أصبح التوسع في الطاقات المتجددة خيارًا استراتيجيًا لتقليل اعتماد ألمانيا على الوقود الاحفوري وأحد الحلول للاستغناء عن واردات الطاقة سواء من روسيا او غيرها، ويمثل هذا التوسع جوهر التحول في الطاقة الذي اقرته الحكومة الألمانية منذ أكثر من 10 أعوام واساس الاستراتيجية الألمانية للوصول الى صفر انبعاثات غازات عادمة في العام 2045م. الا ان هذا التوسع بحاجة الى إمكانات ماليه واستثمارات مكثفة وتغيرات اساسية في السياسات والقوانين الى جانب العوائق التي تواجه هذا التوسع. وبالرغم من الطيف الواسع لمصادر الطاقة المتجددة من رياح وطاقة شمسية وطاقة كهرومائية وطاقة حيوية وطاقة حرارة الأرض الا ان اهم مصدرين للطاقات المتجددة قابلين للاستغلال الاقتصادي والتوسع هما طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
ويظهر أثر التوسع في مصادر الطاقة المتجددة أكثر ما يظهر في انتاج الكهرباء في ألمانيا، حيث جاء ما يزيد عن نصف إنتاج الكهرباء في العام 2022م، من الطاقات المتجددة، وتحديدًا بنحو 50.3 في المئة بحسب اتحاد اقتصاد الطاقة والماء الألماني (BDEW)، ومعهد شتوتغارت للأبحاث (ZSW). وتعد هذه النسبة اعلى بستة في المئة مقارنة مع العام السابق.
وتلعب الطاقة الشمسية دورًا أكبر للإسهام في تحقيق التحول في الطاقة المنشود في ألمانيا انطلاقا من عدة اعتبارات من اهمها التقدم التقني الكبير الذي تحقق في مجال خلايا الطاقة الشمسية والذي رفع من كفاءتها الى مستويات عالية وسهولة استخدام اللوحات الشمسية وتركيبها على أسطح البنايات او شرفات المنازل بالإضافة الى التكلفة المناسبة لأسعار الطاقة الكهربائية المنتجة عن طريق الخلايا الشمسية بالمقارنة مع مصادر الطاقة الأخرى. كما تكمن ميزة الشمس كمصدر للطاقة في أنها متاحة مجانًا وبدون قيود وإلى أجل غير مسمى.
مساهمة الطاقة الشمسية في انتاج الكهرباء في ألمانيا
العام 2022م، بلغ حجم مساهمة الطاقة الشمسية في اجمالي الطاقة الكهربائية المولدة في ألمانيا نحو 10.9 في المئة بعد ان كانت لا تتجاوز نسبة 9 في المئة في العام 2021م، حيث أنتجت الأنظمة الكهروضوئية الألمانية حوالي 58 تيرا وات/ساعة. وبهذا يكون توليد الطاقة الشمسية قد ارتفع بنسبة 19 في المئة مقارنة بعام 2021م. ويأتي ذلك في إطار النمو المتزايد في السنوات الأخيرة حيث لم تكن تتجاوز حصة الطاقة الشمسية في انتاج الكهرباء في العام 2017م، نسبة 6 في المئة فقط. كما ساهم استخدام الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء في العام 2022م، في خفض حجم انبعاثات الغازات الضارة بالبيئة والمناخ بما يقرب من 41.7 مليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون.
في الأشهر الستة الأولى من عام 2023م، تم إدخال إجمالي 30 تيرا وات / ساعة من الكهرباء من الخلايا الكهروضوئية في شبكة الكهرباء الألمانية وهو ما يعني أن الطاقة الشمسية شكلت ما يقرب من 13.4 في المئة من توليد الكهرباء في ألمانيا خلال النصف الأول من العام الحالي، وهو ما يمثل رقما قياسيا. حيث كانت هذه النسبة قد بلغت في نفس الفترة قبل عام واحد 10 في المئة. وتزداد جاذبية استخدام الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء في ألمانيا ويزداد الطلب الكبير عليها بشكل متواصل حيث يستخدم المزيد من الشركات والمنازل الخاصة في ألمانيا الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء. ويزيد من الاقبال على استخدم أنظمة الطاقة الشمسية ان الامر لا يتعلق بالاكتفاء او الحصول على الكهرباء بشكل مباشر وبكلفة اقل بكثير فقط، ولكن وبالإضافة الى ذلك، توافر إمكانية بيع الإنتاج الإضافي من الكهرباء الناتج عن هذه الأنظمة وتغذيته في الشبكة الرئيسية لتوزيع الكهرباء، ووفقاً لمكتب الإحصاء الاتحادي، بلغ دخل الاسر التي تمتلك أنظمة كهروضوئية من بيع فائض الطاقة الكهربائية 174 يورو شهرياً. وبحسب مكتب الإحصاء الاتحادي أيضا بلغ عدد الأنظمة الكهروضوئية في ألمانيا حوالي 2.6 مليون نظام بحلول منتصف العام 2023م.
لكن الإشكالية الاساسية في الطاقة الشمسة ان ألمانيا لا تعد من الدول التي تتمتع بسطوع الشمس فيها لأوقات طويلة او بكثافة عالية خصوصا في أشهر الشتاء والخريف، وهو ما يحد من التوسع في استخدام أنظمة الطاقة الشمسية والاعتماد عليها.
ارتفاع الطلب على محطات الطاقة الشمسية
سجل الطلب على أنظمة الطاقة الشمسية للمنازل ارتفاعًا كبيرًا العام الحالي 2023م، فوفقًا لاتحاد صناعة الطاقة الشمسية الألمانية (BSW)، تم تشغيل 159.000 نظام كهروضوئي للمنازل الخاصة في الربع الأول 2023م، في جميع أنحاء ألمانيا، وهو ما يساوي ارتفاعاً بنسبة 146 في المئة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وبالإضافة إلى نمو استخدام أنظمة الطاقة الشمسية من قبل أصحاب المنازل، تشير إحصاءات اتحاد صناعة الطاقة الشمسية أيضًا الى ارتفاع كبير في استخدام هذه الأنظمة من قبل مستثمرين آخرين مثل المزارعين الذين لديهم أنظمة شمسية مثبتة على الأراضي الزراعية. كما تشير هذه الإحصاءات الى ان عدد أنظمة تخزين الطاقة الشمسية الجديدة سيتجاوز بحلول نهاية يونيو 2023م، العدد الإجمالي للبطاريات الشمسية التي تم تركيبها في مجمل العام الماضي.
وبلغ حجم الطاقة الكهربائية المولدة من الأنظمة الجديدة للطاقة الشمسية التي تم تركيبها في العام 2022م، حوالي 7.5 جيجاوات / ساعة وهو ما يمثل الزيادة الأكبر في الطاقة الشمسية المضافة منذ أكثر من عشر سنوات. كما ساهمت الطاقة الشمسية في العام 2022م، أيضا بما يقرب من نسبة 11 في المئة من حجم الطاقة الكهربائية المولدة في ألمانيا، وهو ما يجعلها رابع أهم مصدر لإنتاج الكهرباء بعد الفحم وطاقة الرياح والغاز الطبيعي. بالإضافة الى ذلك تمثل الطاقة الشمسية ثلثي الزيادة المتوقعة في الطاقات المتجددة، وهو الامر الذي يعود الى التكلفة المناسبة، فبحسب معهد فراونهوفر لأنظمة الطاقة الشمسية (ISE)، تظل الطاقة الشمسية أرخص أشكال توليد الكهرباء على الإطلاق، بتكلفة تتراوح بين ثلاثة وأربعة سنتات لكل كيلووات / ساعة من الكهرباء.
ويرى Carsten Körnig الرئيس التنفيذي لاتحاد الطاقة الشمسية BSW، ان الطفرة في استخدام أنظمة الطاقة الشمسية الحالية ترجع إلى عدد من العوامل، من أهمها الزيادة الكبيرة في أسعار الطاقة في العام الماضي والناتجة عن الحرب في أوكرانيا الى جانب تأثير ازمة كورونا حيث «استثمر العديد من مالكي المنازل الكثير في منازلهم أثناء الجائحة». فمع وجود نظام طاقة شمسية مثبت على أسطح المنازل او على الشرفات، يمكن للأسر الخاصة من ناحية تقليل كمية الكهرباء التي يحصلون عليها من الشبكة الرئيسية العامة وبالتالي توفير التكاليف. ومن ناحية أخرى، وفي حالة وجود انتاج زائد من الكهرباء فانه يتم عادةً تغذية الكهرباء الزائدة في الشبكة العامة ودفع قيمتها لمالك النظام من خلال تعريفة التغذية. وساهمت عدد من التغييرات في قانون مصادر الطاقة المتجددة (EEG) في رفع جاذبية امتلاك انظمة الطاقة الشمسية حيث نصت التعديلات على ان الأنظمة المثبتة حديثًا معفاة من ضريبة المبيعات، كما تمت زيادة تعريفة التغذية للأنظمة الجديدة.
اما في جانب التحديات التي تواجه نمو استخدام أنظمة الطاقة الشمسية فتتمثل في ارتفاع أسعار هذه الأنظمة والتي زادت في العام 2022م، بنحو 19 في المئة. وعلى الرغم من توقع تراجع الأسعار نوعا ما بسبب تحسن العرض بشكل عام الا ان انخفاض الأسعار الى مستوى ما قبل ازمة الطاقة غير متوقع. وتمثل أسعار الفائدة المتزايدة لتمويل مشاريع الطاقة الشمسية التحدي الأكبر امام صناعة الطاقة الشمسية حاليًا، حيث ترى الشركات العاملة في القطاع انه حتى قرض بنك إعادة الاعمار الحكومي KfW لتمويل أنظمة الطاقة الشمسية، والذي يوصف بأنه منخفض الفائدة، قد ارتفع من 1.06 إلى 4.75 في المئة.
وفي هذا المجال يؤكد Tim Koenemann، رئيس قسم الطاقة المتجددة في مصرف Commerzbank: «بسبب التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية ومشاكل سلسلة التوريد، ارتفعت تكاليف الاستثمار في أنظمة الطاقة المتجددة بشكل كبير. هذا هو السبب في أن المردود في العديد من المشاريع أصبح الآن أقل «. من جانبه يرى Detlef Neuhaus رئيس شركة Solarwatt أن ارتفاع مستوى سعر الفائدة يسبب حالة من عدم اليقين العام «لقد تغير الإطار المالي، لذلك يجب إعادة حساب تنفيذ المشاريع، وهذا يؤثر على أصحاب المنازل وكذلك الشركات ومطوري المشاريع الكبيرة.»
رئيس اتحاد الطاقة الشمسية الألماني Körnig أعتبر أن عبء الفائدة المتزايد لزيادة رأس المال قد أدى بشكل كبير إلى تمديد فترات الاسترداد للاستثمارات في مشاريع الطاقة الشمسية الجديدة. حيث يستغرق الأمر مزيدًا من الوقت لاسترداد تكاليف الاستثمار، إذ يستغرق في المتوسط حوالي نصف عام أطول لكل نقطة مئوية أعلى في معدل الفائدة. ويحذر Körnig من أن عبء الفائدة المرتفع يؤدي حاليًا إلى إبطاء بناء مشاريع الطاقة الشمسية التي ليس لديها دعم حكومي.
وعلى العكس من هذه المخاوف لدي صناعة الطاقة الشمسية في ألمانيا، يتوقع الخبراء في شركة Rystad Energy، ان التوسع في بناء الطاقة الشمسية العالمية سيزداد بنسبة 13 في المئة هذا العام على الرغم من زيادة التكاليف، نظرًا لأن العديد من البلدان في العالم، وفي أوروبا على وجه الخصوص، تعمل على تحسين الإطار السياسي للتوسع في الطاقة الشمسية بما في ذلك تقديم التسهيلات والدعم الحكومي.
تنافسية صناعة الطاقة الشمسية الألمانية
قبل عشر سنوات وفي العام 2013م، عانت صناعة الطاقة الشمسية في ألمانيا من صعوبات كبيرة بسبب وحدات انتاج الطاقة الشمسية الرخيصة التي يتم انتاجها في الصين وعدد أخر من الدول الاسيوية واضطرت العديد من الشركات التي تم إنشاؤها بمساعدة الدولة إلى تقديم ملف إفلاس أو باعت أصولها في الخارج. لكن الوضع الآن مختلف تمامًا، حيث أصبح مناخ الأعمال في صناعة الطاقة الشمسية الألمانية أفضل من أي وقت مضى لأن عددًا لا يحصى من مالكي المنازل يرغبون في التحول إلى الاستفادة من الشمس لتوليد الطاقة أو كنظام تدفئة على خلفية ارتفاع أسعار الطاقة وأزمة المناخ.
وجذبت عودة صناعة الطاقة الشمسية المستثمرين، خصوصا المستثمرين في الشركات الناشئة والتي بدأت في تقديم نموذج جديد للأعمال في صناعة الطاقة الشمسية يقوم على توفير خيار الشراء او تأجير النظام الكهروضوئي المناسب لمنازلهم. الى جانب سعي عدد من الشركات الكبرى الى الاستثمار في صناعة الخلايا الشمسية في ألمانيا ومن أبرزها شركة Meyer-Burger السويسرية التي قامت ببناء مصنعين جديدين للخلايا والوحدات الشمسية في Bitterfeld-Wolfen وفي Freiberg.
وساهم في رفع تنافسية الشركات الألمانية في صناعة الخلايا الشمسية حقيقة أن أجور العمال المرتفعة في ألمانيا لم يعد لها تأثير كبير على تكاليف التصنيع لأن الآلات تقوم في الوقت الحاضر بجزء كبير من العمل. كما أصبحت شركات تصنيع الخلايا الكهروضوئية الألمانية قادرة على المنافسة مرة أخرى بمساعدة الابتكارات التكنولوجية، مثل تقنية الجمع بين أحدث جيل من الخلايا الشمسية مع نوع جديد من تقنية الاتصال (تقنية التوصيل غير المتماثل) والتي ساهمت في رفع كبير لكمية إنتاج الوحدات الشمسية، بينما يتم في نفس الوقت تقليل تكاليف إنتاج الكهرباء.
وأدى التقدم التقني والطلب المتزايد على تشجيع شركات الطاقة الشمسية الألمانية الأخرى على توسيع قدراتها. وكمثال على ذلك، قامت شركة صناعة الخلايا الكهروضوئية Solarwatt بتشغيل أكبر مصنع في أوروبا لإنتاج ما يطلق عليه الوحدات الشمسية الزجاجية.
بالإضافة الى ذلك، وفي دلالة على ارتفاع تنافسية صناعة الالواح الشمسية في المانيا، أعلنت مجموعة Longi الصينية والتي تعد أكبر شركة في العالم لإنتاج الالواح الشمسية نيتها بناء اول مصنع لها في ألمانيا. حيث أعلن Zhenguo Li مؤسس ورئيس المجموعة الصينية، «نحن نستعد بالفعل بشكل مكثف لبناء مصنع في ألمانيا». على أنه يجب أن يتم اتخاذ القرار النهائي في غضون ستة أشهر. ويأتي مشروع الشركة الصينية في إطار تعزيز وجودها داخل الاتحاد الأوروبي ولتجاوز الصعوبات والعقبات التي واجهتها سلاسل التوريد خلال الفترات الماضية. وفي مسعى أيضا الى الاحتفاظ بنصيب الشركة من السوق الأوروبي لألواح الطاقة الشمسية حيث وبحسب مكتب الإحصاء الاتحادي فان 90 في المئة من الالواح الشمسية المستوردة الى ألمانيا تأتي من الصين وكذلك هو الامر وبنسبة مشابهة لبقية دول الاتحاد الأوروبي.
ويؤكد عدد من الخبراء ان العديد من الشركات الصينية والاسيوية الأخرى تناقش في الوقت الحاضر خططا لبناء منشآت الإنتاج في أوروبا. ووفقًا لمطلعين في الصناعة، فإنهم جميعًا ينتظرون في الوقت الحالي لمعرفة برامج الدعم التي ستطلقها بروكسل وبرلين. حيث تعد إعادة توطين صناعة الطاقة الشمسية إحدى أولويات الاتحاد الأوروبي. وحددت رئيسة المفوضية Ursula von der Leyen هدفًا في هذا المجال يتمثل في أن يأتي ما لا يقل عن 40 في المئة من الأنظمة الكهروضوئية التي سيتم تركيبها في أوروبا بحلول عام 2030م، من مصانع أوروبية.