لا ترتبط صناعة ما باي بلد كما ترتبط صناعة السيارات بألمانيا، والتي تشتهر بكونها بلد صناعة السيارات، ولا تجافي هذه المقولة الواقع فالحقيقة ان صناعة السيارات بدأت تاريخيا من ألمانيا والحقيقة الأخرى أيضا بان شركة فولكسفاجن للسيارات هي أكبر مُصنّع للسيارات في العالم. كما تعد صناعة السيارات أكبر واهم القطاعات الصناعية في ألمانيا سواء من حيث قيمة الإيرادات التي تحققها هذه الصناعة او من ناحية عدد العمالة التي تشتغل فيها، بالإضافة الى عوامل أخرى منها حجم الانفاق على عمليات التطوير والبحث العلمي والابتكار.
تقف صناعة السيارات اليوم امام نقطة تحول جوهرية تتعلق بالتكنولوجيا المستخدمة في محركات السيارات بدرجة أولى الى جانب أيضا طريقة القيادة والتحكم في السيارة، فأولا بدء العد التنازلي لنهاية محرك الاحتراق الذاتي، والذي مثل ثورة في وقت اختراعه، والاستعاضة عنه بشكل كامل بمحركات كهربائية، وثانياً يبدوا المستقبل للسيارات ذاتية القيادة أقرب مما كان يعتقد. وامام هذه التحولات تواجه صناعة السيارات الألمانية العريقة تحديات ربما تكون الأكبر في تاريخها.
الأهمية الاقتصادية لقطاع صناعة السيارات
صناعة السيارات هي أكبر قطاع صناعي في ألمانيا وتعد أهم صناعة من حيث المبيعات، حيث حققت الشركات العاملة في الصناعة مبيعات بأكثر من 378 مليار يورو في عام 2020م، وهو ما يمثل إيرادات اقل بنحو 58 مليار يورو بالمقارنة بالعام 2019م، وذلك نتيجة لجائحة كورونا وكذلك تراجع السوق العالمي للسيارات المستمر منذ العام 2018م. الى جانب ذلك يوظف القطاع بشكل مباشر أكثر من 809 ألف شخص، فيما يبلغ اجمالي عدد الوظائف المرتبطة بصناعة السيارات بشكل مباشر وغير مباشر نحو 2, 2 مليون شخص، وبالتالي فان العمالة في هذا القطاع تمثل سبعة في المئة من الوظائف في ألمانيا.
وفي اجمالي الإيرادات التي حققها قطاع صناعة السيارات سجلت الشركات المصنعة للسيارات والمحركات أكثر من ثلاثة أرباع اجمالي الإيرادات فيما حقق موردو قطع وأجزاء السيارات أقل بقليل من 20 في المئة من هذه الإيرادات، اما شركات تصنيع ملحقات السيارات والمقطورات فسجلت ما يقرب من ثلاثة في المئة من دوران صناعة السيارات. وتمثل الصادرات في القطاع ما يقرب من ثلثي مبيعاتها. وتعد السيارات اهم صادرات ألمانيا خلال العام 2020م وتمثل أسواق الولايات المتحدة الامريكية وأسواق الصين الى جانب أسواق الاتحاد الأوروبي اهم أسواق صادرات السيارات الألمانية.
تتميز سلسلة القيمة في صناعة السيارات بالتمايز الشديد. حيث يتطلب تصنيع المركبات شراء مكونات ومواد أولية تشارك في توفيرها العديد من القطاعات الصناعية الأخرى. وتشمل هذه الصناعات: الصناعة الكيميائية، صناعة النسيج، صناعة الآلات والمعدات، صناعة الهندسة الكهربائية بالإضافة الى الصناعات البتروكيماوية وغيرها من الصناعات التي تسهم بنسب مختلفة في انتاج السيارات.
صناعة السيارات والبحث العلمي والابتكار
إن الركيزة الأساسية للنجاح العالمي لصناعة السيارات الألمانية هي ريادتها في الابتكار والاستثمار المكثف في البحث والتطوير، فعلى سبيل المثال، وبحسب اتحاد صناعة السيارات الألماني (VDA)، زادت صناعة السيارات الألمانية نفقات البحث والتطوير على المستوى العالمي (يشمل ذلك مصانع شركات السيارات الألمانية ومراكز تطويرها المنتشرة حول العالم) في العام 2018م إلى 44,6 مليار يورو، ويمثل ذلك زيادة بنحو 5 في المئة مقارنة بالعام السابق. وبهذا الحجم من الانفاق على الأبحاث تمثل صناعة السيارات الألمانية أكثر من ثلث إجمالي الاستثمار العالمي على البحث والتطوير في صناعة السيارات. بالإضافة إلى ذلك، هناك ثلاث شركات من ألمانيا (فولكسفاجن، دايملر، بي ام دبليو) من بين أكبر 5 مستثمرين في البحث والتطوير في قطاع السيارات. اما بالنسبة الى مراكز التطوير في ألمانيا، فقد زادت صناعة السيارات الألمانية إنفاقها على البحث والتطوير في عام 2018م إلى 27,1 مليار يورو (بما يمثل زيادة بنسبة 6 في المئة مقارنة بالعام السابق). وهذا يعني أن صناعة السيارات الألمانية لديها مرة أخرى أعلى حصة من البحث والتطوير في الاقتصاد الألماني، وبنسبة تصل الى 38 في المئة (دون احتساب نفقات الدولة والجامعات على البحث العلمي).
ان تمتع السيارات الألمانية سواءً العادية منها او الفاخرة بسمعة عالمية عالية تتطلب دائماً ابتكارات وتحسينات تقنية. ويُنظر إلى صناعة السيارات الألمانية بانها صاحبة السبق في العديد من التقنيات الحديثة التي تم إدخالها الى السيارات، ويظهر هنا التعاون العلمي المكثف بين شركات السيارات ومعاهد البحث والجامعات والتي ساهمت في تطوير عدد من الابتكارات الفريدة. ان الانفاق المكثف على البحث والتطوير في صناعة السيارات الألمانية يظهر في مستوى التوظيف المتزايد وباجور عالية، حيث يعمل ما يقرب من ثلث إجمالي الباحثين (29 في المئة) في مجال البحث العلمي لصناعة السيارات. وفي عام 2018م كان هناك 131,600 موظف يعملون في مجال البحث والتطوير في صناعة السيارات.
ومن ضمن التطورات التي شهدها قطاع صناعة السيارات الألماني خلال السنوات الأخيرة انتقال العمليات الصناعية بشكل متزايد الى خارج ألمانيا، اذ في حين انخفض الإنتاج المحلي للسيارات الشخصية بنحو مليون سيارة في العامين الماضيين، فإن الإنتاج في مصانع الشركات الألمانية لصناعة السيارات في الخارج يتزايد باستمرار. ففي عام 2019م تم تصنيع حوالي 4,6 مليون سيارة في ألمانيا بينما تم إنتاج حوالي 11,4 مليون سيارة في الخارج. ويمثل هذا زيادة بنسبة 87 في المئة مقارنة بعام 2010م. وان كان هذا التزايد في الإنتاج في الخارج قد ساهم في إنشاء الوظائف وخلقها في ألمانيا خصوصا في مجال البحث والتطوير وفي تطوير النماذج.
التحول نحو التنقل كهربائياً
من اجل تحقيق اهداف حماية البيئة التي أعلنت الحكومة الألمانية الالتزام بها، خصوصا في إطار خفض انبعاثات الغازات العادمة، والتي تعد السيارات المزودة بمحركات الاحتراق الذاتي والتي تعمل بوقود البنزين والديزل، أبرز مصادر هذه الغازات. تشجع الحكومة الألمانية التحول الى السيارات الكهربائية والتطوير الإضافي للتنقل الكهربائي وإعادة اختراع السيارة كـ “كمبيوتر متجول” بوظائف جديدة عبر تحديثات البرامج. إضافة الى هذه السياسة الحكومية أصبح التحول الى السيارات الكهربائية اتجاها عالميا يزداد زخما يوما بعد يوم، وتحقق الشركات العالمية مزيدا من التقدم في اطاره، وبفعل هذه التطورات تجد صناعة السيارات الألمانية نفسها امام نقطة تحول جوهرية تدفعها الى إعادة هيكلة جميع اعمالها والبدء في عصر جديد من انتاج وصناعة السيارات بتقنيات مختلفة عما هو مستخدم في الوقت الحاضر.
مليون سيارة كهربائية في المانيا
تجاوز عدد السيارات الكهربائية على الطرق الألمانية، وفقا للمكتب الاتحادي للمواصلات (KBA)، مليون سيارة وذلك للمرة الاولي خلال شهر يوليو من العام 2021م، والذي تم فيه تسجيل 57 ألف سيارة كهربائية جديدة. وبهذا تكون الحكومة الألمانية قد حققت الهدف المعلن بالوصول الى مليون سيارة كهربائية في المانيا، وان كان متأخرا بنحو سبعة أشهر حيث كان الموعد الأصلي لكسر هذا الحاجز نهاية العام 2020م.
وتعمل أكثر من نصف هذا العدد من السيارات بمحرك كهربائي بحت بينما تعمل البقية بمحركات هجينة تجمع المحرك الكهربائي مع محرك الاحتراق الذاتي التقليدي. كما يدخل ضمن المليون السيارة الكهربائية المركبات التجارية والحافلات. وقد شهد تسجيل السيارات الكهربائية الجديدة زيادة كبيرة منذ منتصف العام الماضي وذلك نتيجة الدعم الحكومي المتزايد لهذا النوع من السيارات حيث تقدم الحكومة دعما يصل الى 9 الاف يورو عند شراء سيارة كهربائية، كما يُعفى أي شخص يشتري سيارة كهربائية جديدة أيضًا من ضريبة السيارات لمدة عشر سنوات. وقد تم تمديد نظام المكافئات لشراء السيارات الكهربائية حتى نهاية العام 2025م بعد ان يقتصر في الأصل على نهاية العام 2021م.
كما حدد وزير النقل في الحكومة الاتحادية أندرياس شوير رقم 14 مليون سيارة كهربائية كهدف تسعى الحكومة الى تحقيقه بحلول العام 2030م، وذلك من اجل الوصول الى متطلبات حماية المناخ، ولتحقيق هذا الهدف ينبغي توسيع البنية التحتية للشحن الكهربائي بسرعة أكبر.
محددات صناعة السيارات الكهربائية
ان ازدهار صناعة السيارات الكهربائية وارتفاع مبيعاتها يعتمد على التطور والتقدم في تعزيز البنية الأساسية لهذه الصناعة والتي ترتكز على عمودين اثنين هما: اولاً توطين صناعة بطاريات السيارات الكهربائية داخل ألمانيا وداخل الاتحاد الأوروبي، والثاني مدي انتشار محطات شحن السيارات الكهربائية، سواء الخاصة منها او العامة. وفي جانب صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، أعطت المفوضية الأوروبية الضوء الأخضر لمشروع “European Battery Innovation – EuBatIn” المنسق ألمانيًا والخاص بتسريع وتوطين صناعة البطاريات الكهربائية داخل دول الاتحاد الأوروبي. وتشارك في المشروع شركة صناعة السيارات الألمانية BMW ومنافستها لصناعة السيارات الكهربائية الأمريكية تسلا، والتي تبنى مصنعا كبيرا لصناعة السيارات الكهربائية في ولاية براندنبورج، بالإضافة الى تسع شركات أخرى لها مواقع في ألمانيا. ويمكن لهذه الشركات ان تتوقع ما يصل الى ثلاث مليارات يورو كدعم حكومي الى جانب ما يقرب من 9 مليارات استثمارات خاصة لتمويل عملياتها في تطوير سلسلة القيمة بأكملها في انتاج بطاريات السيارات الكهربائية، بداية من استخراج المواد الخام مروراً بتطوير خلايا البطاريات وإنتاجها إلى إعادة التدوير. ويشمل هذا المشروع أيضا دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في الدول المشاركة الأخرى، إسبانيا، فرنسا، بلجيكا، النمسا، إيطاليا، بولندا، السويد، فنلندا، سلوفاكيا، كرواتيا واليونان. ويستمر هذا المشروع حتى العام 2028م. ويضاف هذا المشروع الى مشروع سابق في نفس المجال اقرته المفوضية الأوروبية عام 2019م، بقيمة 3,2 مليار يورو. ويتركز الهدف من مشروعي الاتحاد الأوروبي الرئيسيين في اللحاق بالمنافسة الآسيوية في تطوير البطاريات وخلق سوق للتنقل الكهربائي في أوروبا.
اما فيما يتعلق بتطوير البنية التحتية لمحطات واعمدة شحن السيارات الكهربائية، فعلى الرغم من تطور هذا القطاع الا ان الفجوة بين إنتاج السيارات الكهربائية والتوسع في البنية التحتية للشحن في ألمانيا آخذة في الاتساع، وتفرض تساؤلات من نوع، لمن الاولوية في التوسع والتطوير؟ هل ينبغي تكثيف انتاج السيارات الكهربائية في البداية، ام التوسع في بناء محطات الشحن العامة والخاصة للسيارات الكهربائية؟
وفقًا للجمعية الاتحادية لإدارة الطاقة والمياه (BDEW)، يتم حاليًا تركيب ما يزيد قليلاً عن ثلاثة في المئة، أو 33100 نقطة عامة لشحن السيارات الكهربائية، من ضمن مليون نقطة شحن عامة تهدف الحكومة الألمانية إلى انجازها بحلول عام 2030م، وهو ما يظهر ان عدد محطات الشحن العامة في ألمانيا لا يزال ضعيفًا. الا ان العديد من الخبراء يؤكدون انه يتم المبالغة في تقدير أهمية البنية التحتية العامة للشحن للتنقل الكهربائي. حيث يقول فرديناند دودينهوفر، مدير مركز أبحاث السيارات في دويسبورغ: “دون الرغبة في التقليل من قيمة محطات الشحن العام، يتعين على المرء أن يقول إن البنية التحتية للشحن الخاص أكثر أهمية بكثير”. حيث تشير التوقعات الى أنه، وعلى المدى الطويل، سيتم تنفيذ ما يقرب من ثلثي إلى ثلاثة أرباع عمليات الشحن في المنازل. وهذا يوضح مدى أهمية الاستثمار في توسيع بناء وتركيب محطات الشحن الكهربائي للسيارات الخاصة في المنازل.
مستقبل صناعة السيارات الكهربائية في ألمانيا
حدث الكثير في ألمانيا فيما يتعلق بصناعة السيارات الكهربائية منذ قضية تزوير قيم انبعاثات الغازات العادمة في محركات الديزل في فولكس فاجن في عام 2015م. وقد بذلت الشركات الألمانية الكثير من الجهود من أجل مواكبة السوق الدولية، حيث إن صناعة السيارات الألمانية أفضل حالًا مما قد يتخيله الكثيرون عندما يتعلق الأمر بصناعة السيارات الكهربائية، حيث أصبحت فولكس فاجن على وجه الخصوص أول مُصنع ضخم في العالم يطور تقنيته الخاصة للسيارات الكهربائية بالكامل. بالإضافة إلى ذلك، لم تبيع الشركة عددًا من السيارات الكهربائية في أوروبا أكثر من شركة Tesla الأمريكية في العام الماضي فحسب، بل إنها تلحق أيضًا بالركب في جميع أنحاء العالم. من جهتها تخطط شركة مرسيدس لإنتاج مجموعة واسعة من السيارات الكهربائية.
ووفقًا لدراسة أجرتها شركة الاستشارات الإدارية PwC، فإن كل سادس سيارة كهربائية في جميع أنحاء العالم تأتي الآن من مصنع ألماني. وتزداد حصة الشركات الألمانية باستمرار من السوق العالمي للسيارات الكهربائية على الرغم من هيمنة المصنعين من الولايات المتحدة الأمريكية والصين. فقد باعت مجموعة فولكس فاجن وبي إم دبليو ومرسيدس بنز ما مجموعه 246 ألف سيارة كهربائية تعمل بالبطارية وحوالي 370 ألف سيارة كهربائية تعمل بمحرك هجين خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2021م.
ومن هنا يتوقع العديد من الخبراء ان شركات صناعات السيارات الألمانية لن تستطيع فقط اللحاق بالركب فيما يتعلق بصناعة السيارات الكهربائية بل يتوقع ان تقوم بدور رائد في هذا المجال وان تحتفظ بمكانتها في سوق السيارات الكهربائية كما هو الحال في صناعة السيارات التقليدية.