شهد العام 2015م تفاقم ازمة اللاجئين في أوروبا بعد ان تدفق على دول الاتحاد الأوروبي أكثر من مليون لاجئ كانت وجهة الاغلب الاعم منهم ألمانيا والتي كانت حكومة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل قد اتخذت قرارا في شهر سبتمبر من نفس العام بفتح الحدود لاستقبال اللاجئين العالقين في المجر والذي كانت اعدادهم لا تتجاوز عشرات الالاف قبل ان تستقبل ألمانيا نحو مليون لاجئ مع انتهاء العام 2015م، وقد استمر وصول اللاجئين الى ألمانيا في عام 2016م بأعداد كبيرة وان لم تكن بنفس حجم اعدادهم في 2015. وبحسب الأرقام الرسمية التي أعلنتها وزارة الداخلية الألمانية فقد تم تسجيل نحو 890 ألف لاجئ في ألمانيا في العام 2015م بينما وصل عدد اللاجئين الذي تم تسجيلهم خلال التسعة الأشهر الأولى من العام 2016م نحو 213 ألف لاجئ. هذه الاعداد الغير مسبوقة من اللاجئين فرضت على ألمانيا العديد من التحديات الاجتماعية والأمنية والاقتصادية، وفي الوقت الحالي تعد التحديات الاقتصادية لأزمة اللجوء هي الأكثر حضورا والأكثر بحثاً.
دراسة اثار ازمة اللجوء على الاقتصاد الألماني تقتضي التمييز والفصل بين مُتغيرين أساسيين، الاول هو الأعباء المالية التي تتحملها ميزانيات الحكومة الاتحادية وميزانيات حكومات الولايات والبلديات في عملية إيواء واستيعاب اللاجئين والثاني يتعلق بأثر وتبعات سياسة اللجوء على القطاعات الاقتصادية المختلفة إضافة الى أثرها على سوق العمل.
بداية يجب القول ان الدعم المالي الذي تقدمة ألمانيا في قضية اللجوء لا يقتصر على تحمل تكاليف واعباء إيواء واستيعاب ورعاية مئات الالاف من اللاجئين الموجودين على الأراضي الألمانية بل إضافة الى ذلك تقوم الحكومة الألمانية بتقديم مساعدات ومساهمات مالية بطريقة مباشرة وغير مباشرة لمعالجة قضية اللجوء عالميا سواء تم ذلك عبر منح الأموال للمنظمات الدولية العاملة في مجال إغاثة وعون اللاجئين او من خلال التدخل المباشر عبر المؤسسات الحكومية الألمانية في مناطق وبلدان تجمع اللاجئين، فألمانيا تعد ثالث اكبر مانح للمساعدات في العالم للاجئين حيث تقدم سنويا نحو 3 مليار يورو كمساهمة في ميزانية المنظمات الدولية وهذا المبلغ يمثل ثلاثة اضعاف ما كانت تقدمة الحكومة الألمانية منذ ثلاث سنوات. كما تقوم المؤسسات الرسمية الألمانية بإدارة العديد من المشاريع الاغاثية في العديد من البلدان التي تستقبل هي أيضا اعدادا كبيرة من اللاجئين كما في المشاريع التي مولتها ألمانيا في تركيا لتأهيل أكثر من 6 الالاف مدرس سوري وذلك بهدف دعم تعليم الأطفال السوريين كما تدير وزارة التعاون الدولي الاتحادية برامج تشغيل اللاجئين السوريين في تركيا بهدف اعطائهم امل في البقاء.
بالانتقال الى حجم الأعباء المالية التي تتكبدها ميزانيات الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية والبلديات والتي تتحمل مسؤولية استقبال وايواء ورعاية اللاجئين فان الأرقام في هذه الجزئية تتضارب بشكل كبير. وبالرغم من وجود متوسط حسابي لكلفة إيواء ورعاية اللاجئ الواحد والتي تبلغ ألف يورو شهريا أي 12 ألف يورو في السنة الا ان العديد من الدراسات والعديد من مؤسسات الأبحاث الاقتصادية لا تعتبره رقماً حقيقياً بسبب عدم اشتماله لتكاليف أخرى تتحملها الميزانية العامة مثل تكاليف المدارس والحضانات ودورات تعليم اللغة الألمانية والتدريب المهني بالإضافة الى النفقات الإدارية، وتشترك الحكومة الألمانية مع مراكز ومعاهد الدراسات الاقتصادية في عدم امتلاكها لأرقام محددة للكلفة المالية الاجمالية لسياسة اللجوء حيث تذهب تقديرات خبراء الحكومة الاتحادية الى ان ما تحملته الخزينة العامة للحكومة الاتحادية والحكومات المحلية نتيجة ازمة اللجوء تتراوح ما بين 5,9 مليار الى 8,3 مليار يورو بالنسبة للعام 2015م فيما تتراوح التقديرات الحكومية لتكاليف سياسة اللجوء للعام 2016م ما بين 9 مليار و 14,3 مليار يورو. فيما بلغت تقديرات معهد ميونخ للأبحاث الاقتصادية لكلفة اللاجئين خلال عام 2015م فقط نحو 21,1 مليار يورو، معهد كيِل للاقتصاد الدولي يقدر هذه التكاليف للعام 2016م بحدود 25,6 مليار يورو. معهد كولونيا للاقتصاد الألماني يقدر تكاليف دورات الاندماج واللغة فقط والمخصصة للاجئين للعام 2016م بنحو 5 مليار يورو. هذه التقديرات المتنوعة والمختلفة لتكاليف سياسة اللجوء يعود سببها الى غياب الإحصاءات والمعلومات الدقيقة حول اللاجئين من ناحية الاعمار والمهن ومستوى التعليم والاحتياجات الخاصة وغيرها والذي يعود أيضا في جزء منه الى بطء عملية تقديم طلبات اللجوء الرسمية وكذلك التأخر في اتخاذ القرار من قبل الجهات المختصة حول هذه الطلبات قبولا او رفضا نتيجة الاعداد الكبيرة من اللاجئين وتعقيد اليات اتخاذ القرار إضافة أيضا الى عدم دقة ووضوح المعلومات التي يقدمها اللاجئ عن نفسه في كثير من الحالات، كل هذا يؤدي بالنتيجة النهائية الى افتقاد السلطات الحكومية للمعلومات الدقيقة الخاصة بتقدير حجم ونوع الاحتياجات والمساعدات التي يجب ان تقدم الى اللاجئ.
تحليل التكلفة المالية لسياسة اللجوء وتبيان اثارها على الاقتصاد الألماني يعتمد على دراسة تأثير هذه التكلفة على مستويين، المستوى الأول يرتبط بالحالة الاجمالية للاقتصاد والذي يرى في ان ازدياد الانفاق الحكومي وضخ مزيد من الأموال في الدورة الاقتصادية الداخلية، والتي هي هنا في ألمانيا محرك النمو الرئيسي، ستؤدي حتما الى ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي. ان الاغلب الاعم من الأموال التي تم انفاقها في إطار سياسة اللجوء ذهبت الى قطاعات الاقتصاد الألماني المختلفة والى مزيد من الاستثمارات في البنى التحتية من مدارس وحضانات وكذلك قطاعات الخدمة العامة وساهمت هذه الأموال بذلك في توظيف وتشغيل الكثيرين سواء في القطاع الحكومي او القطاع الخاص، وبالمحصلة الاجمالية حقق الاقتصاد الألماني نموا إضافيا لهذا العام يتراوح ما بين 0,5% الى 1,5% كما انخفضت معدلات البطالة الى ارقام قياسية حيث سجلت هذه المعدلات في شهر أكتوبر 2016م أدني معدلاتها منذ أكثر من 25 عاماً.
وبالرغم من صعوبة تحديد مدى مساهمة إنفاق الحكومة الألمانية على سياسة اللجوء في تحقيق هذا النمو الإضافي ومدى مساهمته في خفض معدلات البطالة الا ان الأثر الإيجابي لهذا الانفاق على نمو الاقتصاد وعلى انخفاض البطالة غير قابل للإنكار.
تحليل التكلفة المالية لسياسة اللجوء وأثرها الاقتصادي في المستوى الثاني يرتبط بتأثيرها على قطاعات اقتصادية وخدمية محددة، لعل أبرزها قطاع البناء، قطاع تجارة المواد الغذائية، الشركات المتخصصة في تقديم خدمات الامن والترجمة والرعاية وغيرها من القطاعات الخدمية الخاصة اذ حققت هذه القطاعات إيرادات ونموا إضافيا وتمكنت من انشاء وظائف جديدة، وبالنظر الى قطاع مثل قطاع بناء المساكن على سبيل المثال، والذي يعد احد القطاعات الأكثر استفادة من انفاق الحكومة الإضافي، سنشاهد نموا كبيرا على الطلب على المساكن اذ يتوقع الخبراء ان يرتفع الاحتياج الى المساكن من 300 ألف مسكن في الوقت الحاضر الى 400 ألف مسكن سنويا مدفوعا بشكل رئيسي بسبب اعداد اللاجئين القادمين الى ألمانيا.
نتيجة موجة اللاجئين تعرض سوق العمل والوظائف في ألمانيا الى العديد من التحديات فيما يتعلق بقدرته على استيعابهم، اذ ان 70% من عدد اللاجئين هو في سن تسمح له بالعمل و75% من هذا العدد قادر على الدخول مباشرة الى سوق العمل. لكن الإشكالية الأساسية تتمثل في كون أكثر من 80% منهم من العمالة الغير مؤهله. في الوقت الحاضر هناك 411 ألف لاجئ يسعون الى الحصول على نحو 200 ألف وظيفة موجودة في سوق العمل الألماني للعمالة الغير مؤهلة مع 1,250 مليون باحث عن عمل لا يمتلك مؤهلات موجودين بالفعل في الوقت الحاضر في ألمانيا. خلال الفترة من أكتوبر 2015م وحتى سبتمبر 2016 ووفقا لتقرير وكالة العمل الاتحادية حصل 28500 لاجئ فقط على عمل.
وفي التقييم النهائي ومع الاعتراف بالعبء المالي الكبير الذي تتحمله ميزانية الحكومة الاتحادية وميزانيات حكومات الولايات والبلديات في ازمة اللاجئين وفي رعاية مئات الالاف منهم، الا ان ذلك لا يعني بالضرورة حتمية التأثير سلبا على الاقتصاد الألماني بل على العكس من ذلك اذ استفاد الاقتصاد إيجابيا وسيستمر هذا التأثير إيجابيا على شرط ان تبقى هذه الميزانيات متوازنة وبدون ان يتسبب هذا الانفاق الإضافي على اللاجئين في حدوث عجز فارق فيها.