ما يزال الاقتصاد الألماني يواجه صعوبات متزايدة الى جانب المشكلات الهيكلية التي يعاني منها، حيث اظهر تقرير صادر عن البنك المركزي الألماني ان الناتج المحلي الإجمالي سيتراجع بواقع 0.2 في المئة في العام الحالي 2024م، مع توقعات للنمو بنسبة 0.2 في المئة فقط في عام 2025م، و0.8 في المئة في عام 2026م، و0.9 في المئة في عام 2027م.

     وتواجه الصناعة الألمانية، المعروفة بتركيزها على التصدير، ضغوطًا كبيرة للتكيف مع الأوضاع الجديدة. داخليًا، يتعين على الشركات مواجهة ارتفاع تكاليف الطاقة ومتطلبات التحول إلى اقتصاد محايد للكربون، بالإضافة إلى التحديات المرتبطة بالتحولات الديموغرافية. أما على الساحة الدولية، فإن الشركات الألمانية تواجه تزايدًا في السياسات الحمائية وتنامي المنافسة من الاقتصادات الناشئة. ويشير الخبراء إلى أن الصين، على وجه الخصوص، أحرزت تقدمًا ملحوظًا في قطاعات حيوية مثل صناعة السيارات والصناعات الكيميائية وصناعة الآلات والمعدات، وهي القطاعات التي تعد ركيزة أساسية للصناعة الألمانية. ونتيجة لذلك، فقدت الشركات الألمانية حصصًا ملموسة في السوق لصالح منافسيها الصينيين. كما لم يعد الاستهلاك الخاص محركًا للنمو الاقتصادي في ألمانيا، ومن المتوقع ألا يكون الاستهلاك عاملًا مستقلاً في تحفيز الانتعاش الاقتصادي خلال السنوات المقبلة.

     وفيما يتعلق بالتضخم فتشير توقعات البنك المركزي الى انه من المرجح أن يبلغ معدل التضخم السنوي 2.5 في المئة هذا العام، وهو أقل قليلاً من التوقعات السابقة. ومع ذلك، لا يتوقع خبراء البنك أن ينخفض معدل التضخم في ألمانيا إلى 2 في المئة قبل عام 2026م، حيث من المتوقع أن يسجل 2.1 في المئة في عام 2026م، و1.9 في المئة في عام 2027م. ويُعزى ذلك إلى تأثير السياسة النقدية المتشددة السابقة، والتي يُتوقع أن تؤدي إلى تخفيف الضغط الناتج عن تكاليف العمل. في العام المقبل، من المتوقع أن يظل معدل التضخم مرتفعًا نسبيًا عند 2.4 في المئة، ويرجع ذلك أساسًا إلى التباطؤ في انخفاض أسعار الخدمات. ومن المتوقع حدوث زيادات ملحوظة في الأسعار في عام 2025م، خاصة في قطاعات النقل العام المحلي وخدمات التأمين والإيجارات.

     من جانب أخر اظهر استطلاع أجراه معهد الاقتصاد الألماني (IW) وشمل أكثر من 2000 شركة، ان 40 في المئة من الشركات الألمانية تتوقع تراجعاً في آفاق أعمالها خلال العام المقبل، في حين تدخل خُمس الشركات فقط العام الجديد بنظرة تفاؤلية. لهذا السبب، تخطط 23 في المئة فقط من الشركات لزيادة استثماراتها في عام 2025م، بينما تتوقع 40 في المئة منها خفض استثماراتها. ووفقًا لتقرير المعهد، لم يكن التشاؤم في الاقتصاد الألماني بهذه الحدة منذ الأزمة المالية لعام 2008م. ويؤكد التقرير أنه “لا توجد إشارات تدل على تحول اقتصادي وشيك في ألمانيا”، بل على العكس، من المرجح أن تظل ألمانيا في حالة من الجمود الاقتصادي لمدة عام آخر.

     ويعد القطاع الصناعي أكثر القطاعات تضررًا من حالة الجمود التي يعيشها الاقتصاد الالماني، حيث يؤكد Stefan Kooths، رئيس قسم الاقتصاد في معهد كيل للاقتصاد العالمي (IfW)، “لم نعد نتحدث عن ركود صناعي، بل عن أزمة هيكلية.” وأضاف أن هذه الأزمة ستؤدي إلى “فقدان دائم للوظائف” في القطاع الصناعي، ما يشير إلى تحولات عميقة وطويلة الأمد في الاقتصاد الألماني.

     وتؤثر الأزمة الاقتصادية بشكل متزايد على قطاعات كانت في السابق قادرة إلى حد ما على الصمود. فعلى عكس الاستطلاعات السابقة للمعهد، أصبح قطاع الخدمات أيضًا ينظر إلى الوضع نظرة سلبية. أما في قطاع البناء، فلا تزال الظروف الاقتصادية الصعبة مستمرة. ومع ذلك، تُظهر الصناعة الألمانية أسوأ تقييم للوضع، حيث صرّحت 57 في المئة من الشركات الصناعية التي شملها الاستطلاع بأن وضعها الحالي أسوأ مما كان عليه قبل عام.

     وتتجلى أزمة الصناعة بشكل واضح في سوق العمل، فقد أعلنت 19 في المئة فقط من الشركات التي شملها الاستطلاع عن وجود زيادة في عدد موظفيها مقارنة بالعام الماضي، في حين أن 38 في المئة من الشركات، أي ضعف هذا العدد، خفضت عدد موظفيها، والأسوأ من ذلك، أن الشركات تخطط لاستمرار خفض الوظائف في المستقبل القريب.

     وتعلن العديد من الشركات الصناعية الكبرى حاليًا عن خطط لخفض الوظائف. ولم تتوقف التخفيضات عند قطاع الصناعات الثقيلة، فقد أعلنت شركتا أودي (Audi) وسيمنز (Siemens) أيضًا عن خطط لخفض الوظائف، لكن لم يتم الكشف بعد عن الأرقام الدقيقة. حتى قطاع البرمجيات لم يسلم من هذه الأزمة، حيث أعلنت شركة SAP، وهي أعلى شركة ألمانية من حيث القيمة السوقية، عن خطط لتسريح 3500 موظف في ألمانيا. لقد أصبح من الواضح ان الأزمة تؤثر الآن أيضًا على سوق العمل، واظهر الاستطلاع الذي أجراه معهد الاقتصاد الألماني ان 4 شركات من كل عشر تنوي خفض عدد موظفيها، كما أشار خبراء الاقتصاد في معهد IW إلى حدوث نقطة تحول مهمة. حيث أن “عملية زيادة التوظيف، التي استمرت في ألمانيا منذ عام 2005م، قد توقفت”.

     وعن أسباب الركود الاقتصادي في ألمانيا، يرى Daron Acemoglu، الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد والمحاضر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن نمو الاقتصاد الألماني مقيد بسبب “كابح الديون”. ويُنتقد Acemoglu هذا القيد قائلاً إن ألمانيا بحاجة إلى الاستثمار بدلاً من وضع حدود على قدرة الحكومة على الانفاق. واعتبر الخبير الاقتصادي أن “أكبر مشكلة تواجهها ألمانيا هي البنية التحتية المتداعية”. وأضاف: “من غير المنطقي أن تقيد نفسك في مرحلة مثل هذه”. وأشار إلى أن “هذه الحدود الصارمة غير مفيدة”، في إشارة إلى القاعدة الدستورية المعروفة باسم “Schuldenbremse” التي تنص على عدم جواز ان يتخطى حجم القروض المسموح للحكومة الاتحادية الحصول عليها سنوياً عن نسبة 0.35 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. كما أكد على أنه يجب تحفيز الاستثمارات العامة والخاصة في التقنيات الجديدة والبنية التحتية، مشيرًا إلى أن هذه هي “مفتاح ألمانيا”. وبخصوص الوضع الاقتصادي، قال إنه “من الواضح أن ألمانيا أمامها سنوات صعبة، لكنني أعتقد أن النموذج الاقتصادي الألماني لا يزال يحتفظ بقوته”.

     من جانبه، أكد Clemens Fuest، رئيس معهد الدراسات الاقتصادية التابع لجامعة ميونخ ifo، على ضرورة حدوث تحول في السياسة الاقتصادية. داعيًا بشكل خاص إلى تعزيز الاستثمارات، وزيادة الكفاءة، وتعديل أنظمة الضرائب. وقال Fuest: “ألمانيا تواجه تحديات ضخمة في ظل المخاطر الجيوسياسية الجديدة، والتغير المناخي المتسارع، وفقدان الديناميكية الاقتصادية، ويجب معالجة العديد من القضايا بشكل متوازٍ الآن”.  وقد وصف Fuest، الوضع الاقتصادي بالصعب، مشيرًا بشكل خاص إلى تراجع القيمة المضافة الإجمالية للشركات، وانخفاض عدد ساعات العمل لكل عامل، وتراجع استثمارات الشركات، والتي أصبحت أقل بكثير من مستويات عام 2019م.

سوق العمل: انخفاض البطالة وتقاعد نحو 20 مليون عامل بحلول العام 2036م

     انخفض عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا خلال شهر نوفمبر بنحو 17 ألف شخص ليصل العدد الإجمالي للعاطلين عن العمل الى 2774000 شخص. وبالرغم من هذا الانخفاض ما يزال عدد العاطلين عن العمل أعلى بحوالي 168 ألف شخص مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي. ونتيجة لهذا التراجع في اعداد العاطلين انخفض معدل البطالة في شهر نوفمبر بنسبة 0.1 نقطة مئوية مقارنة بالشهر السابق ليصل الى مستوى 5.9 في المئة، الا ان هذا المعدل يضل أعلى بنحو 0.3 نقطة مئوية مقارنة بنفس معدل البطالة المسجل في شهر نوفمبر من العام الماضي.

     وعلقت Andrea Nahles، رئيسة مجلس إدارة الوكالة الاتحادية للعمل (BA)، على بيانات سوق العمل في شهر نوفمبر بالقول “لا يزال ضعف الاقتصاد يشكل عبئًا على سوق العمل. وعلى الرغم من انخفاض البطالة في شهر نوفمبر، إلا أن الانخفاض كان، كما هو الحال في الشهر السابق، طفيفًا”.

     وفيما يتعلق ببرنامج العمل بدوام جزئي، بلغ عدد المسجلين الجدد في البرنامج خلال الفترة من 1 إلى 25 نوفمبر نحو 64 ألف شخص، وبحسب أحدث بيانات وكالة العمل الاتحادية بلغ اجمالي عدد المستفيدين من برنامج العمل بدوام جزئي في سبتمبر 268 ألف شخص مقارنة بـ 175 ألف شخص في أغسطس و194 ألف شخص في يوليو. اما في جانب الوظائف الشاغرة المسجلة لدى وكالة العمل الاتحادية فقد بلغ عددها في شهر نوفمبر 668 ألف وظيفة أي أقل بـ 65 ألف وظيفة مقارنة بالعام السابق. وعلى الرغم من الاتجاه التنازلي في عدد الوظائف الشاغرة والمستمر منذ صيف العام 2023م، الا ان مستوى الوظائف الشاغرة ما يزال مرتفعاً.

     في جانب أخر، وفي سياق اثار التغيرات الديموغرافية التي يعاني منها المجتمع الألماني أوضحت دراسة أجراها معهد الاقتصاد الألماني (IW)، أن سوق العمل في ألمانيا سوف يفقد ما يقرب من 19.5 مليون عامل بحلول عام 2036م بسبب التقاعد الناتج عن التقدم في العمر. كما تُظهر الدراسة أن حوالي 12.5 مليون عامل شاب فقط سيدخلون سوق العمل خلال الفترة نفسها، ما يعني أن عدد الداخلين الجدد لا يعوض عن عدد المتقاعدين.

     يتركز التحليل على الفئات العمرية المولودة بين عامي 1954م و1969م، التي تُعرف باسم جيل الطفرة في المواليد ” Babyboomer”، وقد استندت الدراسة إلى تعداد السكان لعام 2022م، الى جانب بيانات صادرة عن مكتب الإحصاء الاتحادي، بالإضافة إلى حسابات المعهد الخاصة. وتشير النتائج الى انه وبحلول نهاية عام 2022م، وصل حوالي 3 ملايين شخص من جيل ” Babyboomer” إلى سن التقاعد. ويُتوقع أن يتقاعد 16.5 مليون آخرين بحلول عام 2036م. هذه الأرقام تُبرز التحديات الكبيرة التي قد تواجه سوق العمل الألماني، مع تأثيرات متوقعة على النمو الاقتصادي واستقرار سوق العمل في السنوات المقبلة.

     ونظرًا لأن 12.5 مليون فقط من الأشخاص القادرين على العمل سيدخلون سوق العمل، ستؤدي هذه التطورات إلى “تبعات خطيرة”. ففي عام 2022م، كان هناك حوالي 30 شخصًا فوق سن الـ 67 مقابل كل 100 شخص في سن العمل، ووفقًا لحسابات معهد الاقتصاد الألماني، سيرتفع هذا العدد إلى حوالي 41 شخصًا بحلول عام 2040م. وعلى الرغم من الزيادة المتوقعة في عدد السكان بنسبة 2.3 في المئة بحلول عام 2040م ليصل إلى 85 مليون نسمة، ستظل شيخوخة المجتمع في ألمانيا، وفقًا لتحذيرات المعهد، التحدي الاجتماعي السياسي الرئيسي. وأوضح الباحث في المعهد Holger Schäfer، أن “موجة التقاعد المقبلة لجيل Babyboomer ستؤدي إلى اضطرابات في سوق العمل”، مشيرًا إلى أن السيطرة على هذه العواقب ستكون صعبة للغاية.

     وأكد الاقتصاديون أن انخفاض قوة العمل نتيجة تقاعد جيل Babyboomer يتطلب إمّا زيادة الهجرة لتعويض النقص، أو استغلال القدرات المتاحة بشكل أفضل. وحذروا من أنه إذا لم يتحقق ذلك، فسيكون هناك تراجع في مستوى المعيشة الحالي، خصوصًا مع الزيادة الكبيرة في نسبة السكان غير العاملين. بالإضافة إلى ذلك، أشار الاقتصاديون إلى أن التسهيلات التي أُدخلت على قوانين الإقامة بهدف تعزيز هجرة الكفاءات لم تؤدِ حتى الآن إلى زيادة ملموسة في أعداد القوى العاملة المهاجرة. ومن أبرز المشكلات الحالية، فترات الانتظار الطويلة للحصول على التأشيرات، والاعتراف البطيء بالمؤهلات المهنية الأجنبية، وضغوط العمل الكثيفة الذي تعاني منه مكاتب شؤون الأجانب.

وشدد المعهد على ضرورة أن تقدم الحكومة حوافز لتشجيع الأشخاص القادرين على العمل على البقاء في وظائفهم بعد سن التقاعد. كما أوصى بزيادة ساعات العمل للأشخاص العاملين حاليًا، بهدف استغلال الإمكانيات المتاحة بشكل أفضل.

البنك المركزي الألماني: استقرار النظام المالي مع توقع زيادة الأعباء على البنوك

     اظهر تقرير الاستقرار المالي الذي يصدره البنك المركزي الألماني ان النظام المصرفي والمالي الألماني قد حقق مستوى عاليا من الاستقرار في العام 2023م، حيث تمكن حتى الآن من التعامل بشكل جيد مع الارتفاع السريع والاستثنائي والقوي في أسعار الفائدة. الا ان التقرير حذر من العديد من الأعباء التي ستتحملها المؤسسات المصرفية والمالية في ألمانيا خلال الفترة القادمة حيث أكد Michael Theurer، عضو مجلس إدارة البنك المركزي والمسؤول عن الإشراف المصرفي والاستقرار المالي، ان “النظام المالي يواجه تحديات حادة بسبب التوترات الجيوسياسية وضعف الاقتصاد”. بالإضافة الى أن الاقتصاد يمر أيضًا بمرحلة تحول.

     ووفقاً للتقرير فان زيادة احتياطيات رأس المال بشكل كبير قد ساهمت في تعزيز قدرة القطاع المصرفي الألماني على الاستقرار والتماسك، كما كان لذلك دور في تمكين البنوك من التعامل بشكل جيد مع الارتفاع السريع في أسعار الفائدة خلال العامين الماضيين والذي لم يكن امرا بديهياً، فبالرغم من أن ارتفاع أسعار الفائدة يمكن أن يزيد من أرباح البنوك، إلا أن الزيادة السريعة في أسعار الفائدة تمثل في البداية عبئًا. حيث تجد البنوك نفسها ملزمة بدفع فوائد أعلى على الودائع قصيرة الأجل. وفي الوقت نفسه، يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تتمكن البنوك من الاستفادة من ارتفاع أسعار الفائدة. فقد استثمرت معظم البنوك ودائعها خلال فترة انخفاض الفائدة في سندات أو قروض منخفضة العائد والتي غالبًا ما تكون ذات آجال طويلة.

     كما لاحظ تقرير البنك المركزي ان العديد من المؤسسات المالية والمصرفية ما تزال تتحمل أعباء خفية نتيجة تحول أسعار الفائدة، وهي أعباء غير ظاهرة في القوائم المالية. وترجع هذه الأعباء إلى السندات الحكومية وسندات الشركات ذات العائد المنخفض التي اشترتها البنوك خلال فترة انخفاض أسعار الفائدة، حيث انخفضت قيم هذه السندات بشكل كبير منذ أن أصبح بإمكان المستثمرين شراء سندات ذات عوائد أعلى بكثير. وبينما قامت بعض البنوك بإعادة تقييم جزء صغير من محافظها من هذه السندات لتتناسب مع القيم السوقية المنخفضة، لم يحدث ذلك بالنسبة للجزء الأكبر من تلك المحافظ. الا ان الامر الإيجابي هنا ان نسبة هذه الأعباء والمخاطر الخفية لا تتجاوز نسبة 2.2 في المئة من رأس المالي الأساسي للبنوك الكبرى وان كانت ترتفع لدي بنوك الادخار (Sparkassen)، لتصل الى مستوى 6 في المئة، بينما تصل النسبة إلى حوالي 15 في المئة لدى البنوك التعاونية. (يشمل رأس المال الأساسي رأس المال المودَع من قِبل المساهمين بالإضافة إلى الأرباح المحتجزة).

     في الجانب الأخر، يتوقع تقرير البنك المركزي الألماني زيادة الأعباء على البنوك في قطاع العقارات التجارية بشكل خاص، حيث ان “المخاطر المتعلقة بقروض العقارات التجارية التي تقدمها البنوك لا تزال مرتفعة”. ويتضح هذا من خلال الحجم الكبير للقروض المتعثرة التي يتم ضمانها من خلال العقارات التجارية، إذ ارتفعت المخصصات الخاصة بهذه القروض “بشكل كبير”.. فعلى الرغم من أن أسعار بيع العقارات التجارية استقرت منذ عدة أشهر، إلا أن “خطر المزيد من انخفاض الأسعار لا يزال مرتفعاً”، كما حذر Michael Theurer، عضو مجلس إدارة البنك المركزي والذي وصف الخطر بأنه “مرتفع جداً”، حيث تفقد المحلات التجارية ومتاجر السلع قيمتها بشكل كبير بسبب نمو التجارة الإلكترونية. ويؤثر إفلاس سلاسل المتاجر الكبرى مثل (Galeria Kaufhof)، والمجموعة النمساوية (Signa)، على سوق العقارات والبنوك الممولة لها. وتثبت أرقام البنك المركزي الألماني أن الأضرار الاقتصادية الناتجة عن إفلاس الشركات التجارية مرتفعة بشكل خاص. ففي الأشهر الاثني عشر الماضية، سجلت ألمانيا أكثر من سبع مليارات يورو من الديون المستحقة التي لم تسدد بعد.

     وأشار البنك المركزي الألماني إلى أنه من الممكن أن تضطر صناديق العقارات أيضاً إلى بيع العقارات التجارية. حيث قد تجبر الصناديق على البيع إذا قرر المستثمرون الصغار بيع حصصهم في هذه الصناديق بحثاً عن فرص أفضل لتحقيق عوائد مربحة في أماكن أخرى. ومن المحتمل أن تؤدي عمليات البيع القسري من صناديق العقارات إلى الضغط على أسعار العقارات التجارية بشكل أكبر.

وحذر تقرير البنك المركزي الألماني ايضاً من المخاطر التي قد تتعرض لها بشكل رئيسي شركات التأمين على الحياة في ألمانيا، التي استثمرت أموالها لفترات طويلة بأسعار فائدة منخفضة، والآن يجب عليها دفع فوائد أعلى على التأمينات الحياتية للعملاء الخاصين على المدى القصير. بالإضافة الى ذلك يحذر التقرير من عدم الشفافية فيما يتعلق بالبيانات المتعلقة بقطاع التأمينات، فبينما يعرف البنك المركزي الألماني النظام المصرفي الألماني جيداً من خلال أقسامه التي تتابع الإحصاءات الدائمة والرقابة على البنوك والاقتصاد، إلا أن البيانات المتعلقة بالتأمينات والصناديق والشركات الأخرى في قطاع المال مفقودة. ومع ذلك، يتم حالياً إدارة 40 في المئة من الثروات الألمانية هناك، مما يجعل من الضروري تحسين الرقابة والتنظيم. وإلا فإن الأزمات، وبحسب مصدر في البنك المركزي قد “تتضخم بشكل كبير جدا وبسرعة “.

تراجع موقع ألمانيا في القدرة الابتكارية

  حذرت دراسة صادرة عن معهد الاقتصاد الألماني (IW)، من ان ألمانيا تفقد تقدمها في مجال الابتكار، وبشكل أكثر تحديداً في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، والتي يطلق عليها تخصصات (MINT)، والتي تشمل الوظائف في مجالات الرياضيات، علوم الحاسوب، العلوم الطبيعية والتقنية. كما تشمل المهن الأكاديمية مثل المهندسين وعلماء الحاسوب، بالإضافة إلى مهن التدريب المهني مثل فنيي الإلكترونيات أو المختبرات.

     ووفقًا للدراسة، يُظهر الأداء الابتكاري الألماني “اتجاهًا مقلقًا”. حيث تراجعت ألمانيا فيما يتعلق بالإنفاق على البحث والتطوير كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. فعلى المستوى الدولي، تحتل ألمانيا المرتبة السادسة فقط من بين عشر دول مختارة في هذا المؤشر المهم لقوة الابتكار. يأتي ذلك على الرغم من أن الإنفاق على البحث والتطوير في ألمانيا قد زاد بشكل ملحوظ منذ عام 2000م. إلا أن دولًا مثل سويسرا، السويد، اليابان وكوريا الجنوبية شهدت معدلات نمو أكبر، مما أدى إلى تراجع ألمانيا في الترتيب.

     يشير مؤلفو الدراسة أيضًا إلى وجود اتجاه سلبي في تسجيل براءات الاختراع. فقد انخفضت حصة ألمانيا من براءات الاختراع الدولية بشكل مستمر منذ عام 2000م. في الوقت نفسه، حققت دول مثل الصين وكوريا الجنوبية تقدمًا كبيرًا واقتربت من اللحاق بألمانيا. وقدمت الدراسة أيضًا نظرة أعمق على طبيعة براءات الاختراع. ففي حين ركزت الأبحاث في صناعة السيارات في الصين بشكل كبير منذ عام 2010م، على أنظمة الدفع الكهربائي، كان هذا التركيز أقل وضوحًا في ألمانيا، والولايات المتحدة، واليابان.

     وتعتبر الدراسة أن نقص الكفاءات المتخصصة يُعد أكبر عائق أمام الابتكار في الشركات الألمانية. على الرغم من التباطؤ الاقتصادي الكبير في عامي 2023م و2024م، ما زالت البلاد تعاني من نقص يقارب 200,000 شخص من المتخصصين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (MINT)، وعند توزيع هذه الفجوات على القطاعات المختلفة، تظهر أكبر التحديات في مجالات الطاقة، المهن الكهربائية، بالإضافة الى هندسة الآلات وتقنيات المركبات.

     وأشارت الدراسة الى تطور إيجابي يتعلق بارتفاع نسبة النساء في العاملين في مهن العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (MINT)، حيث ارتفعت من 13.8 في المئة في عام 2012م، إلى 16.3 في المئة في الربع الأول من عام 2024م. وفي شرق ألمانيا، بلغت هذه النسبة 16.9 في المئة، وهي نسبة مرتفعة بشكل خاص، لكنها شهدت نموًا أبطأ في السنوات الأخيرة مقارنة بالمناطق الأخرى. كما تُظهر الدراسة أن أعلى نسب تمثيل للنساء في مهن MINT توجد في برلين (22.4 في المئة)، وهامبورج (19.7 في المئة)، وتورينجن (18.2 في المئة). أما أدنى النسب، فقد سُجلت في شمال الراين-وستفاليا وراينلاند-بفالتس (14.4 في المئة لكل منهما)، وفي زارلاند (13.6 في المئة)

     كما كان للهجرة الإيجابية للعمالة المتخصصة من الخارج تأثير كبير على تعزيز الابتكار في الشركات الألمانية خلال السنوات الماضية. ووفقًا للدراسة، فإن فجوة الكفاءات في مهن MINT كانت ستكون أكبر بكثير لولا العمالة الأجنبية. إذ تُشير التقديرات إلى أن حوالي 700,000 وظيفة في هذا المجال لم يكن ليتم شغلها بدون هذه العمالة المهاجرة.

     ويتمتع المتخصصون في MINT، بفرص جيدة للتطوير الوظيفي. فهناك عدد قليل فقط من الوظائف المؤقتة، كما أن متوسط الأجر الشهري الإجمالي للمهنيين الأكاديميين العاملين بدوام كامل في مجالات MINT يبلغ حوالي 5900 يورو، وهو أعلى من متوسط الأجور في الوظائف الأكاديمية الأخرى.

     وتقدم الدراسة مقترحات للحلول للمشاكل التي تواجه زيادة عدد المتخصصين والدارسين لمواد MINT. ومن هذه المقترحات تعزيز اهتمام الفتيات بهذه التخصصات. لتحقيق ذلك، يجب أن تكون عملية اختيار المهن والدراسات خالية من الصور النمطية. كما يُوصى بأن تقوم المدارس بتقديم برامج إرشادية وعرض نماذج ناجحة من النساء العاملات في مجالات MINT كمصدر إلهام. علاوة على ذلك، يجب الاستفادة من إمكانيات القوى العاملة الأكبر سنًا، وذلك من خلال تشجيع التعلم مدى الحياة والتطوير المستمر للمهارات. أما النقطة الثالثة التي تناولتها الدراسة، فهي زيادة الهجرة الموجهة للعمال المهرة في مجالات MINT، ويمكن تحقيق ذلك، على سبيل المثال، من خلال زيادة عدد الطلاب الدوليين في ألمانيا وتوفير برامج دعم إضافية لمساعدتهم على النجاح في دراستهم.

دلالات تجاوز مؤشر داكس لحاجز 20000 نقطة

     في بداية شهر ديسمبر تجاوز مؤشر سوق الأوراق المالية الألماني في فرانكفورت (DAX)، لأول مرة في تاريخه حاجز 20,000 نقطة.  ويأتي تحقيق هذا الرقم القياسي في المؤشر نتيجة التوقعات بانخفاض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، وهي نفس العوامل التي دفعت المؤشر الألماني إلى الارتفاع منذ عدة أشهر. ففي غضون عام واحد فقط، ارتفع مؤشر DAX بحوالي 3,000 نقطة، حيث استطاع المؤشر في منتصف سبتمبر الماضي، تجاوز علامة 19,000 نقطة، وكان قد تخطى في منتصف مارس مستوى 18,000 نقطة، وفي ديسمبر من العام الماضي تجاوز المؤشر حاجز 17,000 نقطة. وبشكل أجمالي حقق مؤشر داكس خلال العام 2024م، زيادة تقدر بحوالي 19 في المئة.

     ويعتمد المستثمرون بشكل رئيسي على خفض كل من البنك المركزي الأمريكي (Fed) والبنك المركزي الأوروبي (EZB) أسعار الفائدة. في منطقة اليورو، حيث بدأت معدلات التضخم في الانحسار، في حين تتزايد المخاوف بشأن ضعف الاقتصاد. وقد قام البنك المركزي الأوروبي بالفعل بخفض أسعار الفائدة في منطقة اليورو الى مستوى 3 في المئة في اجتماعه يوم 12 ديسمبر، ومن المتوقع استمرار هذا التوجه في العام المقبل أيضًا. بالنسبة لمستثمري الأسهم، فإن التوقعات بخفض أسعار الفائدة تعتبر إيجابية، حيث تصبح الأسهم أكثر جاذبية مقارنة بالسندات ذات العوائد الثابتة. كما أن انخفاض الفائدة يجعل القروض أرخص تكلفة، مما يُسهل على الشركات تمويل نفسها، ويُخفض تكلفة الاستثمارات.

     كما تلقى مؤشر DAX دفعة إيجابية من الأسواق الأمريكية، حيث سجل المؤشر الأوسع نطاقًا S&P 500 مستوى قياسيًا جديدًا. حيث أدى فوز دونالد ترامب بالانتخابات إلى رفع الأسعار بشكل ملحوظ. إذ وعد الرئيس الأمريكي المنتخب بتخفيض الضرائب، وتقليل اللوائح التنظيمية، وفرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات. ومن المتوقع أن تستفيد الشركات المحلية من هذه السياسات. وقال Thomas Altmann، محلل الأسواق من شركة QC Partners “لقد استغرق الأمر وقتًا طويلًا هذه المرة حتى تصل موجة الانتعاش الكبرى من وول ستريت إلى ألمانيا”. لكنه أضاف: “الآن أصبح هذا الانتعاش محسوساً بوضوح هنا أيضًا”.

      ويتناقض الانتعاش الذي تعيشه الأسهم الألمانية منذ عام مع الوضع الاقتصادي الحالي في ألمانيا. فقد خفضت معاهد البحث الاقتصادي الرئيسية مؤخرًا توقعاتها الاقتصادية لألمانيا. ووفقًا للخبراء، من المتوقع الآن أن ينكمش الاقتصاد في ألمانيا هذا العام. كما أن المنافسة المتزايدة من السلع الصناعية عالية الجودة من الصين قد خفضت من الصادرات الألمانية الى الأسواق العالمية. علاوة على ذلك، يقوم المستهلكون بالتوفير، وتؤثر حالة عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي العالية على أنشطة استثمار الشركات، كما أن تكاليف الطاقة المرتفعة ومستوى الفائدة المرتفع لا يزالان يشكلان عبئًا.

     لكن الخبراء يرون ان أنظار المستثمرين غالبًا ما تكون موجهة بدرجة أقل إلى الوضع الحالي للاقتصاد، حيث يتم التركيز بشكل أكبر على الأرباح المستقبلية والتوقعات بالنمو خلال الاعوام القادمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم الشركات الألمانية الكبرى الأربعين المدرجة في مؤشر DAX تعمل على المستوى الدولي، حيث يبلغ متوسط إيرادات الشركات الألمانية المدرجة على مؤشر داكس من اعمالها ونشاطاتها في الأسواق خارج ألمانيا نحو 80 في المئة من اجمالي إيراداتها، بل ترتفع في حالة عدد من الشركات الى مستويات أعلى. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، شركة الصناعات الكيميائية BASF والتي تمثل مبيعاتها في الأسواق خارج ألمانيا نسبة 90 من اجمالي مبيعاتها السنوية، كذلك الحال مع شركة Adidas التي يتجاوز حجم إيراداتها من الأسواق الدولية نسبة 93 في المئة، كذلك شركة Bayer والتي تمثل مبيعاتها في السوق الدولي أيضا نسبة 94 في المئة من اجمالي مبيعاتها، بالإضافة إلى شركة Merck للصناعات الكيميائية والدوائية التي تصل إيرادات اعمالها الخارجية الى أكثر من 95 في المئة من اجمالي ايراداتها. وبالتالي، فإن ألمانيا هي مجرد سوق من بين العديد من الأسواق التي تنشط فيها شركات داكس.

     في الجهة المقابلة، يبقى استمرار انتعاش سوق الأسهم الألمانية غير مضمون، فعادةً ما تكون الارتفاعات في الأسعار في نهاية العام أمرًا اعتيادياً، وتعرف هذا الظاهرة في البورصة باسم “انتعاش نهاية العام”. ومع ذلك، فإن كل تطور في الأسهم هو مجرد لقطة في لحظة معينة. وبالنظر إلى الارتفاعات الكبيرة في قيمة المؤشر في الأسابيع الماضية، من المحتمل أن يسعى المستثمرون إلى جني الأرباح قريبًا. وبالتالي، بيع الأسهم التي اشتروها مؤخراً. لذا فمن المتوقع حدوث تصحيح في مؤشر DAX يتراجع فيه عن المستويات القياسية التي سجلها في بداية ديسمبر.  إلى جانب ذلك، هناك حالة من عدم اليقين في الأسواق المالية بسبب إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة. فقد أدى انتخاب ترامب في بداية نوفمبر إلى تحفيز الأسواق المالية، خاصة في الولايات المتحدة. إذ وعد ترامب بتخفيض الضرائب، وتقليل البيروقراطية، وفرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات. وإذا قام بتنفيذ تعهداته بشأن الرسوم الجمركية، فسيكون ذلك ضارًا للاقتصاد الألماني الموجه نحو الصادرات. ومع ذلك، فإن الشركات الألمانية التي تعمل في الولايات المتحدة ستستفيد. كما أن موضوع أزمة الديون المحتملة في فرنسا – وبالتالي في أوروبا – قد يضغط على الأسواق المالية في أي لحظة.