تراجع مؤشر مناخ الاعمال للشركات في ألمانيا لمعهد Ifo في شهر نوفمبر إلى مستوى 85.7 نقطة بعد أن كان عند مستوى 86.5 نقطة في أكتوبر الماضي. ويرجع السبب في ذلك بشكل رئيسي إلى تراجع تقييم الشركات لمستوى اعمالها الحالي، بالإضافة الى تراجع التوقعات بمستوى الاعمال خلال الأشهر القادمة بشكل طفيف. ويدل تراجع مناخ الاعمال بعد ان سجل تحسنا لشهرين متتاليين الى ان الاقتصاد الألماني لم يستطع تجاوز مرحلة الركود بعد.
في قطاع الصناعة تراجع مؤشر مناخ الاعمال في شهر نوفمبر الى مستوى ( -21.9 نقطة) بعد ان كان عند مستوى ( -20.6 نقطة) في أكتوبر الماضي، حيث أظهرت الشركات تشاؤماً أكبر بخصوص توقعاتها لمستوى الاعمال في الأشهر القادمة، بينما كانت أكثر رضا عن مستوى اعمالها الحالي. ومع ذلك، ما تزال هذه الشركات تصف الوضع الحالي بانه صعب مع استمرار تراجع حجم الطلبات.
كما انخفض مؤشر مناخ الأعمال بشكل ملحوظ في قطاع الخدمات حيث سجل المؤشر في نوفمبر مستوى ( -3.6 نقطة) بعد ان كان في شهر أكتوبر عند مستوى 0.1 نقطة. وقد قيمت الشركات الوضع الحالي لأعمالها بشكل أسوأ بكثير مقارنة بالشهر السابق، كما أصبحت التوقعات بخصوص الاعمال في الفترة القادمة أكثر تشاؤماً.
وسجل مؤشر مناخ الاعمال في قطاع التجارة تحسناً في نوفمبر مسجلاً مستوى ( -26.6 نقطة) مرتفعاً من مستوى ( -29.4 نقطة) المسجل في أكتوبر. وأعربت الشركات عن رضا أكبر عن الوضع الحالي لأعمالها، كما كانت التوقعات بخصوص اعمالها في الأشهر القادمة أقل تشاؤماً سواء في تجارة التجزئة أو الجملة.
أما في قطاع البناء فقد تراجع مناخ الأعمال بشكل ملحوظ حيث وصل الى مستوى ( -28.5 نقطة) في شهر نوفمبر متراجعاً عن مستوى ( -25.7 نقطة) الذي كان علية المؤشر في أكتوبر. وكانت الشركات أقل رضا بشأن الوضع الحالي لأعمالها، كما عادت التوقعات للأعمال في الفترة القادمة لتكون أكثر تشاؤماً.
من جانب أخر ووفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الاتحادي، سجل الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا نموا طفيفا بواقع 0.1 في المئة في الربع الثالث مقارنة بالربع السابق، وبهذا يتجاوز الاقتصاد ما يسمى بالركود التقني والذي ينتج عن تراجع الناتج المحلي الإجمالي لربعيين متتالين. وكان الاقتصاد قد نما في الربع الأول من العام الحالي بنسبة 0.2 في المئة قبل ان يعود وينكمش في الربع الثاني بنسبة 0.3 في المئة. وبالرغم من نمو الاقتصاد في الربع الثالث فان العديد من الخبراء لا يرون في ذلك سبباً كافياً للتفاؤل، حيث يرى Sebastian Dullien، الخبير الاقتصادي في معهد أبحاث الاقتصاد الكلي والدورات الاقتصادية (IMK)، أن النمو الطفيف الحالي “مجرد استثناء وليس تحولاً في الاتجاه”. وقال: “قد يبدأ الاقتصاد في التعافي تدريجيًا خلال العام المقبل، حيث ستؤدي الأجور المرتفعة والتضخم المنخفض إلى زيادة القوة الشرائية وبالتالي تعزيز الاستهلاك.”
في سياق متصل، سلم مجلس الخبراء الاقتصاديين الألماني (حكماء الاقتصاد)، تقريرهم السنوي حول الاقتصاد وتوقعات النمو للعام الحالي والعام القادم الى المستشار اولاف شولتز. ويتوقع الخبراء انخفاضاً بنسبة 0.1 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام. كما لا يتوقعون ان يحقق الاقتصاد الألماني نموًا كبيرًا في عام 2025م أيضًا، حيث يشير التقرير الى تحقيق نمو بواقع بنسبة 0.4 في المئة فقط في الناتج المحلي الإجمالي العام القادم، وهو ما يمثل خفضًا كبيرًا لتوقعات المجلس السابقة. وبحسب التقرير فأن الاقتصاد الألماني لا يزال في حالة ركود، مع التأكيد على أن “استمرار ضعف النمو يشير إلى أن الاقتصاد الألماني يواجه عقبات اقتصادية وهيكلية”.
وكانت الحكومة الألمانية قد خفضت توقعاتها في أكتوبر، حيث تتوقع الآن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بواقع 0.2 في المئة لأجمالي العام الحالي، نتيجة حالة عدم اليقين التي تسود بين الشركات والمواطنين وتراجع الاستثمارات. وهو الامر المرشح بقوة للازدياد بعد انهيار الائتلاف الحاكم المكون للحكومة الاتحادية وحالة الجمود والانتظار التي ستستمر حتى ظهور نتائج الانتخابات النيابية المبكرة في فبراير 2025م. وكانت الحكومة قد ذهبت الى ان الاقتصاد الألماني سينمو بنسبة 1.1 في المئة العام المقبل، وتعود هذه التوقعات المتفائلة مقارنة بتوقعات حكماء الاقتصاد بسبب اعتماد تقديرات الحكومة على مبادرة نمو مخطط لها تشمل تخفيف الضرائب، وتحفيز العمل، وخفض أسعار الكهرباء، والتي أصبح من غير المعروف إمكانية تنفيذها من عدمه. وصرح المستشار أولاف شولتز، خلال تسلمه تقرير مجلس الخبراء الاقتصاديين، بأن مبادرة النمو “ضرورية للغاية”، مشيرًا إلى رغبته في إقناع أكبر عدد ممكن من الأطراف بتبنيها. لكن الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر لم يعودا يتمتعان بأغلبية في البرلمان.
ووفقاً لمجلس الخبراء الاقتصاديين فان ألمانيا لم تعد تُعتبر “قاطرة النمو” في أوروبا، كما كان هذا حالها خلال السنوات الماضية، حيث إن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لم ينمُ سوى بنسبة 0.1 في المئة فقط خلال السنوات الخمس الماضية مقارنة بمستوى ما قبل ازمة كورونا. وتأتي ألمانيا في مرتبة متأخرة بالمقارنة الدولية في هذا الجانب، ففي الولايات المتحدة، تجاوز الناتج المحلي الإجمالي مستوى ما قبل كورونا بنسبة تزيد على 12 في المئة، وفي منطقة اليورو بنسبة تزيد على 4 في المئة. وقالت Monika Schnitzer، رئيسة مجلس الخبراء الاقتصاديين: “شهدت ألمانيا في السنوات والعقود الماضية تقصيرًا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولهذا من المهم الآن دفع عملية تحديث البلاد بشكل حازم”. ويؤكد تقرير الخبراء على ضرورة زيادة استثمارات الدولة في مشروعات مستقبلية هامة. ويشير إلى أن الإنفاق العام في ألمانيا على البنية التحتية للنقل والتعليم والدفاع ما زال غير كافٍ، مع وجود فجوة كبيرة يجب معالجتها في هذه المجالات الثلاثة. ومن بين الآثار السلبية لذلك: شبكة سكك حديدية متهالكة تعاني من تأخيرات متكررة، وجسور متضررة يتم إغلاقها.
ويقترح حكماء الاقتصاد إنشاء صندوق للبنية التحتية للنقل، يتم تمويله بشكل دائم من إيرادات مخصصة تأتي من الميزانية الرئيسية. ومن بين مصادر تمويل الصندوق الممكنة رسوم الشاحنات المعروفة باسم (LKW-Maut)، أو فرض رسوم جديدة على السيارات الخاصة (PKW-Maut)، والغير موجودة حتى الان في ألمانيا. والى جانب الاستثمار في قطاع النقل يوصي حكماء الاقتصاد بزيادة الاستثمارات في قطاعي التعليم والدفاع، ففي مجال التعليم والذي يدخل ضمن اختصاصات الولايات الفيدرالية والبلديات، سجل الطلاب الألمان في تقييم “بيزا” لعام 2022م، أسوأ نتائج لهم على الإطلاق في الرياضيات والعلوم والقراءة. وتعكس هذه النتائج تراجع الاستثمار في تحقيق تكافؤ الفرص والرقمنة، بالإضافة الى صعوبات دمج الأطفال ذوي الخلفيات المهاجرة. ويقترح حكماء الاقتصاد تحديد حد أدنى من الإنفاق الحكومي لكل طالب، مع تكييف النسب حسب المناطق لتأخذ بعين الاعتبار الفروقات الإقليمية
في مجال الدفاع تقدر نفقات الدفاع الألمانية في العام 2024م، حوالي 1.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، دون احتساب “الصندوق الخاص للجيش الألماني”، والذي تم إنشائه بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بميزانية تبلغ 100 مليار يورو. ويرى الخبراء الاقتصاديون جعل هدف الناتو، المتمثل في تخصيص ألمانيا 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، ملزماً قانونياً. فبالرغم من ان الهدف موجود حالياً، لكنه غير ملزم قانونياً، كما أن طبيعة الإنفاق الذي يدخل ضمن هذا الهدف غير واضحة. ويرى حكماء الاقتصاد الألمان أهمية استمرار الاستثمار الكافي في الدفاع بعد انتهاء “الصندوق الخاص للجيش الألماني” في عام 2027م.
سوق العمل: انخفاض عدد العاطلين عن العمل ونقص حاد في العمالة الماهرة في ولايات شرق ألمانيا
تراجع عدد العاطلين عن العمل في أكتوبر 2024م، بنحو 16,000 شخص ليصل اجمالي العاطلين عن العمل في ألمانيا إلى 2,791,000 شخص. لكن بالمقارنة مع شهر أكتوبر من العام الماضي، فان أعداد العاطلين عن العمل قد ارتفعت بمقدار 183,000شخص، وبينما ظل معدل البطالة ثابتاً عند مستوى 6 في المئة، فان هذا المعدل اعلى من المعدل المسجل في نفس الفترة من العام الماضي بمقدار 0.3 نقطة مئوية. وفي تعليقها على ارقام سوق العمل في أكتوبر صرحت Andrea Nahles، رئيسة مجلس إدارة وكالة العمل الاتحادية (BA)، “الانتعاش الموسمي لسوق العمل في الخريف هذا العام كان محدوداً للغاية. وعلى الرغم من انخفاض البطالة في أكتوبر، إلا أن التراجع كان طفيفاً جداً، كما كان الحال في الشهر السابق.”
وفي جانب برنامج العمل بدوام جزئي الحكومي بلغ عدد المسجلين الجدد خلال الفترة بين 1 و24 أكتوبر 67 ألف شخص. وتشير أحدث بيانات وكالة العمل الاتحادية ان اجمالي عدد المستفيدين من البرنامج في شهر أغسطس 2024م، بلغ 184 ألف شخص مقارنة بحوالي 200 ألف شخص في شهر يوليو ونحو 207 ألف شخص في شهر يونيو. كما بلغ عدد الوظائف الشاغرة المسجلة لدى وكالة العمل الاتحادية في شهر أكتوبر 689 ألف وظيفة بانخفاض بلغ قدرة 60 ألف وظيفة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.
في سياق متصل، أكدت دراسة أجراها معهد الاقتصاد الألماني (IW) أن شرق ألمانيا يعاني من نقص حاد في العمالة الماهرة. ووفقًا للدراسة، تراجعت أعداد العمال الألمان في جميع الولايات الشرقية (باستثناء برلين) بين عامي 2022م و2023م، ويرجع ذلك جزئيًا إلى التقاعد. وأوضحت الدراسة ان “آلاف الشركات تعاني من نقص في العمالة الماهرة.” وعلى الرغم من هذا التراجع، ساهمت العمالة الأجنبية في تعويض النقص إلى حد ما. فعلى سبيل المثال، انخفض عدد العمال الألمان في ولاية ساكسونيا بحوالي 7,500 عامل بين عامي 2022م و2023م. ومع ذلك، ارتفع عدد العمال الأجانب بمقدار 14,800 شخص وأدى إلى تعويض هذا التراجع، بل وتحقيق نمو في التوظيف. وأشارت الدراسة إلى أن الأشخاص القادمين من دول خارج الاتحاد الأوروبي يمثلون الحصة الأكبر من هذا النمو، حيث بلغ عددهم حوالي 8,700 شخص، مما ساهم في الحفاظ على استمرار تلبية احتياجات الشركات في شرق ألمانيا.
وتتأثر الولايات الشرقية بشكل خاص بتراجع معدلات المواليد وارتفاع عدد المتقاعدين حيث يُقابل كل شخصين يتقاعدان دخول شخص واحد فقط إلى سوق العمل، مما يؤدي إلى نقص كبير في العمالة الماهرة في بعض القطاعات. وللتصدي لهذه المشكلة، تسعى هذه الولايات إلى جذب المزيد من العمالة الأجنبية. وصرح Reiner Haseloff، رئيس وزراء ولاية ساكسونيا -أنهالت قائلاً: “تأمين العمالة الماهرة هو شرط أساسي لتحقيق تنمية اقتصادية ناجحة في شرق ألمانيا”. وأشار Haseloff إلى أهمية الهجرة عبر سوق العمل وليس إلى أنظمة الرعاية الاجتماعية، قائلاً: “هذه مشكلة تواجه المنطقة الأوروبية بأكملها، وألمانيا على وجه الخصوص، ولكنها أكثر وضوحاً في شرق ألمانيا”.
ومن ضمن القطاعات الاقتصادية التي يُتوقع أن يزداد نقص الكوادر الماهرة فيها بشكل كبير في الولايات الشرقية يأتي قطاع الصحة على رأس القائمة، حيث سيتقاعد عدد كبير من الأطباء بحلول عام 2030م. وفي هذا السياق، دعا رئيس وزراء ساكسونيا-أنهالت، Reiner Haseloff، إلى منح الولايات مزيدًا من الحرية في تخصيص أماكن الدراسة في كليات الطب. حيث تُنظم عملية قبول الطلاب في التخصصات ذات العدد المحدود مثل الطب بشكل موحد على مستوى ألمانيا. وتُثار في ولاية ساكسونيا -أنهالت انتقادات بأن العديد من الطلاب القادمين من مناطق أخرى في ألمانيا يدرسون في الولاية، ثم يغادرونها بعد التخرج. واقترح Haseloff تعديل الاتفاقية الحكومية الموقعة بين الولايات، مع دراسة خيارات محتملة مثل تخصيص مزيد من أماكن الدراسة لأبناء الولاية، أو تقديم حوافز لجذب الخريجين للبقاء والعمل في الولاية بعد انتهاء دراستهم.
اثار انهيار حكومة الائتلاف على الاقتصاد والشركات في ألمانيا
انهار الائتلاف المكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، حزب الخضر، الحزب الديمقراطي الحر (FDP)، والذي تم على اساسة تكوين الحكومة الاتحادية، بعد ان أعلن المستشار أولاف شولتز عن إقالة وزير المالية كريستيان ليندنر بعد اجتماع حاسم لقيادات الائتلاف وانسحاب الحزب الديمقراطي الحر من الائتلاف. يأتي هذا القرار على خلفية خلافات مريرة بشأن السياسة الاقتصادية والمالية. وقد توافق المستشار شولتز مع زعيم المعارضة ورئيس الحزب الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس على ان تجري الانتخابات النيابية المبكرة في 23 من فبراير 2025م.
يمثل انهيار الائتلاف الحاكم المعروف باسم “إشارة المرور” نكسة للاقتصاد الألماني أيضاً. فمن المتوقع أن يكون عام 2024م، العام الثاني على التوالي من الركود الاقتصادي، حيث تتخلف ألمانيا عن غيرها من الاقتصادات الكبرى. ونتيجة احتمالات حدوث الركود يسود مناخ من عدم اليقين بين الشركات والافراد، مما يدفع الشركات إلى تأجيل الاستثمارات، بينما يميل المواطنون إلى الادخار بدل الإنفاق. ويتسبب انهيار الائتلاف الحاكم في مفاقمة حالة عدم اليقين هذه وزيادة اثارها السلبية من تراجع الاستثمارات والاستهلاك. وعبّر اتحاد الشركات المتوسطة عن قلقه من أن انهيار ائتلاف الحكومة الاتحادية يزيد من حالة عدم اليقين، مما يشكل أعباء إضافية. وأشار إلى أن “الشركات الصغيرة والمتوسطة بحاجة الآن إلى استثمارات ضخمة في المستقبل، لكنها تتردد بسبب غياب الوضوح في التخطيط والوضع الاقتصادي الصعب.” وحذر الاتحاد من أن ذلك قد يؤدي إلى مزيد من التأخير في اتخاذ قرارات اقتصادية حيوية.
بالإضافة الى ذلك تبقى العديد من الأسئلة دون إجابة فيما يتعلق بالعديد من القوانين والمشاريع، وهي قوانين ومشاريع تعتبر عاجلة ولا تقبل التأجيل. تشمل هذه القوانين تقليص ما يُعرف بـ “التضخم البارد” لزيادة صافي دخل المواطنين، استقرار نظام التقاعد، واتخاذ تدابير فورية لدعم الصناعة. لكن يبقى السؤال الاساسي الآن حول مصير ميزانية 2025م، حيث لم تعد هناك أغلبية لائتلاف الحزب الاشتراكي مع حزب الخضر لدعمها. ومن غير المرجح أن تقدم أحزاب الاتحاد المسيحي (CDU/CSU) الدعم اللازم لتأمين الأغلبية. وفي حال عدم اعتماد الميزانية، سيتم العمل بنظام (الإدارة المؤقتة للميزانية) اعتباراً من يناير. وفي هذا النظام، تكون النفقات مقتصرة على تلك الضرورية لاستمرار عمل الإدارة العامة والوفاء بالالتزامات القانونية. عملياً، يمكن لوزارة المالية السماح للوزارات باستخدام نسبة محددة شهرياً من المخصصات الواردة في مسودة الميزانية غير المُعتمدة بعد. وفي هذه الحالة فسيصبح مستقبل الإجراءات الاقتصادية التي خططت لها الحكومة الاتحادية غير واضح. فحزمة النمو الحكومية، التي تضم 49 إجراءً فرديًا، تم تنفيذها جزئيًا فقط حتى الآن. كما أن إصلاحات أخرى، مثل قانون سلاسل التوريد المثير للجدل، باتت محل شك. وبدون ميزانية جديدة، ستواجه الحكومة قيودًا في الاستثمارات، مما سيؤثر بشكل خاص على الشركات في ألمانيا، خصوصا الشركات الصناعية التي وعدت من قبل الحكومة الاتحادية بوضع حد أقصى لتكاليف شبكة الكهرباء للشركات، وإطلاق حزمة لدعم الوظائف في صناعة السيارات والعديد من شركات التوريد.
ودعت Yasmin Fahimi، رئيسة اتحاد النقابات الألمانية (DGB)، إلى اتخاذ قرارات سريعة لضمان حماية العمال وتأمين الاستقرار الاقتصادي. وأكدت أن هذه القضايا لا تحتمل التأجيل، بغض النظر عن موعد الانتخابات. وأشارت إلى ان غياب الميزانية يهدد بتوقف مشاريع بنية تحتية حيوية، مثل تطوير شبكات السكك الحديدية، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لإصلاح نظام المستشفيات. وشددت على ضرورة معالجة التحديات الكبرى في القطاع الصناعي، مثل مستقبل تكاليف شبكة الكهرباء للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. وأضافت: “كل شهر من التأخير في هذه القرارات يفاقم الأضرار.”
علاوة على ذلك، تخشى حكومات الولايات الفيدرالية أن يؤدي انهيار الائتلاف المكون للحكومة الاتحادية في برلين إلى تأثيرات خطيرة على التحول من مصادر الطاقة الأحفورية إلى الطاقة المتجددة. وصرح Reinhard Meyer، رئيس مؤتمر وزراء الطاقة في الولايات، وزير الطاقة في ولاية Mecklenburg-Vorpommern، “لا يجب أن يؤدي انهيار الائتلاف في الحكومة الاتحادية إلى تأخير أو فشل المشاريع المفيدة والضرورية.” وأعرب وزراء الطاقة من الولايات الـ 16، بمختلف انتماءاتهم الحزبية، عن دعمهم لإكمال عدد من المشاريع. كما يدعم قطاع الطاقة هذه المطالب. وحذر Stephan Dohler، رئيس اتحاد الطاقة والمياه الألماني (BDEW)، من خطر “جمود سياسي” قد يُثقل كاهل أي حكومة جديدة، بغض النظر عن تشكيلها. وطالب Dohler، الذي يشغل أيضًا منصب رئيس شركة الطاقة EWE، بتنفيذ الإجراءات غير الخلافية، والتي تعتمد على دوافع تقنية، قبل انتهاء الفترة الحالية.
تأثير نتائج الانتخابات الامريكية على العلاقات الاقتصادية مع ألمانيا
من المفترض أن يعود دونالد ترامب، الرئيس الجمهوري، إلى البيت الأبيض للمرة الثانية في يناير المقبل، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية على منافسته الديمقراطية كامالا هاريس. وبالنظر إلى التجربة السابقة مع إدارة ترامب الأولى وتصريحاته الانتخابية الحادة، التي لم تخفِ انتقاداته الصريحة لألمانيا، تبرز مخاوف جدية بشأن مستقبل العلاقات الأمريكية-الألمانية. إذ يُتوقع أن تفرض الإدارة الجديدة مزيدًا من القيود على الصادرات الألمانية، إلى جانب السعي لجذب الشركات الألمانية لنقل أعمالها إلى الولايات المتحدة. ونظرًا للتشابك العميق بين الاقتصادين الأمريكي والألماني، فإن أي قرارات أو إجراءات جديدة من جانب واشنطن قد تحمل تداعيات كبيرة على الاقتصاد الألماني.
الاقتصاد الألماني اليوم يعتمد بشكل أكبر على الأعمال التجارية مع الولايات المتحدة مقارنة بعام 2016م، عندما فاز دونالد ترامب بشكل غير متوقع في الانتخابات وأصبح رئيسًا. فقد زاد حجم الاستثمارات المباشرة للشركات الألمانية في الولايات المتحدة، مثل المصانع والمنشآت، بنحو الثلث خلال السنوات الماضية. ففي حين كان حجم هذه الاستثمارات عام 2016م، نحو 398 مليار دولار، أصبحت الآن تتجاوز نصف تريليون دولار. وأوضح اتحاد الغرف الصناعية والتجارية الألمانية DIHK أن “الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى من حيث الاستثمارات المباشرة الألمانية عالميًا”.
وبحسب اتحاد الغرف الصناعية الألمانية ايضاً، ارتفع عدد الشركات الألمانية التي تنشط في الولايات المتحدة، ففي عام 2016م، كان العدد 5363 شركة، بينما يبلغ عددها الآن حوالي 6000 شركة، ونتيجة لذلك، زاد عدد الموظفين العاملين لدى الشركات الألمانية في الولايات المتحدة من 851,000 شخص إلى أكثر من 900 ألف شخص. ووفقًا للبنك المركزي الألماني، فإن الشركات التي يسيطر عليها مستثمرون ألمان في الولايات المتحدة حققت مؤخرًا عائدات سنوية بلغت 828 مليار يورو، ما يعادل حوالي 21.4 في المئة من إجمالي العائدات التي حققتها الشركات الألمانية في الخارج.
وتزداد أهمية الولايات المتحدة للصادرات الألمانية اليوم أكبر من أي وقت مضى خلال العشرين عامًا الماضية، فوفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الاتحادي، قامت ألمانيا بتصدير بضائع بقيمة 157.9 مليار يورو إلى الولايات المتحدة في عام 2023م، وهو ما يعادل 9.9 في المئة من إجمالي الصادرات الألمانية. ويُعد هذا أعلى نسبة خلال العقدين الماضيين. على سبيل المقارنة، بلغت قيمة الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة في عام 2016م، أقل من 107 مليارات يورو، أي ما يعادل 8.9 في المئة من إجمالي الصادرات الألمانية في ذلك الوقت. وبحسب مكتب الإحصاء الاتحادي “كانت الولايات المتحدة وللعام التاسع على التوالي أكبر مستورد للصناعة الألمانية”، واستمر هذا الاتجاه في النصف الأول من عام 2024م.
بالنسبة لبعض القطاعات، تُعد الولايات المتحدة سوقًا رئيسيًا بشكل خاص. فعلى سبيل المثال، ذهب نحو ربع صادرات الأدوية الألمانية العام الماضي إلى الولايات المتحدة، مقارنة بـ 12 في المئة فقط في عام 2008م. أما بالنسبة للآلات، فقد تم تصدير حوالي 13 في المئة منها إلى الولايات المتحدة العام الماضي، بينما كانت النسبة 12.6 في المئة للمركبات الثقيلة وأجزائها، و13 في المئة تقريبًا للسيارات والمركبات الأخرى. لا تقتصر العلاقات التجارية على الصادرات فحسب، بل تستورد ألمانيا أيضًا المزيد من الولايات المتحدة. ففي عام 2016م، بلغت قيمة الواردات من الولايات المتحدة 58 مليار يورو، بينما ارتفعت في عام 2023م إلى حوالي 95 مليار يورو. وارتفعت نسبة هذه الواردات من إجمالي الواردات الألمانية من 6.1 في المئة إلى 6.9 في المئة، وهي أعلى نسبة منذ عام 2004م. وفي هذا السياق أكد Volker Treier، رئيس قسم التجارة الخارجية في غرفة التجارة والصناعة الألمانية (DIHK). أنه “على مدار السنوات الثماني الماضية، نمت العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي بشكل مستمر”، وأضاف: “من المتوقع أن تحل الولايات المتحدة في عام 2024م مرة أخرى محل الصين كأهم شريك تجاري لألمانيا على مستوى العالم”.
وحتى الان وبحسب ما هو معلن، يعتزم الرئيس المنتخب دونالد ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة أو 20 في المئة على جميع الواردات من الاتحاد الأوروبي. بالنسبة للاقتصاد الألماني المعتمد على التصدير، سيكون هذا كارثيًا، حيث تُعد الولايات المتحدة أكبر سوق للصادرات الألمانية. ووفقًا لمعهد Ifo، فإن فرض رسوم بنسبة 20 في المئة قد يُسبب خسائر اقتصادية لألمانيا تُقدر بـ 33 مليار يورو. كما انه من المتوقع أن تنخفض الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة بنحو 15 في المئة. علاوة على ذلك، قد تنخفض الصادرات الألمانية ايضاً إلى الصين بنسبة 10 في المئة بسبب تأثر الاقتصاد الصيني بانخفاض صادراته إلى الولايات المتحدة، إذ يفكر ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60 في المئة على السلع الصينية. كذلك يخطط الرئيس ترامب خفض ضريبة الشركات على المنتجات المصنعة في الولايات المتحدة من 21 في المئة إلى 15 في المئة. في المقابل، يبلغ معدل الضريبة في ألمانيا، بما يشمل ضريبة الأعمال التجارية، نحو 30 في المئة. وبحسب Hildegard Müller، رئيسة اتحاد صناعة السيارات الألمانية (VDA)، فإن الضغط الذي ستتعرض له الشركات الألمانية لنقل الإنتاج إلى الولايات المتحدة سيكون “هائلًا”.
مخاطر ارتفاع اعتماد ألمانيا على استيراد المواد الخام
أظهرت دراسة أجرتها شركة Roland Berger للاستشارات لصالح الاتحاد الألماني للصناعة (BDI) أن اعتماد الصناعة الألمانية على استيراد المواد الخام يتزايد، لا سيما من الواردات القادمة من الصين. وتزداد مخاطر هذا الاعتماد خصوصا مع توقع ان تتسبب إدارة الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب في تزايد حدة الصراعات السياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين مرة أخرى، وبطريقة غير متوقعة. وهو ما قد يؤدي أيضا الى ان تواجه ألمانيا نقصًا في المواد الخام لعدة أسباب: فقد تسعى الولايات المتحدة إلى تأمين احتياطيات بشكل حصري بغض النظر عن احتياجات الدول الأخرى ومنها ألمانيا، في حين قد تقيّد الصين صادراتها.
ووفقًا للدراسة، فإن اعتماد ألمانيا على الواردات في مستوى عال بالنسبة لـ 23 من أصل 48 مادة خام تم تحليلها. كما زاد الاعتماد على 10 مواد خام خلال السنوات العشر الماضية. وحذر Siegfried Russwurm، رئيس اتحاد الصناعة الألماني، من المخاطر التي تهدد تحول الصناعة نتيجة هذا التطور، حيث قال “أصبحت المواد الخام تُستخدم بشكل متزايد كوسيلة ضغط في النزاعات الجيوسياسية”. وأكد أن توفرها يعد “جزءًا أساسيًا من أي عملية إنتاج، وحاسمًا للأمن الوطني”. وأضاف أن الجهود السياسية الحالية لتعزيز أمن المواد الخام ليست كافية. مشدداً على أن الطلب على المواد الخام ينمو بسرعة أكبر من قدرة العرض على التوسع، مما يهدد ألمانيا وأوروبا بخسارة المنافسة العالمية على المواد الخام الاستراتيجية.
من جهة أخرى، قامت الصين خلال السنوات الأخيرة بفرض العديد من القيود الجديدة على الصادرات بشكل رسمي. فمنذ عام 2023م، تم تشديد الضوابط على تصدير عناصر مثل الجرمانيوم والجاليوم والعناصر الأرضية النادرة التي تعد بالغة الأهمية لصناعة الرقائق الإلكترونية. وقد تزداد مخاطر حدوث انقطاعات في الإمدادات إذا تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين. فقد سبق أن استخدمت الصين احتكارها لبعض المواد الخام الحرجة كأداة ضغط سياسي. فعلى سبيل المثال، عندما تصاعد النزاع الحدودي بين اليابان والصين في عام 2010م، قطعت بكين إمدادات العناصر الأرضية النادرة عن اليابان، مما أثر بشكل كارثي على اقتصاد البلاد.
وتوضح الدراسة حجم الأضرار التي قد تتعرض لها ألمانيا إذا أوقفت الصين إمداداتها من المواد الخام. وعلى سبيل المثال، فإن وقف صادرات الليثيوم ومنتجاته يمكن أن يؤدي إلى خسائر اقتصادية تصل إلى 115 مليار يورو. وسيكون قطاع السيارات الأكثر تضررًا، حيث ستتأثر بشكل كبير صناعة السيارات الكهربائية، نظرًا لأهمية الليثيوم في بطاريات هذه السيارات. وستؤدي تعطيلات الإنتاج في هذا القطاع إلى تأثيرات متسلسلة تطال موردي الصناعات المرتبطة بها، مثل صناعة الصلب. كما تعتمد الصناعات الكيميائية وصناعات الزجاج والسيراميك ومعالجة المعادن بشكل أساسي على الليثيوم.
وبالرغم من أن وقف التصدير الذي افترضته الدراسة هو أمر افتراضي، إلا أن زيادة القيود على تصدير المواد الخام الحرجة هي واقع بالفعل. فبحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، تضاعف عدد القيود على الصادرات خلال السنوات العشر الماضية أكثر من خمس مرات. ويلاحظ الخبراء بالفعل تأثيرات هذه القيود على الأسعار. أحد الأمثلة هو الجرمانيوم، حيث تملك الصين حصة 60 في المئة من السوق العالمي. ومنذ فرض قيود التصدير في العام الماضي، ارتفعت أسعار الجرمانيوم بنسبة أكثر من 70 في المئة لتصل إلى 2280 دولارًا للكيلوغرام.
علاوة على ذلك، سيؤدي التحول الصناعي نحو الحياد المناخي، وزيادة الطاقة المتجددة، والتنقل الكهربائي، والتحول الرقمي إلى زيادة كبيرة في حاجة الصناعة الألمانية إلى هذه المواد الخام المعدنية في السنوات القادمة. وفي هذا الصدد، يصبح الاعتماد على الصين أمرًا متزايدًا. وتظهر الدراسة بوضوح انه في عام 2014م، كان نصيب صادرات الصين من العناصر الأرضية النادرة 32 في المئة، بينما وصل في عام 2023م إلى 69 في المئة. وبحسب طريقة المعالجة، قد تكون التبعية للمواد الخام القادمة من الصين أعلى من ذلك. فعلى سبيل المثال، يُقدّر اتحاد الصناعة الألماني في تحليل سابق أن ألمانيا تستورد 94 في المئة من السبائك المصنوعة من العناصر الأرضية النادرة من جمهورية الصين الشعبية. وخلال نفس الفترة، ارتفعت نسبة الصين في واردات ألمانيا من مواد خام أخرى. على سبيل المثال، زادت نسبة الجرمانيوم من 23 في المئة إلى 40 في المئة، والمغنيسيوم من 56 في المئة إلى 66 في المئة، والبزموت الذي يستخدم في صناعات متنوعة مثل صناعة الادوية وصناعة أنظمة الحريق وأيضاً يُستعمل كبديل غير سام للرصاص في الأغراض الصناعية من 24 في المئة إلى 95 في المئة. وعند النظر إلى المواد الخام المُعالجة بالإضافة إلى المواد الخام الأساسية، تصبح المشكلة أكثر حدة. ففي حين استوردت ألمانيا في عام 2014م، حوالي 18 في المئة فقط من مادة الليثيوم من الصين، بلغت وارداتها من بطاريات الليثيوم من الصين العام 2024م، نحو 50 في المئة.
ولتخفيف هذه المشكلة، تقترح الدراسة حزمة من الإجراءات تستند إلى ثلاث ركائز: اولاً، توسيع عمليات استخراج ومعالجة المواد الخام داخل ألمانيا وأوروبا. ثانياً، زيادة المرونة من خلال تنويع مصادر الاستيراد. ثالثاً، تعزيز الابتكارات التقنية، مثل التركيز بشكل أكبر على الاقتصاد الدائري الذي يهدف إلى تقليل الهدر واستغلال الموارد بشكل أكثر استدامة من خلال إعادة الاستخدام، وإعادة التدوير، والتصميم الذكي للمنتجات والعمليات.
الا ان هذه الحلول المقترحة تواجه معضلة أساسية حيث يقول Jürgen Matthes، من معهد الاقتصاد الألماني (IW): “نظرًا لأن الصين غالبًا ما تكون المزود الأرخص وفي بعض الأحيان الوحيد، فإن شراء الشركات من الصين يبقى خيارًا منطقيًا”. وأكد على ضرورة وجود المزيد من الحوافز والإمكانيات لتطوير مصادر بديلة. إلا أن المعضلة الأساسية تظل قائمة، وهي أن المواد الخام المدعومة من الصين ستبقى تتمتع بميزة سعرية كبيرة على المدى الطويل.