقائية بالإضافة الى أن ضعف أداء الاقتصاد تسبب في ان تواجه العديد من الشركات الناشئة خطر نفاد الأموال، مما قد يؤدي إلى ارتفاع عدد حالات الإفلاس. ووفقًا لتقرير (DSM) ارتفع عدد حالات الإفلاس في الأشهر التسعة الأولى من العام 2024م، إلى 320 حالة، مقارنة بـ 293 حالة خلال العام 2023م بأكمله.
علاوة على ذلك انخفض عدد المستثمرين في رأس المال الجريء الذين أبرموا صفقات بالفعل خلال العام الحالي بنسبة تقارب 40 في المئة مقارنة بالعام السابق، حيث بلغت الاستثمارات مستوى 1.440 مليار يورو (حتى منتصف أكتوبر 2024م). ويمثل هذا التراجع في الاستثمارات في الشركات الناشئة في ألمانيا نسبة أكبر بكثير مما هو عليه في أوروبا عمومًا (30 في المئة) وفي الولايات المتحدة (25 في المئة).
الشراكة مع الشركات الكبرى: إلى جانب صعوبات التمويل، لم تحقق الشركات الناشئة تقدمًا في التعاون مع الشركات الكبرى. فقد أظهرت الإحصائيات أن 62 في المئة فقط من الشركات الناشئة كانت لديها علاقات تعاون مع شركات كبرى في ألمانيا، وهي نسبة مماثلة للعام الماضي وبعيدة عن ذروتها التي بلغت 72 في المئة في عام 2020م. وقالت Verena Pausder، رئيسة اتحاد الشركات الناشئة ان «التعاون مع الشركات الناشئة، سواء من خلال الشراكات أو الاستثمارات أو الاستحواذ، يعد واحدًا من أهم الطرق للشركات الكبيرة للبقاء مبتكرة، لكن للأسف لم تدرك جميع الشركات في ألمانيا ذلك بعد».
نموذج عمل الشركات: ومع تزايد صعوبات حصول الشركات الناشئة على تمويل إضافي ونتيجة عوامل أخرى بدأت طبيعة عمل هذه الشركات تشهد تغيرات أساسية، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي يلعب دورًا متزايد الأهمية. فوفقًا لتقرير (DSM)، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا في العديد من الشركات. ووفقًا لتقرير آخر من الاتحاد الألماني لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (Bitkom)، فإن ثلاثة أرباع الشركات الناشئة تستخدم الذكاء الاصطناعي الآن، مقارنة بـ 49 في المئة فقط في العام السابق. كذلك تزايد اعتماد الشركات الناشئة في ألمانيا على البحث العلمي وبالتالي الاعتماد بشكل رئيسي على الجامعات ومراكز الأبحاث التي تشكل غالبًا المركز الأساسي للابتكار. وأفاد نصف المشاركين في تقرير (DSM) بأنهم حصلوا على دعم من هذه المؤسسات عند تأسيس شركاتهم.
كما دفعت تغيرات البيئة الاقتصادية وظروف التمويل العديد من الشركات الناشئة الى تغيير نماذج اعمالها فبعد ان كانت النسبة الأكبر من الشركات الناشئة، ولفترة طويلة، تستهدف المستهلكين الافراد (B2C)، تتوجه الآن حوالي 58 في المئة من الشركات الناشئة نحو العملاء التجاريين من الشركات والمؤسسات الأخرى (B2B).