انخفض مؤشر مناخ الأعمال للشركات الألمانية ifo في شهر يونيو إلى 88.6 نقطة، بعد أن كان عند مستوى 89.3 نقطة في مايو الماضي. ويعزى هذا الانخفاض الى تراجع توقعات مستوى الاعمال خلال الأشهر القادمة، خصوصا في بعض القطاعات الاقتصادية. أما تقييم الشركات للوضع الحالي لمستوى اعمالها فلم يتغير مقارنة بالشهر السابق. ويؤشر هذا التراجع الى حالة عدم اليقين التي تسيطر على عدد من القطاعات الاقتصادية الى جانب التعافي البطيء والمحدود للاقتصاد الألماني.

     في قطاع الصناعة، شهد مؤشر مناخ الأعمال تراجعًا بعد ثلاث ارتفاعات متتالية، حيث انخفض المؤشر في هذا القطاع الى مستوى ( -9.2 نقطة) في يونيو بعد ان كان قد وصل الى مستوى ( -6.5 نقطة) في مايو الماضي. ويأتي هذا الانخفاض على الرغم من ان الشركات كانت أكثر رضًا عن مستوى الأعمال الجاري.  الا انها كانت أكثر تشككًا بشأن مستوى اعمالها خلال الأشهر المقبلة، خصوصًا مع تراجع حجم الطلبات الذي اثار قلق الشركات.

    وعلى العكس من ذلك ارتفع مؤشر مناخ الاعمال في قطاع الخدمات في شهر يونيو بشكل لافت الى مستوى 4.2 نقطة صعودًا من مستوى 1.8 نقطة في الشهر السابق. حيث قيمت الشركات العاملة في القطاع وضع اعمالها الحالي بشكل أفضل. كما تحسنت النظرة لمستوى الاعمال في النصف الثاني من العام، وخصوصا لدى الشركات العاملة في قطاع الضيافة نتيجة توقع ارتفاع الإيرادات الناتجة عن استضافة ألمانيا لبطولة كاس الأمم الأوروبية.

     وتراجع مؤشر مناخ الأعمال في قطاع التجارة بشكل ملحوظ ليسجل في يونيو مستوى ( -23.5 نقطة) منخفضًا بنسبة كبيرة عن مستوى ( -17 نقطة) المسجل في شهر مايو الماضي. ونتج هذا التراجع بدرجة رئيسية بسبب تعديل الشركات العاملة في القطاع تقييمها لمستوى اعمالها في الوقت الحاضر الى مستوى أقل من السابق بالإضافة الى التوقعات السلبية حول تطور الاعمال في هذا القطاع خلال الفترة القادمة سواءً في مجال تجارة الجملة او تجارة التجزئة.

     في قطاع البناء، ارتفع مؤشر مناخ الاعمال بشكل طفيف حيث سجل في شهر يونيو مستوى ( -25 نقطة) بعد ان كان عند مستوى ( -25.6 نقطة) في الشهر السابق. ويأتي هذا التحسن نتيجة التوقعات الأقل تشاؤمًا بمستوى الاعمال خلال الأشهر القادمة، وعلى الرغم من ذلك فان تقييم الشركات لمستوى اعمالها الحالي أتى بشكل أسوأ حيث ما يزال النقص في الطلب مشكلة أساسية في القطاع.

     في سياق متصل، اظهر التقرير نصف السنوي حول توقعات نمو الاقتصاد الذي اصدره معهد الدراسات الاقتصادية في جامعة ميونخ ifo ان مؤشرات الاقتصاد الألماني تميل نحو التعافي، ويعود ذلك بدرجة رئيسية الى التحسن التدريجي في الأسواق المحلية الألمانية والأمل المرتبط بزيادة الطلبيات الجديدة في قطاع الصناعة. كما ساهم في ذلك ايضًا انخفاض تكاليف الطاقة للشركات الصناعية والتي وصلت في الوقت الحاضر إلى مستويات عام 2020م، ونتيجة لذلك، أصبحت الإنتاجية في ألمانيا أكثر ربحية، مما سمح للشركات بمعالجة الطلبيات الكبيرة التي لا تزال لديها والتوسع في الإنتاج في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة.

     وبشكل عام، يتوقع معهد ifo أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني من العام 2024م، بنسبة 0.3 في المئة وهي نسبة أكبر قليلاً من الربع السابق. ويُعزى هذا النمو إلى ارتفاع صادرات قطاع الصناعة، في حين من المتوقع أن يواصل قطاع البناء اتجاهه التنازلي مع تراجع كبير. وفي وقت لاحق من هذا العام، ستكتسب عملية التعافي الاقتصادي المزيد من الزخم نتيجة لاستقرار الدورة الاقتصادية للاستهلاك بسبب الزيادة المتوقعة في القوة الشرائية للأسر والتعافي التدريجي للطلب على السلع والخدمات بالإضافة الى ديناميكية الأجور القوية في الوقت الحالي، كما انه من المتوقع أن تنخفض نسبة التضخم في الصيف للمرة الأولى منذ مارس 2021م، إلى ما دون 2 في المئة.

     من جانبه يتوقع البنك المركزي الألماني أن الاقتصاد الألماني سيستعيد نشاطه ببطء. وبحسب التقرير النصف سنوي الذي اصدره البنك حول تطورات الاقتصاد، فان الناتج المحلي سيشهد نمواً طفيفاً في عام 2024م، وسيتسارع النمو بشكل أكثر وضوحاً في السنوات التالية. وقال Joachim Nagel رئيس البنك ان “الاقتصاد الألماني يخرج من مرحلة الضعف الاقتصادي”. وأوضح أن الاستهلاك الخاص سيبدأ تدريجياً في التحسن. كما يتوقع البنك أن يتحسن التصدير بدءاً من النصف الثاني من العام.  ووفقًا لتوقعات البنك، فأن الناتج المحلي الاجمالي سينمو خلال هذا العام بنسبة تبلغ 0.3 في المئة. وبالنسبة للعام المقبل، يُتوقع ان يحدث نمو أقوى بنسبة 1.1 في المئة. وبالنسبة لعام 2026م، فان التوقعات تشير الى نمو بواقع 1.4 في المئة.

     بالإضافة الى ذلك تتوقع العديد من معاهد الأبحاث الاقتصادية في ألمانيا أن يتطور الاقتصاد في البلاد بشكل أفضل قليلاً مما كان متوقعًا سابقًا، لكن تبقى آفاق النمو ضعيفة. حيث يتوقع معهد كيل للاقتصاد العالمي (IfW) أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2 في المئة فقط في العام الحالي. في الوقت نفسه، خفض المعهد توقعاته للعام المقبل، حيث من المتوقع أن يبلغ النمو نسبة 1.1 في المئة بدلاً من 1.2 في المئة كما كان متوقعًا في السابق. كما رفع معهد ليبنيز للأبحاث الاقتصادية (RWI) في إيسن توقعاته للعام الحالي أيضًا، حيث يتوقع خبراء المعهد نموًا بنسبة 0.4 في المئة. بالنسبة لعام 2025م، يُظهر المعهد تفاؤلاً نسبيًا ويتوقع نموًا بنسبة 1.5 في المئة. كذلك رفع معهد الأبحاث الاقتصادية في هاله (IWH) توقعاته بشكل طفيف، حيث يتوقع الآن نموًا بنسبة 0.3 في المئة هذا العام. وبالنسبة لعام 2025م، تتطابق توقعاته مع معهد RWI عند 1.5 في المئة.

     وفي جميع الأحوال تتفق توقعات هذه المعاهد على انتهاء مرحلة الركود في ألمانيا، فبعد انكماش الاقتصاد في العام الماضي بواقع 0.3 في المئة، عاد للنمو في الربع الأول من عام 2024م. كما تتفق المعاهد ايضًا على أن هذا النمو سيستمر في أشهر الصيف، خاصة بسبب خفض أسعار الفائدة الرئيسية من قبل البنك المركزي الأوروبي (ECB). ويقول Torsten Schmidt، رئيس قسم الاقتصاد في معهد RWI: “لقد دخل الاقتصاد الألماني مسار التعافي بعد الصدمات الاقتصادية الأخيرة”.

   وكان الاقتصاد الألماني قد عانى خلال السنوات الماضية من عدد من الازمات على رأسها الازمة الناتجة عن جائحة كورونا بالإضافة الى ازمة الطاقة والناتجة بشكل رئيسي عن الحرب الروسية الأوكرانية، وعلى الرغم من تعافي الاقتصاد الى حد بعيد من هذه الازمات لكن استعادة زخم النمو الذي كانت تعيشه ألمانيا قبل العام 2020م، لا يزال بعيدا بسبب عدد من المشكلات والاختلالات الهيكلية وعلى رأسها النقص المتزايد في القوى العاملة بسبب التغيرات الديموغرافية والذي يقلل من إمكانات النمو بشكل متزايد. ويقدر معهد الأبحاث الاقتصادية في هاله (IWH)، أن الناتج المحلي الاجمالي سينمو بمتوسط سنوي قدره 0.7 في المئة فقط حتى عام 2028م. بينما كانت نسبة هذا النمو بين عامي 1996م و2023م، تبلغ الضعف تقريبًا.

سوق العمل: انتعاش محدود ونقص العمالة المؤهلة لا يزال عند مستوى مرتفع

     مع استمرار الانتعاش الربيعي، انخفض عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا في مايو 2024م، بمقدار 27,000 شخص ليصل اجمالي عددهم إلى 2,723,000 عاطل عن العمل. ومع ذلك، كان الانخفاض هذا الشهر أقل نسبيًا من المستوى المعتاد في هذا الوقت من العام نتيجة للصعوبات التي يواجها الاقتصاد. وبالمقارنة مع مايو من العام السابق، فان عدد العاطلين عن العمل أعلى بمقدار 179,000 شخص. وقد انخفض معدل البطالة في مايو 2024م بمقدار 0.2 نقطة مئوية ليصل إلى 5.8 في المئة، ومقارنة بنفس الشهر من العام السابق، فان المعدل أعلى بمقدار 0.3 نقطة مئوية.

     اما فيما يتعلق ببرنامج العمل بدوام مختصر الحكومي فقد بلغ عدد المسجلين الجدد في البرنامج في الفترة من 1 إلى 28 مايو نحو 46 ألف شخص أي أقل بمقدار الربع مقارنةً بالشهر السابق. وبحسب أحدث البيانات التي أصدرتها وكالة العمل الاتحادية فقد بلغ اجمالي عدد المستفيدين من البرنامج والذين استلموا تعويضات في مارس 2024م، 219 ألف موظف بعد أن كان عددهم 200 ألف موظف في فبراير و189 ألف موظف في يناير. من جانب أخر بلغ عدد الوظائف الشاغرة المسجلة في وكالة العمل الاتحادية في شهر مايو حوالي 702 ألف وظيفة أي أقل بمقدار 65 ألف وظيفة شاغرة عن العام السابق.  وبالرغم من استمرار تراجع عدد الوظائف الشاغرة منذ صيف العام الماضي الا انها تظل في مستوى عال.

     في سياق متصل، اظهر تقرير حول نقص العمالة السنوي الذي أصدرته وكالة العمل الاتحادية (BA) انخفاضًا طفيفًا في عدد المهن التي تعاني من نقص العمالة المؤهلة في عام 2023م، واستمرار نقص العمالة الماهرة في عدد مرتفع من المهن والوظائف. حيث اظهر التقرير ان 183 مهنة من حوالي 1200 مهنة تم تقييمها، تظهر نقصًا في ملء الوظائف الشاغرة. وبالرغم من ان هذا العدد أقل بـ 17 مهنة مقارنة بالعام السابق، فان هنالك نقص في العمالة الماهرة في كل سابع مهنة في ألمانيا.

     وقالت Andrea Nahles، رئيسة مجلس إدارة وكالة العمل الاتحادية “إن الانخفاض الطفيف في عدد المهن التي تعاني من نقص العمالة ليس مفاجئًا بسبب تراجع عدد الإعلانات عن الوظائف الشاغرة، لكن هذه مجرد حالة مؤقته وليست اتجاهًا طويل الأمد. فنظرًا للتطور الديموغرافي، من المتوقع ان يغادر العديد من العمال المهرة والمؤهلين وذوي الخبرة سوق العمل في السنوات القادمة”.

     وكانت من بين المهن الأكثر نقصًا في العمالة في عام 2023م، المهن المتعلقة بالرعاية الصحية والمهن الحرفية ونقل البضائع وكذلك الموظفين والموظفات المؤهلين في قطاعات رعاية الأطفال والتربية الاجتماعية. كما كان النقص في المهن التقنية متركزًا بشكل خاص في مجال تكنولوجيا المعلومات وتخطيط البناء. هذا الى جانب عدد من المهن في قطاعات الضيافة والخدمات حيث كان هنالك نقص في الطهاة المؤهلين. ومقارنة بالعام السابق، تحسنت قليلاً وضعية نقص العمالة في مجالات البناء العالي وبناء الواجهات، وكذلك بالنسبة للمهندسين في تكنولوجيا الطيران والفضاء. لكن التقرير أشار ايضًا الى ان هنالك 172 مهنة أخرى لا تظهر نقصًا حاليًا، لكنها تحت المراقبة لأنها قد تتطور لتصبح مهنًا تعاني من نقص العمالة.

     وبحسب التقرير ايضًا، كانت نصف الوظائف الشاغرة التي تم تسجيلها في وكالة العمل الاتحادية في العام 2023م، مسجلة من الشركات العاملة في التخصصات والمهن التي تعاني من نقص العمالة الماهرة. من ناحية أخرى، غالبًا ما لا يكون العاطلون عن العمل من ذوي التخصصات التي تعاني من نقص العمالة، حيث كان فقط ربع العاطلين عن العمل المسجلين يبحثون عن عمل في تخصص او مهنة تعاني من نقص في الموظفين المؤهلين.

تراجع تنافسية ألمانيا كموقع لإقامة الاعمال والاستثمار

     تتفق اراء العديد من الباحثين والخبراء الاقتصاديين من ان القدرة التنافسية للاقتصاد الألماني قد تراجعت بالمقارنة بعدد من الدول الصناعية الا ان الآراء تختلف بدرجة كبيرة حول مدى هذا التراجع واسبابه ومدى إمكانية تصحيح الاختلالات وتحسين موقع ألمانيا في هذا الجانب. فمن جهة أظهرت دراسة حديثة للمعهد الدولي للتطوير الإداري (IMD) في سويسرا ان الاقتصاد الألماني يتراجع في المنافسة على قائمة المواقع الأفضل لإقامة الاعمال والاستثمار، حيث تراجع تصنيف ألمانيا في هذا المجال في العام الحالي مرتبتين مقارنة بالعام الماضي لتحتل الان المركز 24 في التصنيف. واحتلت سنغافورة المركز الأول في الدراسة التي قارنت بين 67 اقتصادا عالميًا، تليها سويسرا والدنمارك وحلت الامارات العربية المتحدة في المركز 7 على المستوى العالمي، وقطر في المركز 11 كما جاءت المملكة العربية السعودية في المركز 16 عالميًا، كذلك مملكة البحرين التي كانت في المركز 21 في قائمة الاقتصاديات الأكثر تنافسية على مستوى العالم، فيما جاءت لوكسمبورغ في المرتبة 23 بجانب ألمانيا، بينما احتلت دول فنزويلا والأرجنتين وغانا المراكز الأخيرة.

      ولا يقتصر تصنيف معهد IMD على حجم الناتج المحلي الإجمالي والإنتاجية فقط، بل تشمل أيضًا المؤشرات السياسية والاجتماعية والثقافية. كما يهدف التصنيف الى إنشاء قائمة بالبلدان التي تنجح بشكل أفضل في تعزيز الرفاهية لمواطنيها. ويعتمد التصنيف على البيانات الإحصائية لمختلف القطاعات الاقتصادية وأيضا على المؤشرات الفرعية مثل البنية التحتية وكفاءة أداء الحكومة الى جانب استطلاع للرأي بين مديري الشركات في البلدان المشمولة بالدراسة.  وكما تراجعت ألمانيا في التصنيف العام للمعهد تراجعت أيضا في عدد من المؤشرات الفرعية وعلى وجه الخصوص في المؤشرات التالية:

  • الأداء الاقتصادي: ويشمل هذا المؤشر على التوظيف والأسعار، حيث تراجعت ألمانيا من المركز الثاني عشر إلى المركز الثالث عشر.
  • كفاءة الحكومة: يعكس هذا المؤشر من بين أمور أخرى السياسة الضريبية والمالية العامة. وتحتل ألمانيا المرتبة 32، بينما كانت في العام الماضي في المرتبة 27.
  • كفاءة الشركات: تشمل هذه الكفاءة المالية للشركات والممارسات الإدارية. وبعد أن كانت في المرتبة 29 في العام الماضي، تحتل ألمانيا في التصنيف الحالي المرتبة 35.
  • البنية التحتية: والتي تضم الى جانب البنية التحتية الأساسية كذلك البنية التحتية التقنية والعلمية. وفي هذا المجال تراجعت ألمانيا من المركز 14 إلى المركز 20.

     ولم يقتصر التقييم السلبي لتنافسية الاقتصاد الألماني على باحثي معهد IMD، حيث حذر أيضًا معهد الدراسات الاقتصادية في جامعة ميونخ Ifo من التراجع المستمر في القدرة التنافسية للصناعة الألمانية، حيث خفض 180 أستاذاً اقتصادياً استطلعت آراؤهم من قبل المعهد القدرة التنافسية لألمانيا بالمقارنة مع بقية الدول الصناعية الأخرى.

     الا انه ومع هذا التصنيف المنخفض لألمانيا كموقع للأعمال والاستثمار، لا ينبغي اعتبار هذا التصنيف نهائي او غير قابل للتحسن، فبحسب دراسة اجراها بنك إعادة الاعمار والتنمية الحكومي KfW فان القدرة التنافسية للاقتصاد الألماني أكثر تعقيدًا مما يتم تصويره عادة في النقاش العام. ويؤكد Fritzi Köhler-Geib، كبير الاقتصاديين في بنك KfW “إن النظرة المنهجية إلى ألمانيا كموقع للاستثمار تنتج صورة مختلطة تتضمن نقاط قوة ونقاط ضعف”.

     واستندت دراسة بنك إعادة الاعمار والتنمية على 22 مؤشرًا لتقديم صورة شاملة للقدرة التنافسية لألمانيا مقارنة بالاقتصادات المماثلة وعلى وجه التحديد مع الدول الأخرى في مجموعة السبع الصناعية بالإضافة إلى الصين والسويد. وكانت النتيجة ان ألمانيا تتمتع بقدرة تنافسية جيدة في العديد من المؤشرات خاصة عندما يتعلق الأمر بالقوة الابتكارية، رأس المال الثابت (الأصول الصناعية) والبحث العلمي. بينما تتراجع في المؤشرات المتعلقة بمجالات الديموغرافيا، حجم الاستثمار الحكومي (غير كافٍ) والضرائب (مرتفعة للغاية).

     وتتركز الإيجابيات التي يتمتع بها الاقتصاد الألماني في امتلاكه لأصول صناعية قوية تشمل الآلات والمعدات والمباني التي تستخدم في الإنتاج ويصل متوسط قيمة هذه الأصول، او ما يطلق عليها رأس المال الثابت إلى 235,000 دولار لكل مواطن، مما يضعها في المقدمة بين مجموعة الدول المقارنة. وتتصدر إيطاليا القائمة بـ 284,000 دولار، فيما تأتي الصين في الترتيب الأخير بـ 69,000 دولار.

     وعلى الرغم من الانتقادات الموجة لحالة البنية التحتية الأساسية في ألمانيا والمشاكل المتزايدة التي تعاني منها، ومن ضمنها على سبيل المثال الأضرار التي لحقت بالجسور الا انها ما تزال جيدة، إذ تمتلك ألمانيا أساسيات قوية في الطرق والسكك الحديدية والممرات المائية والجسور. وبحسب بيانات البنك الدولي الذي انشاء تصنيفًا لـ 139 دولة، احتلت البنية التحتية الألمانية المركز الثالث عالميًا.

     كذلك تتميز ألمانيا بالإنفاق المرتفع نسبيًا على الأبحاث حيث بلغ متوسط استثمار الاقتصاد الألماني في البحث والتطوير خلال السنوات القليلة الماضية 3.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، وبهذا تحتل ألمانيا المركز الرابع بين الدول التسع المقارنة. وقد انعكس هذا الانفاق في قوة الابتكار التي يتمتع بها الاقتصاد الألماني حيث تحتل ألمانيا المركز الأول في تسجيل براءات الاختراع في أوروبا منذ عدة سنوات.

  مخاطر الذكاء الاصطناعي على الوظائف ونظام الرعاية الاجتماعي في ألمانيا

     حث صندوق النقد الدولي (IMF) الاقتصادات المتقدمة مثل ألمانيا على الاستعداد المبكر للتحولات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي (AI). وأكدت دراسة أعدها الصندوق أن الاستثمار في البحث هو جزء واحد فقط من الإجراءات اللازمة لمواجه تبعات الاستخدام المكثف للذكاء الاصطناعي لكن المهمة الأساسية والكبرى تكمن في إعادة التفكير بشكل جذري في التعليم وأسواق العمل والسياسات الضريبية وأنظمة الرعاية الاجتماعية، حيث تتوقع الدراسة ان يكون هناك “سيناريوهات شديدة الاضطراب”. لتأثير الذكاء الاصطناعي على هذه المجالات.

     ومع تأكيد دراسة الصندوق على أن الذكاء الاصطناعي يحمل في طياته “إمكانيات هائلة لزيادة الإنتاجية”، كما يُتوقع ان يكون له ايضًا تأثيرات إيجابية في معالجة المعلومات ومستوى الخدمات وكذلك في قطاع الرعاية الصحية. لكن في الوقت نفسه، يجب على الاقتصادات أن تستعد لـ “اضطرابات هائلة في سوق العمل” وزيادة في التفاوت الاجتماعي. إذ ان حجم وسرعة تحول الذكاء الاصطناعي يحملان مخاطر “تميزه عن كل الثورات الصناعية السابقة”.

     ومع ان الدراسة لم تذكر فترة زمنية محددة يمكن أن تتوقع فيها الاقتصادات حدوث هذا التحول، واقرار مُعدي الدراسة أنفسهم بأن العديد من السيناريوهات لا يمكن التنبؤ بها حاليًا. ومع ذلك، تقدم الدراسة نظرة شاملة حول النقاط التي يمكن للدول الصناعية العمل عليها منذ الآن لتجنب الاثار السلبية للتوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي. وتتضمن هذه النقاط المحددة التي ينصح بها صندوق النقد الدولي التالي:

  1. التعلم مدى الحياة: يؤكد صندوق النقد على ضرورة التعليم المستمر والذي اكتسب أهمية أكثر من أي وقت مضى، حيث “يجب أن تتكيف سياسات التعليم والتدريب مع الحقائق الجديدة”، من خلال إجراءات دائمة تضمن استمرارية التطوير المهني للعمالة واعداد البرامج المختلفة لمؤامة قدرات العمالة مع الاحتياجات الجديدة التي ستفرضها التطبيقات المختلفة للذكاء الاصطناعي لأن الخسائر المتوقعة في الوظائف لن تحدث فقط في قطاع الأجور المنخفضة، “بل ستؤثر بشكل أساسي على العمالة عالية المؤهلات “.
  2. تغيير السياسة الضريبية: تشير الدراسة الى ان النظام الضريبي في أغلب الدول الصناعية يقوم على الخفض المستمر للضرائب على دخل رأس المال، في حين أن العبء الضريبي على العمال يرتفع باستمرار. وهنا ينصح صندوق النقد الدولي بضرورة “عكس هذا الاتجاه”، وخفض معدلات الضريبة المفروضة على العمال والموظفين وإلا فلن تتمكن الدولة من تخفيف تأثيرات خسائر الوظائف المتوقعة. وبالنظر إلى الاستهلاك العالي للطاقة من قبل خوادم الذكاء الاصطناعي، فإن فرض ضرائب على الانبعاثات الصادرة عن عملية انتاج الطاقة تمثل إمكانية إضافية لتعويض بل وزيادة الإيرادات بعد خفض الضرائب على العمال.
  3. إعادة هيكلة أنظمة الرعاية الاجتماعية: من المتوقع أن تؤدي ثورة الذكاء الاصطناعي إلى “جعل جزء كبير من القوى العاملة عاطل عن العمل لفترات طويلة”، ويرى الصندوق انه بدلاً من سياسة “إجراءات ومعايير موحدة للتعامل مع الجميع”، يجب على أنظمة الرعاية الاجتماعية التكيف مبكراً مع هذا الوضع بحيث يجب ان يتلقى الأشخاص “الذين يستطيعون التكيف مع متطلبات السوق الجديدة” الدعم من خلال إعادة التأهيل السريع والجيد لإعادة ادماجهم في سوق العمل من جديد. اما أولئك “الذين تم إقصاؤهم بشكل دائم من سوق العمل”، يجب أن يتم ضمان تلقيهم مزايا الضمان الاجتماعي بشكل مستمر ودون الخشية من توقفها.

     وبذلك تشير دراسة صندوق النقد الدولي إلى ضرورة إحداث تغيير جذري في التعامل مع الذكاء الاصطناعي. فقد ارتبطت الأتمتة في الماضي بشكل رئيسي بالتقدم والابتكار، لكن هذا يتغير مع الذكاء الاصطناعي، حيث يرى الصندوق ان الأمر لا يتعلق بالابتكار والنجاح التجاري فقط، بل أيضًا بضرورة أن تخدم التطورات التقنية “المصالح الجماعية للبشر”.

     وتعليقًا على وجهة نظر الصندوق أكد متحدث باسم وزارة المالية الاتحادية (BMF) إن الوزارة ستحلل دراسة صندوق النقد الدولي وان “وزارة المالية الاتحادية تتابع التطورات التكنولوجية السريعة عن كثب وتتعامل أيضًا مع القضايا طويلة الأجل للتحولات المحتملة في الاقتصاديات بسبب الذكاء الاصطناعي”.  مشددا على انه “من المرجح أن يغير الذكاء الاصطناعي بشكل كبير سلاسل الإنتاج والقيمة”. وأضاف المتحدث ان القسم المعني بوضع السياسات في الوزارة يعمل على دراسة السيناريوهات الممكنة وردود الفعل المحتملة. وقال المتحدث أيضا ان “وزارة المالية الاتحادية تدعم بشكل أساسي بيئة ضريبية تعزز النمو وتشمل موقفًا إيجابيًا تجاه الذكاء الاصطناعي”.

الأثار الاقتصادية لخفض معدل الفائدة في منطقة اليورو

     خفض البنك المركزي الأوروبي (ECB) سعر الفائدة الرئيسي في منطقة اليورو من 4.5 في المئة إلى 4.25 في المئة.  وبالرغم من محدودية هذا الخفض الا ان له اثار مهمة على العديد من القطاعات الاقتصادية وعلى مالية الدول الأعضاء في منطقة اليورو خصوصا ان هذا الخفض يفترض ان يكون خطوة أولى تتبعها خطوات أخرى لخفض الفائدة في الأشهر القادمة.

     استفادت البورصات بشكل كبير مسبقًا من التوقعات بخفض أسعار الفائدة. فقد ارتفع مؤشر الأسهم الألماني (DAX) والذي يضم أكبر 40 شركة في ألمانيا، منذ بداية العام بنحو 12 في المئة، حيث عادةً ما تكون أسعار الفائدة المنخفضة جيدة لأسعار الأسهم. فمن ناحية، يتم تخفيف أعباء الشركات فيما يتعلق بتكاليف القروض، مما يزيد من ربحيتها بشكل عام. ومن ناحية أخرى، تصبح الأوراق المالية مثل السندات أو الودائع الثابتة أقل جاذبية لأنها تحقق عوائد أقل، مما يجعل الأسهم أكثر جاذبية.

     كذلك يأمل وزراء المالية في دول منطقة اليورو في تخفيف أعباء القروض الحكومية حيث تصبح هذه الديون أقل تكلفة بعد خفض الفائدة. لهذا السبب، كانت دول اليورو في جنوب اوروبا تطالب بمثل هذه الخطوة، بينما كانت هناك اعتراضات من البنك المركزي الألماني (Bundesbank). حيث انه في نهاية عام 2023م، كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليونان تبلغ 162 في المئة، وفي إيطاليا 137في المئة، بينما كانت تبلغ في ألمانيا 64 في المئة تقريبًا، وهو أقل من المتوسط ​​في الاتحاد الأوروبي البالغ 82 في المئة.

     من جهة أخرى لم يكن لخفض الفائدة نفس الاثار الإيجابية على قطاع البناء، بل على عكس ما هو مفترض ارتفعت الفائدة على القروض العقارية بعد أسبوعين من أول خفض في سعر الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي (ECB) منذ عام 2019م، وتشير شركة الاستشارات المالية Max Herbst (FMH)، ان القيمة الوسطية للفائدة على القروض العقارية تبلغ في الوقت الحاضر 3.66 في المئة مع تثبيت الفائدة لمدة عشر سنوات. قبل شهر، كانت هذه القيمة 3.60 في المئة. ويصف ممولو البناء والمستشارون الماليون خفض الفائدة الذي تم حتى الآن بأنه “غير كافٍ” ليكون له تأثير فعلي في السوق. بالإضافة إلى ذلك، فإن سعر الفائدة الرئيسي الذي خفضه البنك المركزي الأوروبي من 4.5 في المئة إلى 4.25 في المئة هو ما يسمى بـ “سعر إعادة التمويل الرئيسي”. والذي بموجبه يمكن للبنوك التجارية اقتراض المال من البنك المركزي الأوروبي لمدة أسبوع على الأقل، ويعتبر هذا قرض قصير الأجل جداً، وليس له علاقة تذكر بالتمويل العقاري طويل الأجل.

     بالإضافة الى ذلك تحدد السندات والرهون العقارية سعر الفائدة للقروض العقارية، وتوضح شركة (FMH) ان ” أسعار الفائدة في قطاع البناء تعتمد أكثر على معدلات الفائدة التي يكون المستثمرون مستعدين لإقراض الحكومة الألمانية من خلالها في شكل سندات حكومية لمدة 10 سنوات”، وقد ارتفعت عوائد السندات الحكومية الألمانية ذات العشر سنوات منذ بداية العام من 2.1 في المئة إلى 2.43 في المئة، وهذا الارتفاع له أيضًا تأثير على أسعار الفائدة على السندات العقارية، التي غالبًا ما تستخدمها البنوك لتمويل القروض العقارية التي تقدمها. وهذا يعني انه إذا ارتفعت هنا الفوائد، ترتفع أيضًا فوائد القروض العقارية.

     وبعد الخطوة الأولى في خفض الفائدة في منطقة اليورو يدور تساؤل حول إلى أي مدى سيستمر البنك المركزي الأوروبي (ECB)، في الخفض التدريجي لأسعار الفائدة في منطقة اليورو. ويعتمد هذا الامر بشكل كبير على التطورات الاقتصادية خلال الفترة القادمة. حيث كانت التوقعات في الأوساط المالية تشير إلى ان خفض الفائدة سيتم في ستة إلى سبع خطوات، لكن التوقعات أصبحت الآن أكثر تحفظًا خاصة أن معدل التضخم في منطقة اليورو قد ارتفع مؤخرًا ليصل الى 2.6 في المئة.

     ويعتبر Jörg Krämer، كبير الاقتصاديين في بنك Commerzbank، أن خطوة خفض الفائدة كانت خطأ مشيرًا الى استمرار الأسعار المرتفعة. مؤكدًا انه “باستثناء الأسعار المتقلبة للطاقة والمواد الغذائية، فإن أسعار المستهلكين ترتفع بشكل أكبر منذ بداية العام، وبمعدل سنوي يصل إلى 3.5 في المئة، وهو أعلى بكثير من هدف التضخم للبنك المركزي الأوروبي البالغ 2 في المئة”. كما يمكن أن يؤدي انتعاش الاقتصاد الأوروبي إلى تعطيل خطط خفض الفائدة للبنك المركزي الأوروبي، فإذا ما سارت الأمور بشكل جيد، فإن خطر تأثير الفائدة العالية على النشاط الاقتصادي سينخفض، وعندها قد يستفيد فقط القطاع المالي، وبنسبة محدودة، من انخفاض الفوائد.