لا تزال الأرقام والبيانات الخاصة بحالة الاقتصاد الألماني تشير الى استمرار حالة التعافي من اثار الاغلاق الاقتصادي نتيجة فيروس كورونا، يترافق ذلك مع تزايد المخاوف من حدوث موجه ثانية من انتشار فيروس كورونا والإجراءات التي يجب اتباعها في حالة حدوث ذلك.
في جانب تعافي الاقتصاد ارتفع مؤشر ifo لمناخ الاعمال في شهر أغسطس الى 92.6 نقطة بعد ان كان قد وصل الى مستوى 90.4 نقطة خلال شهر يوليو، حيث قيمت الشركات الألمانية الوضع الحالي بأنه أفضل بشكل ملحوظ مما كان عليه في الشهر السابق. كما كانت توقعات هذه الشركات متفائلة، ولو بشكل حذر، بشأن انتعاش الاقتصاد خلال وقت قصير.
في القطاع الصناعي تحسن مناخ الاعمال بشكل كبير حيث ارتفعت تقديرات شركات هذا القطاع بشكل ايجابي عن الوضع الحالي وعلى الرغم من ذلك ما تزال العديد من الشركات الصناعية تصنف وضعها الاقتصادي بالغير جيد. فيما كانت التوقعات للعمال للأشهر القادمة أكثر تفاؤلاً، حيث يرتفع عدد الطلبيات مرة أخرى. في قطاع الخدمات، ارتفع مؤشر مناخ الأعمال بشكل كبير وكان مقدمو الخدمات أكثر رضا بشكل ملحوظ عن وضع أعمالهم الحالي. كما استمرت التوقعات لمستوى الاعمال للأشهر الستة المقبلة في التحسن.
قطاع التجارة شهد صعوداً ملحوظاً في تقييم مناخ الاعمال حيث كان التجار أكثر رضا عن وضعهم الحالي. وفي مجال توقعات الاعمال للفترة القادمة لم تتغير تقديرات شركات هذا القطاع بشكل كبير وان كانت أكثر ميلاً للتشاؤم بل تراجعت هذه التقديرات في قطاع البيع بالجملة. اما في قطاع البناء فما زال يشهد تحسناً في مناخ الاعمال حيث أظهرت شركات هذا القطاع رضا عن مستوى اعمالها في الوقت الحاضر وان كانت توقعاتها للأعمال في الأشهر القادمة ليست بنفس الإيجابية.
اما في جانب الصادرات فقد ارتفع مؤشر معهد ifo خلال شهر سبتمبر من 5,5 نقطة الى 10,4 نقطة حيث تعد هذه القيمة اعلى قيمة للمؤشر منذ أكتوبر العام 2018م مظهراً تزايد التفاؤل بين المصدرين الألمان. حيث تسبب الانتعاش في الإنتاج الصناعي في العديد من البلدان المستوردة للمنتجات الصناعية الألمانية في تزايد التفاؤل في ارتفاع صادرات القطاع الصناعي. اذ تتوقع العديد من الشركات العاملة في الصناعات الكيميائية زيادة صادراتها خلال الربع الرابع من هذا العام، وينطبق الأمر نفسه على الشركات المصنعة للمعدات الكهربائية. كما تتوقع صناعة السيارات أيضًا نمو مبيعاتها في الاسواق الأجنبية. من ناحية أخرى، لا تتوقع صناعة المعدات والآلات أي قفزات كبيرة في صادراتها في الوقت الحالي، فيما يتوقع مصنعو الملابس والسلع الجلدية والأحذية تراجع صادراتهم هذا العام.
وكانت الصادرات الألمانية قد تراجعت في النصف الأول من العام بنسبة 13.4 في المئة إلى حوالي 577 مليار يورو. ويتوقع اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية (DIHK) انخفاض الصادرات الألمانية بنسبة 15 في المئة للعام 2020م. بينما من المتوقع ان تسجل هذه الصادرات نمو بنسبة خمسة في المئة لعام 2021م.
في إطار الاقتصاد الكلي يتوقع معهد الأبحاث الاقتصادية في جامعة ميونخ ifo ان ينخفض الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا لهذا العام بنسبة (5,2 في المئة) بعد كانت التوقعات في الصيف تشير الى ان نسبة الانخفاض قد تصل الى (6,7 في المئة) وهو اقل من توقعات الحكومة الاتحادية (5,8 في المئة) وأيضا اقل من نسبة تراجع الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا خلال الازمة المالية العالمية العام 2009م والتي وصلت وقتذاك الى (5,7 في المئة). ويشترك العديد من الخبراء والمعاهد الاقتصادية في التوقعات بانخفاض اقل للناتج المحلي في ألمانيا عما كان متوقعا خلال الصيف الا انها تختلف في نسبة هذا الانخفاض حيث يتوقع المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW) ان يتراجع الناتج المحلي العام 2020م بنسبة 6 في المئة على ان يعود الى النمو في العام 2021م بنسبة 4,1 في المئة، فيما يتوقع معهد ifo نسبة نمو للعام 2021م تصل الى 5,1 في المئة.
وتعود التوقعات بانخفاض التراجع في الناتج المحلي الى عدة أسباب منها: ان الركود الاقتصادي في ألمانيا وبالمقارنة مع بقية دول العالم كان خفيفاً. وقد ساهم في ذلك أنه تمت السيطرة على انتشار فيروس كورونا في ألمانيا من خلال تدابير أقل تقييدًا وصرامة وان الاغلاق الاقتصادي لم يشمل كل القطاعات الاقتصادية بالإضافة الى الدور الذي يلعبه القطاع الصناعي باعتباره العمود الفقري للاقتصاد في المانيا ومحدودية تأثير انتشار فيروس كورونا على هذا القطاع بالمقارنة بالقطاعات الاقتصادية الأخرى مثل قطاع السياحة وقطاع الخدمات.
ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، استطاع الاقتصاد الألماني التعامل مع أزمة كورونا بشكل جيد نسبيًا مقارنة مع بقية الاقتصاديات الأخرى، حيث تتوقع المنظمة تراجع الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بنسبة (- 5,4 في المئة) بينما سيبلغ هذا التراجع في فرنسا (-9.5 في المئة) وإيطاليا (-10.5 في المئة) ومنطقة اليورو ككل (-7.9 في المئة) فيما يتوقع أن ينكمش الاقتصاد بقوة أكبر في المملكة المتحدة (-10.1 في المئة) وأيضًا في اليابان (- 5.8 في المئة).
ومع هذا فان حالة عدم اليقين في التوقعات كبير للغاية لأن لا أحد يعرف كيف سيستمر وباء كورونا وهل ستكون هنالك موجة ثانية، الى جانب قضية علاقة بريطانيا عقب البريكست بالاتحاد الأوروبي وهل سيتوصل الطرفان الى اتفاقية لتنظيم هذه العلاقة ام سيكون خروجاً صعباً، بالإضافة الى كيفية وإمكانية حل النزاعات التجارية العالمية خصوصا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذا المجال يزداد القلق في ألمانيا حول إمكانية حدوث موجة ثانية من انتشار جائحة كورونا بعد ان تزايدت نسبة الإصابات بعدوى الفيروس في العديد من المناطق والمدن الكبرى. وفي هذا الخصوص دعت المستشارة انجيلا ميركل رؤساء وزراء الولايات الألمانية الى عقد اجتماع نهاية شهر سبتمبر للتباحث حول الإجراءات التي يجب اتخاذها في هذا الشأن.
هذه الزيادة في عدد الإصابات بالعدوى اثرت على مناخ الاستهلاك وميول المستهلكين، حيث اظهر مقياس معهد أبحاث السوق الألماني GfK لمناخ الاستهلاك انخفاضاً في شهر سبتمبر بمقدار 1.6 نقطة إلى سالب – 1.8 نقطة وذلك بعد ثلاثة اشهر من الارتفاع المتوالي للمؤشر، وذلك بسبب الخوف من تشديد القيود المتعلقة بمنع انتشار فيروس كورونا. وجاء تدهور معنويات المستهلكين مفاجأة للخبراء الذين كانوا يتوقعون ارتفاع مؤشر الاستهلاك إلى 1.2 نقطة معتمدين أيضا على الأثر الإيجابي المفترض لتخفيض ضريبة القيمة المضافة الذي دخل حيز التنفيذ في يوليو الماضي في دعم الميل للاستهلاك والذي، وعلى الرغم من اثارة الإيجابية، تضاءل امام أثر تزايد معدلات الإصابة بفيروس كورونا والتدابير اللازمة التي يجب أن يتم اتخاذها في مواجهته.
وفي جانب مالية الدولة الألمانية تتوقع مصادر حكومية ان تتراجع الإيرادات الضريبية بشكل كبير خلال هذا العام والعام المقبل على ان تعود الى الارتفاع بداية من العام 2022م، وبالمقارنة بإيرادات مختلف الاوعية الضريبية في ألمانيا للعام 2019م والتي تشمل الإيرادات الضريبية للبلديات والضرائب المحصلة لمصلحة الاتحاد الأوروبي والتي بلغ مجموعها 799,3 مليار يورو، تشير التقديرات الى ان مجموع الضرائب المحصلة للعام الحالي 2020م ونتيجة لأزمة فيروس كورونا لن تتجاوز 717,7 مليار يورو وبنسبة تراجع تبلغ 10,2 في المئة مقارنة بالعام السابق، وستنخفض الإيرادات الضريبية المخصصة للولايات بنسبة 5,5 في المئة لتصل الى 306,5 مليار يورو بينما سيبلغ التراجع في قيمة الضرائب المحصلة لمصلحة الحكومة الاتحادية نسبة 16,3 في المئة لتصل الى 275,3 مليار يورو، كذلك تظهر التقديرات ان العائدات الضريبية للدولة الألمانية المتوقعة للعام 2021م لن تتجاوز 773 مليار يورو. فيما ستصل قيمة هذه العائدات الضريبية في العام 2022م الى 810,5 مليار يورو.
هذا التراجع في الإيرادات الضريبية والتي تمثل مصدر الدخل الرئيسي للدولة الألمانية سوف يتسبب في حدوث عجز في ميزانية الحكومة الاتحادية وسيدفعها الى التخلي عن سياسة “الصفر الأسود ” القائمة على اعتماد ميزانية بدون عجز وبدون دين، والتي نجحت في تنفيذها خلال السنوات الست الماضية. وفي هذا الجانب يتوقع وزير المالية الاتحادي اولاف شولتز ان تبلغ نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي عقب جائحة كورونا نفس النسبة التي وصلتها خلال الازمة المالية العالمية عامي 2008-2009م، والتي وصلت الى مستوى 80 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، إذ وبحسب شولتز سيتعين على الحكومة الحصول على قروض كبيرة للتعامل مع الأزمة، حيث ان الدولة ساهمت في استقرار الاقتصاد من خلال برامج التحفيز الاقتصادي وبرامج المساعدات الائتمانية.
ومن المتوقع أن تتحمل الحكومة الاتحادية وحدها ما مجموعه أكثر من 300 مليار يورو من الديون الجديدة لعامي 2020م و2021م. ووفقا لوزارة المالية الاتحادية فإن إجمالي ديون الصناديق الاتحادية وصناديق الولايات والبلديات وصناديق الضمان الاجتماعي، والتي ارتفعت بشكل كبير في عام 2020م ستظل مستقرة عند نسبة 75 في المئة قياسًا بالناتج المحلي الإجمالي في عام 2021م. وفي حال ما زاد النمو الاقتصادي بشكل أكبر بعد الأزمة فقد ينخفض هذا المعدل بشكل طفيف.
هذا وكان الدين العام في ألمانيا قد وصل الى اقصى مستوى له في العام 2010م وبنسبة 82,4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بينما انخفض حجم هذا الدين في العام 2019م الى ما دون حاجز 60 في المئة المنصوص علية في قواعد الاتحاد الأوروبي للمرة الأولي ووصل الى مستوى 59,8 في المئة.
سوق العمل في ألمانيا: ارتفاع البطالة الموسمية واستمرار اثار كورونا على السوق
سجلت البطالة في شهر أغسطس ارتفاعا طفيفاً بالمقارنة مع شهر يوليو السابق وان كان هذا الارتفاع اعتيادياً ومرتبطا بموسم العطلة الصيفية، ووفقا لتصريحات رئيس وكالة العمل الاتحادية (BA) Detlef Scheele فان ارتفاع البطالة الإضافي هذا ليس مرتبطا بشكل مباشر بجائحة كورونا ومع ذلك “فإن تأثيرات الجائحة على سوق العمل لا تزال واضحة للغاية”.
وقد ارتفع عدد العاطلين عن العمل في أغسطس بنحو 45 ألف شخص ليصل مجموع عدد العطلين عن العمل في ألمانيا الى 2,955 مليون شخص وهو ما يمثل زيادة بنحو 636 ألف عاطل مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، ويستتبع ذلك ارتفاع معدل البطالة بحوالي 0,1 في المئة ليصل معدل البطالة في ألمانيا خلال شهر أغسطس الى 6,4 في المئة وبزيادة بنسبة 1,3 في المئة مقارنة بشهر أغسطس العام 2019م.
أما بالنسبة للمتوسط السنوي للبطالة في ألمانيا لعام 2020م، ووفقًا للتوقعات التي قدمها معهد أبحاث التوظيف (IAB) التابع لوكالة العمل الاتحادية، سترتفع البطالة هذا العام بشكل اجمالي بمقدار 440 ألفًا وسيظل العدد الاجمالي للعاطلين تحت مستوى ثلاثة ملايين عاطل. بينما سيتراجع هذا العدد في العام القادم 2021م بنحو 100 ألف شخص. ومع ذلك، فإن هذا العدد من العاطلين المتوقع لا يزال في مستوى أعلى بكثير مما كان عليه قبل جائحة كورونا.
وبحسب الدراسة التي أعدها المعهد فانة ونتيجة لاستعادة النشاط الاقتصادي السريع نسبياً بعد الاعلاق في ربيع هذا العام عاد سوق العمل الى التوازن اذ لم تكن هناك زيادات أخرى بسبب كورونا في عدد العاطلين عن العمل في الصيف، وكذلك لم يكن هناك اتجاه هبوطي حاد في السوق حتى الآن، الا انه يجب الانتباه ايضاً الى التردد المستمر في تعيين موظفين جدد وعمليات التحول الصعبة في العديد من القطاعات الاقتصادية والتي منها على سبيل المثال قطاع صناعة السيارات وقطاع التجارة بالتجزئة.
في مجال الطلب على العمالة الجديدة انخفض عرض الوظائف الجديدة بشكل كبير في بداية ازمة كورونا وتعافي نوعا ما في شهر أغسطس حيث تم تسجيل 584 ألف وظيفة شاغرة، أي اقل بحوالي 211 ألف وظيفة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.
في جانب آخر، بلغ عدد طلبات التسجيل في برنامج العمل بدوام جزئي من 1 أغسطس إلى 26 أغسطس 170 ألف طلب جديد وهو ما يعني أن عدد الأشخاص الذين يتم تسجيلهم في البرنامج يستمر في الانخفاض بعد الزيادة الهائلة في شهري مارس وأبريل. ووفقًا لتقديرات معهد Ifo للأبحاث الاقتصادية، انخفض عدد العمال المسجلين في برنامج العمل بدوام جزئي في ألمانيا في شهر أغسطس بمقدار مليون شخص ليصل إلى حوالي 4.6 مليون شخص على مستوى البلاد. وهذا يعني أن 14 في المئة من جميع الموظفين يعملون الآن في دوام جزئي، مقارنة بـ 17 في المئة في يوليو.
من حيث الأرقام والنسب، تعد ولاية بافاريا هي الولاية التي لديها أكبر عدد من العمال والموظفين المسجلين في برنامج العمل بدوام جزئي، حيث بلغ عدد المسجلين في البرنامج في الولاية في شهر أغسطس حوالي 990 ألف شخص، مما يعني أن 17 في المئة من جميع العاملين الدافعين لمساهمات الضمان الاجتماعي مسجلون في البرنامج. وتأتي ولاية بادن فورتمبيرج في المرتبة الثانية بنسبة 16 في المئة من مجموع العاملين في الولاية وبعدد يصل الى 750 ألف موظف. اما بالاعتماد على الأرقام المطلقة، فقد جاءت ولاية شمال الراين وستفاليا الأكثر اكتظاظًا بالسكان في ألمانيا في المرتبة الثانية مع 940 ألف شخص مسجل في برنامج الدوام المختصر. اما اقل الولايات التي شهدت تسجيل العمال والموظفين في برنامج العمل بدوام جزئي وبنسبة تدور حول 10 في المئة لكل منها فشملت ولايات برلين وبراندنبورج، مكلنبورج-فوربومرن، شليسفيج هولشتاين وهامبورج.
وبحسب خبير سوق العمل في معهد ifo، Sebastian Link، فإن اختلاف نسب واعداد المسجلين في برنامج الدوام الجزئي له علاقة بالصناعة السائدة في الولايات المعنية. حيث ينتشر العمل ببرنامج الدوام الجزئي في القطاع الصناعي مثل صناعة السيارات وصناعة المعدات والآلات بشكل أكبر من القطاعات الاقتصادية الأخرى واوضح Link: “في الولايات التي لديها صناعة كبيرة للسيارات والموردين لأجزاء السيارات، بالإضافة إلى صناعة المعادن وصناعة المعدات والآلات، يزداد فيها اعداد المسجلين في برنامج الدوام الجزئي”.
خسائر كبيرة متوقعة للاقتصاد الألماني بسبب النزاع حول بريكست
على خلفية النزاع المتفاقم بشأن الوصول الى اتفاقية تنظم علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي بعد خروجها منه بين المفوضية الأوروبية من جهة والحكومة البريطانية برئاسة بوريس جونسون من جهة أخرى، تتزايد المخاوف بشأن فشل المفاوضات وأثر ذلك على الاقتصاد الألماني.
واخذت المباحثات بين الاتحاد وبريطانيا منحى تصعيدي بعد ان اتهم رئيس الوزراء البريطاني الاتحاد الأوروبي بتهديد وحدة أراضي المملكة المتحدة من خلال ما سماه “فرض حصار غذائي بين بريطانيا وايرلندا الشمالية” وهو ما دفع الحكومة البريطانية، بحسب جونسون، لسن قانون (السوق الداخلية) والذي يتعارض مع بنود اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد ويعد مخالفة للقانون الدولي. ويكمن الخلاف حول جزء من اتفاقية خروج بريطانيا التي اقرتها الحكومة والبرلمان البريطاني وتنص على استمرار الحدود مفتوحة بين ايرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة وجمهورية ايرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي، بينما يتهم رئيس الوزراء البريطاني الاتحاد الأوروبي بانه “لن يكتفي بفرض رسوم جمركية على البضائع التي تنتقل من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية فحسب، بل قد يوقف أيضا نقل المنتجات الغذائية من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية”.
هذا التصعيد الذي يهدد جدياً بفشل المفاوضات وبالتالي خروج بريطانيا بدون اتفاقية لتنظيم العلاقات الاقتصادية بينها وبين الاتحاد الأوروبي سينعكس سلبا على اقتصاديات بريطانيا والاتحاد الأوروبي عامة وألمانيا بشكل خاص.
وفي هذا الصدد حذر الرئيس التنفيذي لاتحاد غرف تجارة وصناعة ألمانيا (DIHK) من عواقب خروج بريطانيا دون اتفاق على اقتصاد ألمانيا خصوصا صناعة السيارات التي تمثل الحصة الأكبر من حجم التجارة بين ألمانيا وبريطانيا، وتهديد الأخيرة بفرض تعريفات جمركية لا تقل عن ملياري يورو. من جهتهم قال 23 اتحادًا من الاتحادات الأوروبية لصناعة السيارات في بيان مشترك إن التعريفات الجمركية ستجعل السيارات أكثر تكلفة وتؤدي إلى انخفاض في الطلب، مما يعني أنه سيتعين إيقاف إنتاج حوالي 3 ملايين سيارة في السنوات الخمس المقبلة. وأضاف البيان إنه في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية العام بدون اتفاق، ستخسر صناعة السيارات الأوروبية حوالي 110 مليار يورو حتى عام 2025م. وسيتعين على الشركات التي تعمل مع او في بريطانيا العمل بداية من يناير 2021م بموجب القواعد غير التفضيلية لمنظمة التجارة العالمية، والتي تنص على تعريفات جمركية بنسبة 10 في المئة للسيارات وما يصل إلى 22 في المئة لمركبات الشحن، هذه الرسوم الإضافية أعلى بكثير من هوامش الربح في معظم الشركات المصنعة.
فعلى سبيل المثال، تستخدم شركة BMW الألمانية لصناعة سيارات ميني ورولز رويس في مصانعها في بريطانيا قطع غيار واجزاء من السيارات من جميع أنحاء القارة الاوروبية، مثل الزجاج الأمامي من ألمانيا وألواح السقف من إيطاليا. كما تقوم بتصدير ثمانية من أصل 10 سيارات ميني ورولز رويس منتجة في بريطانيا، أكثر من نصفها يتم تصديرها إلى دول الاتحاد الأوروبي. هذا يعني أن BMW ستواجه تعريفات جمركية على واردات قطع غيار وصادرات السيارات.
الى جانب صناعة السيارات الأوروبية والألمانية التي ستتأثر بقوة، ستتأثر ايضاً بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى بسبب نهاية العمل باللوائح والمعايير الموحدة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي والتي ستؤثر على سلاسل التوريد لمختلف الصناعات. إضافة الى انه لا توجد حتى الآن بنية تحتية عاملة للتخليص الجمركي على الجانب البريطاني. وسيتعرض الاقتصاد الألماني لخسائر كبيرة إذا ما خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاقية لتنظيم العلاقات الاقتصادية بينهما من واقع حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فعلى الرغم من تراجع المملكة المتحدة من المركز الثالث إلى المركز الخامس بين أهم أسواق التصدير بالنسبة لألمانيا فان بريطانيا تمثل سابع أهم شريك تجاري لألمانيا (بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين العام 2019م أكثر من 117 مليار يورو). وتحتل المملكة المتحدة المرتبة الخامسة لألمانيا من حيث الصادرات والمركز الحادي عشر بالنسبة للواردات. حيث بلغت الصادرات الألمانية الى المملكة المتحدة 78.89 مليار يورو، بينما بلغ حجم الواردات منها 38.35 مليار يورو (ارقام العام 2019م).
ولا تقتصر العلاقات الاقتصادية بين برلين ولندن على تبادل السلع والبضائع بل تتجاوزها الى الاستثمارات المتبادلة حيث وبحسب البنك المركزي الألماني كان هناك العام 2018م حوالي 2،267 شركة ألمانية يعمل بها حوالي 439 ألف موظف في المملكة المتحدة. يشمل المستثمرون الألمان في المملكة المتحدة شركات مثل سيمنز، بوش، وكذلك شركات صناعة السيارات بي إم دبليو، فولكس فاجن، دايملر، البريد الألماني، مصرف دويتشه بنك، شركة السكك الحديدية الالمانية، أيضا سلسلة محلات بيع المواد الغذائية ليدل، ألدي، شركة باير للصناعات الدوائية والكيميائية، كما بلغت الاستثمارات الألمانية المباشرة وغير المباشرة في المملكة المتحدة 137.7 مليار يورو في عام 2018م.
وبالنسبة للاستثمارات البريطانية في ألمانيا كان هناك أكثر من 1500 شركة بريطانية يعمل بها حوالي 303 ألف موظف في ألمانيا. وبلغ الاستثمار البريطاني المباشر وغير المباشر في ألمانيا 32.7 مليار يورو في عام 2018م. وينصب تركيز الاستثمارات البريطانية على الصناعات التحويلية والكيماوية والزيوت المعدنية، وتشمل الشركات البريطانية العاملة في ألمانيا شركات BP وShell وGKN وRolls Royce Germany.
العقوبات الأمريكية تعرقل استكمال أنبوب نقل الغاز الروسي (Nord Stream 2) الى ألمانيا
شددت الحكومة الامريكية خلال شهر يوليو الماضي من العقوبات المفروضة على الشركات المنفذة لأنبوب نقل الغاز الروسي لألمانيا المعروف باسم (Nord Stream 2) والتي تشمل المنع من السفر الى الولايات المتحدة الامريكية وحجز الحسابات المصرفية للشركات المنفذة. وتسعى الولايات المتحدة من سياسة العقوبات هذه الى منع استكمال انجاز الانبوب الذي سيؤدي “الى زيادة إعتماد ألمانيا وأوروبا على روسيا”، من جهة أخرى تحاول الإدارة الامريكية أيضا من خلال هذه السياسة تسويق انتاجها من الغاز الصخري في أوروبا.
إضافة الى العقوبات الامريكية دعت أوساط سياسية ألمانية الى تدخل الحكومة الاتحادية وفرض عقوبات على روسيا من خلال عدم استكمال مشروع الانبوب كرد لمحاولة تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني في برلين.
حتى الان نجحت العقوبات الامريكية والتي تم فرضها للمرة الأولى في شهر ديسمبر من العام 2019م في عرقلة استكمال الانبوب والذي تجاوز نسبة 94 في المئة في الإنجاز ولم يتبقى من مسافة 1234كيلو متر التي تمثل الطول الإجمالي للأنبوب سوى مسافة 80 كيلو متر لاستكمال المشروع (64 كيلو متر في المياه الإقليمية الدنماركية و16 كيلو متر في المياه الإقليمية الألمانية). الانبوب الذي تم البدء في تنفيذه العام 2018م سيضاف الى أنبوب آخر تم بنائه العام 2011م والمعروف باسم (1Nord Stream) والذي يمتد أيضا لمسافة 1200 كيلو متر بين روسيا وألمانيا. وتبلغ ميزانية مشروع الانبوب حوالي 12 مليار يورو تمولها خمس شركات أوروبية منها شركتان ألمانيتان (شركة Uniper وشركة Wintershall).
توقف مشروع الانبوب لا يترتب علية خسائر للشركات الممولة له فقط بل سيتعرض المستهلكون الأوروبيون للخسارة أيضا حيث سيقل المعروض من الغاز في أوروبا مما سيزيد من تكاليف استهلاك الغاز بنحو 4 مليار يورو سنويا في حال لم ينفذ المشروع.
وتوجه ألمانيا وعدد اخر من الدول الأوروبية النقد الى العقوبات الامريكية المفروضة على الشركات العاملة في المشروع من زاويتين: الأولى قائمة على خرق هذه السياسة الأمريكية للقانون الدولي والتدخل في اتفاقية بين دول مستقلة، امريكا ليست طرف فيها، مما يخرق سيادة هذه الدول. ثانيا هذه العقوبات الامريكية تضر بمصالح الشركات والمؤسسات الألمانية والأوروبية فهناك 120 شركة من 12 دولة أوروبية مهددة بالعقوبات الامريكية، من بين هذه الشركات مصارف وشركات تأمين وشركات بناء ومزودي خدمات. من جهته يعارض وزير الاقتصاد والطاقة الاتحادي الألماني بيتر التماير العقوبات الامريكية أيضا مؤكدا على عدم اعتماد ألمانيا بالكامل على الغاز الروسي وعدم صحة الدعاوى الأمريكية بارتهان ألمانيا لروسيا في مجال الطاقة بالقول “نحن غير قابلين للابتزاز “.
وتتركز المعارضة الأقوى للعقوبات الامريكية في القطاع الخاص الألماني وخصوصاً فيما تسمي “لجنة الشرق في الاقتصاد الألماني” (Ost-Ausschuss) والتي تعنى بالتجارة مع دول شرق أوروبا وروسيا وشرق اسيا والتي تضم أكثر من 350 شركة ألمانية. وقد اقترحت اللجنة فرض عقوبات مضادة ضد الولايات المتحدة الامريكية منها حظر استيراد الغاز الصخري الأمريكي وبناء مظلة أوروبية لحماية الشركات المهددة بالعقوبات الامريكية بالإضافة الى دفع الحكومة الألمانية للعمل في إطار الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على أمريكا، ودعا رئيس مجلس إدارة لجنة الشرق Oliver Hermes الولايات المتحدة الامريكية التي استوردت العام الماضي 2019م ما قيمته 12 مليار دولار من النفط والغاز من روسيا ضمن إطار تبادل تجاري بلغ 28 مليار دولار بين البلدين وبعجز تجاري امريكي مع روسيا بنحو 16 مليار دولار الى فرض عقوبات على روسيا في المجال الذي يخصها في علاقاتها التجارية معه إذا ما رأت من ضرورة لهذه العقوبات. لكن الحكومة الألمانية ترى ان الحوار وتجنب التصعيد هو الوسيلة الفضلى لحل الإشكالية مع الولايات المتحدة على ضوء المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية بين البلدين.
قمة الاتحاد الأوروبي مع الصين: شراكة اقتصادية ام علاقة تنافسية؟
كان من المخطط ان تعقد قمة يجتمع فيها جميع رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي مع رئيس الدولة الصيني شي جين بينغ، خلال شهر سبتمبر في مدينة لايبزج الألمانية قبل ان تغير جائحة كورونا هذه الخطط ويتم تأجيل اجتماع القمة الأوروبي الصيني ويتم الاستعاضة عنه باجتماع عبر دائرة تلفزيونية مغلقة جمع المستشارة الألمانية انجيلا ميركل ورئيس مجلس الاتحاد الأوروبي تشارلز ميشيل ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بالرئيس الصيني. وكانت القمة الأوروبية الصينية تهدف الى الوصول الى اتفاقية استثمار تربط بين الاقتصادين وربما في مرحلة لاحقة تصل الى انشاء منطقة تجارة حرة بين الجانبين.
الاتفاقية التي يجري التباحث حولها منذ نحو ست سنوات لم يتحقق أي اختراق كبير في طريق إنجازها خلال اللقاء، وعلى الرغم من البيان الصحفي المشترك للرئيس ميشيل والرئيسة فون دير لاين والمستشارة ميركل والذي تضمن الإشادة ” بالتقدم المحرز في المفاوضات الجارية بشأن اتفاقية الاستثمار الشامل بين الاتحاد الأوروبي والصين، لا سيما فيما يتعلق بمدونة قواعد السلوك للشركات المملوكة للدولة، وعمليات النقل الإجباري للتكنولوجيا، وشفافية الإعانات”. كما رحب البيان “بتوقيع اتفاقية بين الاتحاد الأوروبي والصين حول المؤشرات الجغرافية، والتي ستحسن الوصول إلى السوق الصينية، وخاصة للمنتجات الزراعية الأوروبية عالية الجودة”. وهي الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في 20 يوليو الماضي.
الا ان نقاط الخلاف كانت أكثر وضوحاً حيث جاء ايضاً في البيان ” شدد الاتحاد الأوروبي على أن هناك حاجة ملحة لبذل المزيد من الجهد لاستعادة الوصول العادل إلى الأسواق والتنمية المستدامة”.
وتتركز نقاط الخلاف بين الاتحاد الأوروبي والصين على عدد من الموضوعات الاقتصادية وكذلك السياسية حيث يوجه الاتحاد وكذلك رؤساء إدارات العديد من الشركات انتقادات لعدد من السلوكيات الاقتصادية والسياسية الصينية فيما يخص هونج كونج واقلية الأويغور وكورونا.
إذ لطالما كانت هناك خيبة أمل على المستوى الاقتصادي اذ ان خطاب بكين يدعي فتح أسواقها أمام المستثمرين الأجانب فيما تناقض إجراءاتها وافعالها في إصلاح الاقتصاد المحلي ذلك. كما تعتمد الصين مرة أخرى بشكل متزايد على الشركات المتضخمة المملوكة للدولة، والذي زاد خلال ازمة كورونا، بينما لا تحظى الشركات الخاصة، الصينية والأجنبية، بنفس المعاملة وبنفس الامتيازات.
يضاف إلى ذلك عدم الثقة المتزايد لدي الأوروبيين بأن بكين ستسمح في أي وقت بتطبيق قواعد المساواة في المنافسة التي تتمتع بها الشركات الصينية في أوروبا على الشركات الأوروبية في الصين. حيث أظهرت الخبرة في التعامل مع الصين في كثير من الأحيان، ان بكين وعدت بفتح أسواقها، لكنها لم تفِ بذلك. وهو ما جعل الصين بالنسبة للأوروبيين منافساً أكثر منها شريكاً.
سياسياً ادانت الحكومات الأوروبية بشدة إقرار الصين قانون أمني شديد القسوة لهونج كونج، كما أظهرت العديد من هذه الحكومات صدمتها من التقارير التي تُظهر تعمد الحكومة الصينية قمع الأقلية المسلمة في مقاطعة شينجيانغ، ووضعها في معسكرات، وإجبارها على التخلي عن لغتها وثقافتها، وحتى إجبارها على إجراء عمليات الإجهاض والتعقيم. الا إنها من جانب أخر تتمسك بالمحافظة على علاقات ودية معها. ايضاً تتمسك المستشارة الألمانية ميركل على وجه الخصوص بقناعتها بأن الشراكة مع الصين ممكنة وأنها تصب في مصلحة أوروبا الإستراتيجية، كما تتضاءل رغبة الأوروبيين في مواجهة السياسات الصينية الحمائية نحو الداخل والتوسعية نحو الخارج. وتساهم ارقام التبادل التجاري بين الجانبين في قناعة الأوروبيين بأهمية التعاون مع الصين حيث وصلت قيمة التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والصين العام 2019م الى أكثر من 560 مليار يورو، صدرت الصين سلع وبضائع الى الاتحاد الأوروبي بقيمة 362 مليار يورو واستوردت منه بحوالي 198 مليار يورو، كما تمثل الصين أكبر مصدر للبضائع والسلع الى ألمانيا والتي بلغت قيمتها العام 2019م نحو 110 مليار يورو.
من جانبها تحاول الصين التقليل من أهمية الخلافات مع أوروبا. حيث أكد سفير الصين لدى الاتحاد الأوروبي تشانغ مينغ ان الصين ترى ” الاتحاد الأوروبي كشريك على الرغم من الخلافات في الرأي”. علاوة على ذلك، فإن الهدف هو انجاز اتفاقية الاستثمار بحلول نهاية العام. كما يرى الخبراء ان الصين تضع أهمية متزايدة على الاستمرار كشريك للاتحاد الأوروبي وضرورة تعزيز هذه الشراكة خصوصا في ضوء النزاع التجاري مع الولايات المتحدة.
وبينما تحاول ميركل وميشيل وفون دير لاين الوصول الى تفاهم واتفاق مع الصين، تتحرك الشركات الأوروبية في اتجاه معاكس من خلال تقليل اعتمادها على السوق الصينية. ووفقاً للوكالة الاتحادية للتجارة الخارجية (BFAI) Bundesagentur für Außenwirtschaft، يلاحظ ان هنالك “اتجاهًا متزايدًا نحو نقل الإنتاج خارج الصين”. أحد أسباب هذا الانتقال هو جائحة كورونا، حيث ” كشفت الأزمة عن ضعف سلاسل التوريد”، فمنذ أن تعطلت سلاسل التوريد بسبب الإغلاق المفاجئ للحدود خلال الأزمة، بدأ “البحث المحموم عن موردين بديلين”. ويرى عدد من الخبراء ان ” العديد من الشركات تعمل على تنويع سلاسل الإنتاج والإمداد الخاصة بها”. وتستفيد دول جنوب شرق آسيا على وجه الخصوص من هذا. والى جانب فيروس كورونا ساهم النزاع التجاري أيضًا بين الولايات المتحدة والصين في ذلك.