تشكل السياسات الحمائية التي تتخذها الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها فرض رسوم جمركية على الواردات، تحديًا كبيرًا للاقتصاد الألماني، الذي يعتمد بشكل أساسي على التصدير. إذ تعتبر الولايات المتحدة أهم الشركاء التجاريين لألمانيا، حيث تصدر الشركات الألمانية سنويًا كميات هائلة من المنتجات، خاصة في قطاعات السيارات، وصناعة الآلات والمعدات، والكيماويات. والتي بلغت قيمتها في العام الماضي نحو 161.4 مليار يورو. ومع فرض رسوم جمركية مرتفعة على هذه المنتجات، تواجه الشركات الألمانية أعباء مالية إضافية تقلل من قدرتها التنافسية في السوق الأمريكية، مما قد يؤدي إلى انخفاض الطلب على الصادرات الألمانية.

وكان الرئيس ترامب قد تحدث قبل توليه منصبه مجددًا، عن فرض رسوم جمركية إضافية تصل إلى 20 في المئة على المنتجات الأوروبية، مشيرًا بشكل خاص إلى السيارات الألمانية. ولطالما عبر الرئيس الأمريكي عن عدم رضاه عن تفوق الشركات الأوروبية في السوق الأمريكية مقارنةً بالشركات الأمريكية. وباعتبارها الشريك التجاري الأوروبي الأهم للولايات المتحدة، فمن المرجح أن تكون ألمانيا الأكثر تضررًا من الرسوم الجمركية الجديدة سواء كانت موجهه بشكل مباشر لدول الاتحاد الأوروبي ومنها ألمانيا او الى دول أخرى مثل الصين وكندا والمكسيك، فان اثار هذه الرسوم ستنعكس على الاقتصاد الألماني من حيث مفاقمة مخاطر استمرار الركود الاقتصادي الى جانب تهديد مئات الالاف من فرص العمل.

ماذا تعني السياسة الحمائية

الحمائية هي آلية اقتصاديه تتبعها حكومات الدول وتهدف من خلالها الى حماية الإنتاج الوطني والصناعات والسلع المحلية من منافسة السلع والإنتاج الأجنبي، ولتطبيق الحمائية هنالك العديد من الأدوات من أهمها: الرسوم الجمركية، وهذا النمط من الحماية هو حماية عبر رفع الأسعار، يتمثل بفرض رسوم على المستوردات بما يرفع من أسعارها في السوق المحلية ويضعف من منافستها للسلع الوطنية المنتجة محلياً، نظام الحصص(الكوتا): وهو نظام قائم على تحديد عدد من الانصبة او الحصص للواردات من بلد معين بحيث لا يتم الموافقة على استيراد سلع وبضائع من هذا البلد تتجاوز الحصة المقررة له بحسب قرار وسياسة الحكومة، التحديد الإرادي لكمية الصادرات: وتدخل هذه الأداة ضمن تصنيف نظام الحصص ولكن على العكس من نظام الحصص والذي تقرره وتحدده الدولة المستوردة تقوم في هذا النظام الدولة المصدرة نفسها بتحديد كمية الصادرات إرادياً بدلاً من فرضها من قبل البلد المستورد، وقد يكون هذا الحل مفروضاً من قبل البلد المستورد (سواء بالإقناع أو خوفاً من التدابير الانتقامية) الذي يرغب في تلافي اللجوء المباشر إلى تدابير تحظرها اتفاقية التجارة الحرة العالمية او أي من الاتفاقات الإقليمية او الثنائية. المساعدات والإعانات الحكومية: تعد الإعانات والمساعدات التي تقدمها الحكومات للإنتاج المحلي حلاً لتلافي اللجوء لفرض التعرفة الجمركية. فكلاهما وسيلة لدعم الإنتاج الوطني وتمكينه من المنافسة. فالتعرفة الجمركية ترفع أسعار المواد المستوردة فتزيد بذلك القدرة التنافسية للسلع الوطنية المماثلة لها وتقديم الإعانات للسلع الوطنية من شأنه أن يؤدي لتخفيض تكاليفها فتزيد قدرتها التنافسية أيضاً. الإغراق: يعني الإغراق اللجوء إلى بيع منتج ما في الخارج بسعر أدنى من قيمته الحقيقية في داخل البلد المنتج. وعلى هذا النحو تستطيع الشركات تعويض بعض الخسائر التي تتحملها في عمليات التصدير بسبب المبيع بسعر متدن، على حساب الأسعار المحلية. تخفيض قيمة العملة المحلية: إن اللجوء لتخفيض سعر صرف العملة الوطنية قياساً بالعملات الأخرى وخاصة قياساً بعملات البلدان المستوردة يعد نوعاً من الحماية أيضاً إذ يجعل من حصيلة الصادرات مقاسة بالعملة المحلية أكبر داعمة بذلك القدرة التنافسية للسلع الوطنية في السوق الدولية.

السياسة الحمائية الامريكية

تمضي الإدارة الامريكية الجديدة قدما في قراراتها الخاصة بفرض رسوم جمركية على وارداتها من عدد من الدول وعلى عدد من السلع والبضائع، فبعد ان فرض الرئيس الأمريكي رسومًا جمركية بنسبة 25 في المئة على الواردات من دول الجوار المكسيك وكندا ، وفرض رسوم إضافية بنسبة 10 في المئة على جميع الواردات من الصين. كما أعلنت الإدارة الامريكية فرض رسوم جمركية على الواردات من الصلب والالمونيوم من جميع دول العالم وكذلك فرض رسوم جمركية بالمثل بمعنى ان قيمة التعرفة الجمركية للصادرات من السلع الامريكية سيقابلها نفس التعرفة للواردات للولايات المتحدة. ولا تبدوا هذه الرسوم بانها أخر ما ستقوم به إدارة الرئيس دونالد ترامب انطلاقاً من الإعلانات المتكررة منه قبل الانتخابات وبعد ان تولي الرئاسة حول اتباع سياسات حمائية تجاه مختلف شركاء الولايات المتحدة التجاريين سواء من الدول التي تمثل تحدياً اقتصادياً لموقع الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد عالمي، مثل الصين او تلك التي من المفترض ان تكون حليفة لها، مثل دول الاتحاد الأوروبي. ويدعم هذه السياسات الحمائية العجز الكبير الذي يعاني منه الميزان التجاري الأمريكي والذي وفقاً لبيانات الهيئات الإحصائية الأمريكية، بلغ في عام 2024م، ما يقرب من 1,000 مليار يورو (تريليون يورو).

أهمية الصادرات والتجارة الخارجية للاقتصاد الألماني

تعتبر الصادرات والتجارة الخارجية ركيزة أساسية في الاقتصاد الألماني، وتلعب دورًا حيويًا في دعم النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، إذ تشكل الصادرات نحو 46 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا، مما يجعلها أحد أكثر الاقتصادات اعتمادًا على التصدير عالميًا. ووفقًا لمنظمة التجارة العالمية (WTO)، تُعد ألمانيا ثالث أكبر مصدر في العالم بعد الصين والولايات المتحدة. كما يعتمد واحد من كل أربعة وظائف في ألمانيا بشكل مباشر أو غير مباشر على قطاع التصدير، خاصة في الصناعات التحويلية مثل السيارات والآلات والكيماويات. بالإضافة الى ذلك تحفز المنافسة في الأسواق الدولية الشركات الألمانية على الاستثمار في البحث والتطوير (R&D)، مما يعزز التكنولوجيا المتقدمة ويحافظ على مكانة ألمانيا كرائدة في الصناعات عالية القيمة. وتحقق ألمانيا فائضًا تجاريًا كبيرًا سنويًا وصل خلال العام 2024م، الى 239 مليار يورو (1556 مليار يورو صادرات- 1317 مليار يورو واردات). وهذا الفائض مستمر في الميزان التجاري الألماني منذ عقد الستينات من القرن الماضي. وبناءً على هذا فان استمرار نمو الصادرات الألمانية وبالتالي نمو الاقتصاد الألماني يعتمد بدرجة أساسية على حرية التجارة وحرية انتقال السلع والبضائع والخدمات واي صعوبات او عراقيل تواجه انسيابية وحرية التجارة العالمية فستكون لها عواقب وانعكاسات سلبية على الاقتصاد الألماني.

ارتباط الاقتصاد الألماني بالاقتصاد الأمريكي

يعتمد الاقتصاد الألماني اليوم بشكل أكبر على التعاون مع الولايات المتحدة مقارنة بعام 2016م، عندما فاز دونالد ترامب بشكل غير متوقع في الانتخابات وأصبح رئيسًا. فقد زاد حجم الاستثمارات المباشرة للشركات الألمانية في الولايات المتحدة، مثل المصانع والمنشآت، بنحو الثلث خلال السنوات الماضية. ففي حين كان حجم هذه الاستثمارات عام 2016م، نحو 398 مليار دولار، أصبحت الآن تتجاوز نصف تريليون دولار. وأوضح اتحاد الغرف الصناعية والتجارية الألمانية DIHK أن «الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى من حيث الاستثمارات المباشرة الألمانية عالميًا».

وبحسب اتحاد الغرف الصناعية الألمانية ايضاً، ارتفع عدد الشركات الألمانية التي تنشط في الولايات المتحدة، من 5363 شركة في العام 2016م، إلى حوالي 6000 شركة العام 2024م، ونتيجة لذلك، زاد عدد الموظفين العاملين لدى الشركات الألمانية في الولايات المتحدة من 851,000 شخص إلى أكثر من 900 ألف شخص. ووفقًا للبنك المركزي الألماني، فإن الشركات التي يسيطر عليها مستثمرون ألمان في الولايات المتحدة حققت مؤخرًا عائدات سنوية بلغت 828 مليار يورو، ما يعادل حوالي 21.4 في المئة من إجمالي العائدات التي حققتها الشركات الألمانية في الخارج.

وتزداد أهمية الولايات المتحدة للصادرات الألمانية اليوم أكبر من أي وقت مضى خلال العشرين عامًا الماضية، فوفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الاتحادي، قامت ألمانيا بتصدير بضائع بقيمة 161.4 مليار يورو إلى الولايات المتحدة في عام 2024م، وهو ما يعادل 9.9 في المئة من إجمالي الصادرات الألمانية. وعلى سبيل المقارنة، بلغت قيمة الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة في عام 2016م، أقل من 107 مليارات يورو، أي ما يعادل 8.9 في المئة من إجمالي الصادرات الألمانية في ذلك الوقت. وبحسب مكتب الإحصاء الاتحادي «كانت الولايات المتحدة وللعام التاسع على التوالي أكبر مستورد للصناعة الألمانية»، واستمر هذا الاتجاه في العام 2024م.

بالنسبة لبعض القطاعات، تُعد الولايات المتحدة سوقًا رئيسيًا بشكل خاص. فعلى سبيل المثال، ذهب نحو ربع صادرات الأدوية الألمانية العام الماضي إلى الولايات المتحدة، مقارنة بـ 12 في المئة فقط في عام 2008م. أما بالنسبة للآلات، فقد تم تصدير حوالي 13 في المئة منها إلى الولايات المتحدة العام الماضي، بينما كانت النسبة 12.6 في المئة للمركبات الثقيلة وأجزائها، و13 في المئة تقريبًا للسيارات والمركبات الأخرى. لا تقتصر العلاقات التجارية على الصادرات فحسب، بل تستورد ألمانيا أيضًا المزيد من الولايات المتحدة. ففي عام 2016م، بلغت قيمة الواردات من الولايات المتحدة 58 مليار يورو، بينما ارتفعت في عام 2024م إلى حوالي 91.4 مليار يورو. وارتفعت نسبة هذه الواردات من إجمالي الواردات الألمانية من 6.1 في المئة إلى 6.9 في المئة، وهي أعلى نسبة منذ عام 2004م. وفي هذا السياق أكد Volker Treier، رئيس قطاع التجارة الخارجية في اتحاد عرف التجارة والصناعة الألمانية (DIHK). أنه «على مدار السنوات الثماني الماضية، نمت العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي بشكل مستمر»، وبإجمالي حجم تجارة خارجية (مجموع الصادرات والواردات) بلغ 252.8 مليار يورو، أصبحت الولايات المتحدة في عام 2024م، ولأول مرة منذ عام 2015م، الشريك التجاري الأهم لألمانيا. وجاءت الصين في المرتبة الثانية بين أهم الشركاء التجاريين لألمانيا، حيث بلغ حجم التجارة الخارجية معها 246.3 مليار يورو. وخلال الفترة من 2016م إلى 2023م، كانت الصين تحتل المرتبة الأولى كأهم شريك تجاري لألمانيا.

وحتى الان وبحسب ما هو معلن، يعتزم الرئيس المنتخب دونالد ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة أو 20 في المئة على جميع الواردات من الاتحاد الأوروبي. بالنسبة للاقتصاد الألماني المعتمد على التصدير، سيكون هذا كارثيًا، حيث تُعد الولايات المتحدة أكبر سوق للصادرات الألمانية. ووفقًا لمعهد Ifo، فإن فرض رسوم بنسبة 20 في المئة قد يُسبب خسائر اقتصادية لألمانيا تُقدر بـ 33 مليار يورو. كما انه من المتوقع أن تنخفض الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة بنحو 15 في المئة. علاوة على ذلك، قد تنخفض الصادرات الألمانية ايضاً إلى الصين بنسبة 10 في المئة بسبب تأثر الاقتصاد الصيني بانخفاض صادراته إلى الولايات المتحدة، إذ يفكر الرئيس ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60 في المئة على السلع الصينية. كذلك يخطط الرئيس ترامب خفض ضريبة الشركات على المنتجات المصنعة في الولايات المتحدة من 21 في المئة إلى 15 في المئة. في المقابل، يبلغ معدل الضريبة في ألمانيا، بما يشمل ضريبة الأعمال التجارية، نحو 30 في المئة. وبحسب Hildegard Müller، رئيسة اتحاد صناعة السيارات الألمانية (VDA)، فإن الضغط الذي ستتعرض له الشركات الألمانية لنقل الإنتاج إلى الولايات المتحدة سيكون «هائلًا».

الى جانب ذلك، تؤثر الرسوم الجمركية الامريكية المفروضة حديثًا على كندا والمكسيك والصين بشكل خاص على شركات تصنيع السيارات الألمانية بشدة، رغم أن المحللين يعتقدون أن شركات السيارات الأمريكية ستعاني بشكل أكبر. ومع ذلك، لا تزال العواقب النهائية غير مؤكدة. وتمتلك شركات فولكس فاجن (VW)، أودي، وبي إم دبليو (BMW)، الألمانية مصانعها الخاصة في المكسيك، بينما تنتج مرسيدس-بنز في مصنع مشترك مع نيسان، وذلك بشكل أساسي لخدمة السوق الأمريكية. ولكن حتى مصانع السيارات التابعة لـ فولكس فاجن، بي إم دبليو، ومرسيدس في الولايات المتحدة ستتأثر، حيث يأتي جزء كبير من قطع السيارات من المكسيك. بالإضافة إلى ذلك، هناك ما يُعرف بتأثيرات «الجولة الثانية»: فإذا تعرضت كندا، المكسيك، والصين إلى أضرار اقتصادية بسبب الانخفاض الكبير في صادراتها، فمن المتوقع أن يتراجع الطلب في هذه الدول على السلع الأوروبية والسلع الألمانية أيضًا.

مخاطر السياسة الحمائية الامريكية على سوق العمل في ألمانيا

فرض الرسوم الجمركية العقابية التي يخطط لها الرئيس دونالد ترامب على الواردات سوف تهدد بإلحاق أضرار اقتصادية جسيمة في ألمانيا سواء تعلق الامر بقيمة الصادرات أو تأثير ذلك على سوق العمل. وبحسب دراسة أجراها معهد « Prognos»، تعتمد حسابيًا نحو 1.2 مليون وظيفة في ألمانيا على الصادرات إلى الولايات المتحدة. ويمثل هذا الرقم 10 في المئة من إجمالي 12 مليون وظيفة تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على الصادرات، وهو ما يزيد بمقدار 400,000 وظيفة عن تلك المرتبطة بالصادرات إلى الصين. حيث ارتفعت حصة الصادرات إلى الولايات المتحدة من إجمالي الصادرات الألمانية في السنوات الأخيرة، فيما تراجعت حصة المبيعات إلى الصين.

وإذا نفذ الرئيس ترامب هذه الإجراءات، وردت الدول الأخرى بفرض رسوم جمركية مضادة، ووفقًا لحسابات معهد الاقتصاد الكلي ودراسات الدورة الاقتصادية (IMK)، فقد تفقد ألمانيا 300,000 وظيفة. وفي سيناريو آخر، حيث يطبق الرئيس ترامب الرسوم الجمركية عند الحد الأدنى من توقعاته السابقة، فان ألمانيا ستكون معرضة لخسارة 200,000 وظيفة، وفقًا للمعهد.

وفي جميع الأحوال فان السياسة الحمائية للإدارة الامريكية الجديدة سواء توجهت بشكل مباشر ضد صادرات الاتحاد الأوروبي وألمانيا او كانت حتى موجهه الى قوى اقتصادية مؤثرة في الاقتصاد العالمي مثل الصين وكندا والمكسيك فإنها ستترك آثاراً سلبية على الاقتصاد الألماني الذي لا يعيش في الوقت الحاضر أفضل أيامه، وستصعب من مهمة الحكومة الألمانية الجديدة في إنعاش الاقتصاد والخروج من حالة الركود خلال عامي 2023-2024م والتي من المحتمل ان تعاني منها أيضا في العام الحالي.