تذهب الكثير من الدراسات الى ارتباط نسبة مساهمة المرأة في السياسة والاقتصاد بشكل وثيق بمدى تقدم المجتمعات واستقرارها. ولا يمكن اليوم تصور الدورة الاقتصادية في أي مجتمع دون وجود دور أساسي ومركزي للمرأة في هذا الاقتصاد، حتى باختلاف حجم هذا الدور من مجتمع الى أخر. ويعد الاعتراف بهذا الدور وتعزيزه وترجمته في ارض الواقع على شكل أدوار قيادية في الاقتصاد أحد التحديات الأساسية التي تواجه اغلب اقتصاديات العالم حيث ما تزال المرأة لا تحظى بأدوار قيادية تعكس حجم مساهمتها في الاقتصاد كموظفة وعاملة وحتى كمستثمرة وصاحبة اعمال. وفي ألمانيا والتي تعد من أبرز الدول التي تلعب المرأة فيها دورا محوريا في الاقتصاد، ما تزال المرأة فيها تعاني من العديد من العوائق والصعوبات في تفعيل دورها القيادي في إدارة الاعمال.
المرأة وواقع العمل في ألمانيا
سياسيا حققت المرأة في ألمانيا تقدما جوهريا في مشاركة النساء في العمل السياسي وفي تولي المسؤوليات، فبداية من المستشارة السابقة انجيلا ميركل والتي تعد اول امرأة تتولي هذا المنصب في ألمانيا والأطول فترة في توليه على الاطلاق، كانت الحكومة الاتحادية الأخيرة التي ترأستها ميركل تضم 7 وزيرات مقابل 9 وزراء. كذلك بلغت نسبة النساء في البرلمان الاتحادي (البوندستاج) في الفترة الانتخابية حتى عام 2021م حوالي 31 في المئة من أعضاء البرلمان. اما في الحكومة الاتحادية الحالية والتي تم تشكيلها من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الليبرالي الحر برئاسة اولاف شولتز فقد كان عدد الوزيرات مساو لعدد الوزراء قبل ان يتم تغيير وزيرة الدفاع السابقة Christine Lambrecht بالوزير الحالي للدفاع Boris Pistorius. وبالرغم من خروج منصب المستشارية من يد النساء الا ان رئاسة البرلمان الاتحادي ذهبت للسيدة Bärbel Bas من الحزب الاشتراكي الديمقراطي كأول امرأة تتولي هذا المنصب الذي يعد ثاني منصب بعد منصب رئيس الجمهورية. كما ارتفعت نسبة النساء في البرلمان الاتحادي الجديد الى 34 في المئة من اجمالي عدد أعضاء البرلمان.
كما تلعب المرأة دورا مهما في الاقتصاد الألماني فبالإضافة الى انها تمثل نصف عدد السكان فهي تمثل ايضا أكثر من نصف خريجي الثانوية العامة المؤهلة للدخول للجامعة، كما تمثل نسبة النساء العاملات ما يقرب من 47 في المئة من مجموع القوة العاملة في ألمانيا، كما تتمتع النساء في ألمانيا بتعليم جيد للغاية حيث ان أكثر من نصف خريجي المدارس الثانوية وأكثر من نصف خريجي الجامعات وحوالي 46 في المئة من باحثي وطلاب الدكتوراه هم من النساء. ووفقًا للأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الاتحادي، تمتلك ألمانيا ثالث أعلى معدل توظيف للنساء مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي الأخرى. ففي عام 2017م، كانت 18.4 مليون امرأة تتراوح أعمارهن بين 20 و64 عامًا يعملن، وهو ما يساوي حوالي 75 في المئة من هذه الفئة العمرية. بينما تبلغ هذه النسبة في نفس الفئة العمرية لدى الرجال حوالي 83 في المئة. من جهة أخرى وفي جانب ريادة الاعمال والقطاع الخاص يتم تأسيس شركة واحدة فقط من بين كل ثلاث شركات في ألمانيا من قبل امرأة. وفي حالة الشركات الناشئة ذات التوجه التكنولوجي، هناك عدد أقل من ذلك.
وعلى الرغم من كل ما حققته النساء من تقدم في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية في ألمانيا مقارنة بما كان عليه الحال قبل عقود، ويذهب كثيرون الى ان هناك الكثير مما يجب فعله للوصول الى مرحلة حصول المرأة على الحقوق المتساوية.
الحقوق المتساوية للمرأة في ألمانيا والاتحاد الأوروبي
أحد أهم مؤشرات حصول المرأة على الحقوق المتساوية مع الرجل هو نسبة النساء في المناصب الإدارية. وبحسب تقرير لمكتب الإحصاء الاتحادي (Destatis)، كانت نسبة النساء في المناصب الإدارية في ألمانيا في العام 2021م، 29 في المئة وبالتالي كانت أقل بكثير من نسبة النساء بين جميع الموظفين والعاملين والبالغة 47 في المئة. بالإضافة الى ذلك فإن نسبة المديرات التنفيذيات تختلف اختلافًا كبيرًا اعتمادًا على القطاع الاقتصادي الذي يعملن فيه، حيث كانت اعلى نسبة لهن في مجال التعليم والتدريس، اذ كانت 67 في المئة من المناصب الإدارية في هذا القطاع تشغلها النساء. وهذه القيمة تكاد تقارب نسبة النساء بين جميع العاملين في هذا المجال والبالغة 71 في المئة. كما أن عدد النساء يفوق عدد الرجال في المناصب الإدارية في قطاع الصحة والعمل الاجتماعي والتي تبلغ 61 في المئة بينما تبلغ نسبة النساء من اجمالي العاملين في هذا القطاع 77 في المئة. من جهة أخرى يوجد عدد قليل نسبيًا من المديرات التنفيذيات في قطاع خدمات الأعمال، إذ على الرغم من أن النساء يمثلن 50 في المئة من العاملين في هذا القطاع، إلا أن 26 في المئة فقط من المناصب التنفيذية تشغلها نساء. وتشمل المناصب الإدارية، على سبيل المثال، أعضاء مجلس الإدارة والمديرين الإداريين للشركات الصغيرة ورؤساء الأقسام في الشركات الكبيرة والمديرين في التجارة أو الإنتاج أو الخدمات أو الإدارة.
على مستوى الاتحاد الأوروبي لا يزال تمثيل المرأة أقل بين المديرين، ففي عام 2021م، كانت نسبة النساء في المناصب الإدارية حوالي 35 في المئة. وكانت النسبة الأعلى في الخدمات الصحية والاجتماعية (67 في المئة) والتعليم (64 في المئة)، والأدنى في البناء (14 في المئة) والصناعة (21 في المئة). اما على مستوى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كان لدى لاتفيا أعلى نسبة من المديرات (46 في المئة). كما حققت السويد وبولندا نسبة 43 في المئة من شغل النساء للمناصب الإدارية لكل منهما. وإستونيا (41 في المئة). وكانت أقل نسبة من المناصب الإدارية التي تشغلها النساء في قبرص (21 في المئة) ولوكسمبورغ (22 في المئة) وهولندا (26 في المئة). واحتلت ألمانيا المركز التاسع عشر في الترتيب على مستوى الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء الـ 27.
الدور القيادي للمرأة في التعليم
ما لم ينعكس بعد في نسبة النساء بين المديرين التنفيذيين هو مؤهلاتهن التعليمية المتزايدة، حيث ارتفعت المؤهلات المهنية للنساء بشكل مستمر في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي على مر السنين. في عام 2021م، حصلت 47 في المئة من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 25 و34 عامًا على مؤهل جامعي من أحد مؤسسات التعليم العالي، بينما كانت النسبة في نفس الشريحة العمرية من الرجال 36 في المئة فقط. وبالمقارنة مع العام 2002م، عندما بدأ قياس نسبة المؤهلات الجامعية للنساء والرجال، كان الفارق 4 نقاط مئوية فقط، حيث حصلت 25 في المئة من النساء على مؤهلات جامعية مقابل 21 في المئة من الرجال.
في ألمانيا ووفقًا لمركز تطوير التعليم العالي (CHE)، فاق عدد النساء اللائي سجلن في الجامعات الألمانية خلال الفصل الشتوي 2021/2022م، عدد الرجال، حيث شكلن ما يقرب من نسبة 52 في المئة من اجمالي الطلاب المستجدين. وذلك في إطار اتجاه متزايد منذ عقود حيث كانت نسبة النساء اللائي سجلن في العام الدراسي 1998/1999م لا تزال عند نسبة 44.5 في المئة. ومع ذلك، فإن أعلى المناصب في مؤسسات التعليم العالي لا تزال في كثير من الأحيان من نصيب الرجال. اذ لا يزال عدد النساء اللاتي يحاضرن في الجامعات والكليات الألمانية أقل بكثير من عدد الرجال. فوفقًا للمكتب الإحصاء الاتحادي، وبحسب بيانات العام 2021م، هناك امرأة واحدة فقط من بين كل أربع مناصب أستاذية بدوام كامل (27 في المئة) بعد ان كانت نسبتهن في العام 2011م، أي قبل عشر سنوات، 20 في المئة. كما كانت نسبة النساء في أساتذة تخصصات المواد الإنسانية هي 42 في المئة. فيما كانت نسبتهن من أساتذة المواد الهندسية 15 في المئة. وهذه النسب في المراكز العليا في الجامعات الألمانية لا تتوافق مع عدد النساء الدارسات في الجامعات، حيث كانت نسبة عدد الخريجات الجامعيات في العام 2021م، 53 في المئة من مجموع الخريجين. اما في مرحلة الدكتوراة فقد كانت نسبة النساء اللائي أتممن مرحلة الدكتوراة بنجاح 46 في المئة. وكانت نسبتهن الأعلى في تخصص الفنون بنسبة 69 في المئة، والأدنى في العلوم الهندسية بنسبة 19 في المئة.
زيادة الدور القيادي للمرأة في كبرى الشركات الألمانية
أظهرت دراسة لشركة EY للاستشارات أن نسبة شغل المرأة للمناصب الإدارية العليا في كبرى الشركات الألمانية المدرجة في سوق الأوراق المالية في فرانكفورت بمختلف مستوياته قد وصل الى أعلى مستوى له منذ بدأ تقييم الدور القيادي للمرأة في الشركات الألمانية منذ العام 2013م. فاعتبارًا من 1 يناير 2023م، كان هناك عضو مجلس إدارة واحد على الأقل من الإناث في 83 شركة من الشركات المدرجة في سوق الأوراق المالية (داكس).
وبالرغم من هذا التطور الا انه، ومن الناحية الحسابية البحتة، هناك امرأة واحدة في مجلس الإدارة تواجه حاليًا سبعة رجال، حيث كان 109 من أعضاء مجالس الإدارة البالغ عددهم 705 شخص من 160 شركة مدرجة في مؤشر داكس بمختلف مستوياته من النساء، بزيادة 17 امرأة عن العام السابق، وهو ما رفع نسبة النساء بنحو 2.3 نقطة مئوية إلى 15.5 في المئة من مجموع أعضاء مجالس إدارة هذه الشركات. وكان التغيير أكثر وضوحًا في مجالس إدارة أكبر اربعين شركة في البورصة (DAX)، حيث بلغت نسبة النساء في مجالس إدارة هذه الشركات 21.2 في المئة، كما ان 85 في المئة من هذه الشركات لديها امرأة واحدة على الأقل في عضوية مجلس الإدارة التنفيذي.
ولا يتوقف تطور دور المرأة القيادي في الشركات الألمانية الكبرى على نسبتهن في مجالس الإدارة ولكن أيضا في الميل المتزايد في شغل النساء للمناصب القيادية الشاغرة، فمن ضمن 22 عضوا جديدا في مجالس إدارة أكبر الشركات الألمانية المدرجة في مؤشر داكس في العام 2022م، كان 11 منهم من النساء. اما في الشركات المتوسطة الحجم والمدرجة في سوق الأوراق المالية تحت مؤشر (MDAX) والبالغ عددها 50 شركة فقد بلغت نسبة النساء في مجالس ادارتها التنفيذية 12 في المئة، فيما بلغت نسبة النساء في مجالس إدارة 70 شركة ألمانية صغيرة مدرجة في البورصة تحت مؤشر (SDAX) الى 12.4 في المئة.
وبحسب دراسة لشركة EY فان مسألة وصول المرأة إلى مستويات الإدارة العليا مسألة تتعلق بالقطاع الاقتصادي الذي تعمل فيه الشركة، كما تختلف مدى صعوبة وصول النساء الى المواقع القيادية باختلاف إدارة الشركة. بالإضافة الى ذلك فان النساء في مجالس الإدارة التنفيذية غالباً ما تتولى بشكل أساسي مسؤولية الوظائف التشغيلية (32 في المئة من أعضاء مجلس الإدارة)، وإدارة الموارد البشرية (25 في المئة) والمسؤولية عن المالية (20 في المئة).
الدور القيادي للمرأة في الشركات الكبيرة في ألمانيا حصل على دفعة قوية بعد ان دخل قانون جديد حيز التنفيذ بداية من الأول من أغسطس 2022م، والذي ينص على ان الشركات التي تضم أكثر من 2000 موظف وأكثر من ثلاثة أعضاء في مجلس الإدارة عليها التأكد من وجود امرأة واحدة على الأقل في مجلس الإدارة التنفيذي عند إجراء تعيينات جديدة.
من جانب أخر، وفي دراسة أخرى أجرتها شركة EY للاستشارات ظهر ان النساء يتفوقن على زملائهن الذكور في المجالس التنفيذية ل 160 شركة المدرجة في سوق الأوراق المالية فيما يتعلق بالأجور، فبحسب الدراسة حصلت النساء على متوسط 2.4 مليون يورو كراتب سنوي في عام 2021م، وبالتالي 348 ألف يورو أكثر من زملائهن في مجلس الإدارة الذكور. وفي هذا المجال استفادت النساء من السياسة الحكومية التي تستهدف دعم الدور القيادي لهن ورفع نسبة مشاركتهن في مجالس الإدارة في الشركات الألمانية، وهو ما أدى الى ان تكون المرأة في موقع تفاوضي جيد للغاية مع الشركات نظرًا لندرة المرشحات ذوات المؤهلات العالية والمناسبة وبالتالي زادت قيمة أجورهن السوقية وارتفعت مرتباتهن ومزاياهن المالية.
ولا يعكس ارتفاع رواتب المديرات التنفيذيات في كبرى الشركات الألمانية بالمقارنة مع نظرائهن من الرجال الواقع السائد في سوق العمل ككل، حيث تكسب النساء في ألمانيا في المتوسط أقل بنسبة 18 في المئة مقارنة بالرجال. ويرجع ذلك لا الى سياسة تمييزية بل بدرجة أكبر الى أسباب هيكلية، فعلى سبيل المثال، تعمل النساء أكثر من الرجال في القطاعات والمهن التي يكون فيها الأجر أقل والتي من غير المرجح أن تصل فيها النساء إلى مناصب إدارية عليا. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تعمل النساء بدوام جزئي أو وظائف صغيرة أكثر من الرجال.
التعديل القانوني للمساواة في الأجور
ومع الإقرار بوجود أجور غير عادلة في حق النساء ، حيث يتلقين أجور أقل على نفس العمل وبنفس الدوام الذي يقوم به زملائهن الذكور، الا ان هذا أخذ في التقلص والتراجع خصوصا بعد ان قضت محكمة العمل الاتحادية (BAG) بأن الفروق في الراتب بين الرجال والنساء لا يمكن تبريرها ببساطة من خلال «مهارات التفاوض الأفضل» للرجل (وهي الحجة الأكثر استخداما من ارباب العمل لتبرير تلقى الموظفات رواتب أقل من الموظفين الذكور). وانه يحق للموظفات الحصول على نفس الراتب الذي يتقاضاه زملائهن الذكور عن العمل المعادل.
ويعود مبدأ «الأجر المتساوي للعمل المتساوي، بغض النظر عن الجنس». إلى قانون الاتحاد الأوروبي، حيث تنص معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي (TFEU) على أنه «يتعين على كل دولة عضو ضمان تطبيق مبدأ الأجر المتساوي للرجال والنساء عن العمل المتساوي أو العمل ذي القيمة المتساوية». وبناء على ذلك سيكون لحكم محكمة العمل الاتحادية تأثير كبير على المساواة في الأجر بين الرجال والنساء في ألمانيا، حيث يمكن أن يساعد في تغيير مفاوضات الرواتب وبالتالي سد ما يسمى «فجوة الأجور بين الجنسين»، وهي الفجوة الموجودة بين متوسط أجر الموظفين والموظفات، والذي كان وما يزال أحد اهم مؤشرات عدم المساواة بين الرجال والنساء في ألمانيا.