استمر مناخ الاعمال للشركات الألمانية في شهر مايو على نفس مستوى الشهر السابق تقريبًا حيث استقر مؤشر ifo عند مستوى 89.3 نقطة. ويرجع ذلك الى ان الشركات أبدت رضا أقل عن المستوى الحالي لأعمالها، لكنها في المقابل، رفعت من توقعاتها لمستوى الاعمال خلال الأشهر القادمة مدفوعة ببدء تعافي قطاعات الصناعة والتجارة والبناء. ويؤشر استقرار مناخ الاعمال وتحسن توقعات الاعمال للفترة القادمة ان الاقتصاد الألماني بدأ يخرج تدريجياً من الأزمة.

     في قطاع الصناعة، تحسن مناخ الأعمال للمرة الثالثة على التوالي حيث سجل مؤشر المناخ في هذا القطاع في مايو مستوى (-6.2 نقطة) مرتفعا من مستوى (-8.6 نقطة) المسجل في الشهر السابق. وقد أبدت الشركات العاملة في قطاع الصناعة رضا أكبر بشكل ملحوظ عن الأعمال الجارية. كما أن التوقعات للأشهر المقبلة كانت أقل تشاؤماً مقارنة بالشهر السابق حتى وان كان هناك تراجع مستمر في حجم الطلبات.

     وعلى العكس من هذا الاتجاه، شهد مؤشر مناخ الاعمال في قطاع الخدمات تراجعاً فقد سجل المؤشر في شهر مايو مستوى 1.8 نقطة منخفضا عن المستوى المسجل في شهر أبريل الماضي والذي بلغ 3.2 نقطة. ونتج ذلك بسبب ان تقييم الشركات لمستوى اعمالها الحالي كان أقل إيجابية، وبالرغم ايضًا من ان توقعات الاعمال المستقبلية تحسنت قليلاً، إذ أبلغت الشركات عن تلقي طلبات إضافية.

     في قطاع التجارة، ارتفع المؤشر بشكل ملحوظ ووصل في مايو الى مستوى ( -16.9 نقطة) بعد ان كان عند مستوى ( -22 نقطة) في الشهر السابق. ويرجع تحسن مناخ الاعمال في هذا القطاع بدرجة رئيسية الى تحسن تقييم الشركات لوضع اعمالها في الوقت الحاضر وكذلك للتحسن الكبير لتوقعات مستوى الاعمال خلال الأشهر القادمة مقارنة بمستوى التوقعات في الشهر السابق التي كانت أقل إيجابية. وقد قادت تجارة الجملة هذا التحسن الكبير في مناخ الاعمال في مجمل القطاع.

     كذلك تحسن مناخ الاعمال في قطاع البناء مرة أخرى حيث سجل المؤشر في مايو مستوى ( -26 نقطة) مرتفعًا عن مستوى ( -28.9 نقطة) المسجل في شهر ابريل. وقد أبدى رجال الأعمال في هذا القطاع رضا أكبر عن مستوى الأعمال الجارية، كما كانت توقعات الاعمال للأشهر الثلاثة القادمة أقل تشاؤماً بعض الشيء، بينما لا يزال نقص الطلبات يمثل مشكلة رئيسية للعديد من الشركات.

     في سياق متصل، وبحسب مكتب الإحصاء الاتحادي سجل الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من العام 2024م، نموًا بنسبة 0.2 في المئة مقارنةً بالربع السابق، ومن المتوقع أن يؤدي انخفاض أسعار الطاقة وزيادة الاستهلاك إلى تحقيق نمو أكبر خلال الفترة القادمة. الا ان تقرير مكتب الإحصاء افاد أيضا انه وبمراجعة نتائج الربع الرابع من عام 2023م، اتضح ان الاقتصاد الألماني انكمش بنسبة 0.5 في المئة في هذا الربع وليس بنسبة 0.3 في المئة كما كان يُعتقد سابقًا وهذا يعني أن الاقتصاد الألماني قد انكمش في مجمل العام 2023م، بنسبة 0.2 في المئة.

     ويعود النمو في الربع الأول من العام الحالي، بالرغم من ان الخبراء كانوا يتوقعون انكماش الاقتصاد في هذا الربع، الى زيادة الصادرات وكذلك زيادة الاستثمارات في قطاع البناء.  وكانت الحكومة الاتحادية قد رفعت توقعاتها لنمو الاقتصاد في العام 2024م، بشكل طفيف، الى 0.3 في المئة.  وقال وزير الاقتصاد الاتحادي، روبرت هابيك “الأمور تتحسن خطوة بخطوة”. ولكن لا يُتوقع تحقيق معدلات نمو ملحوظة في ألمانيا في المستقبل القريب بسبب العقبات الهيكلية، حيث تقدّر الحكومة أن إمكانيات النمو في ألمانيا خلال السنوات القليلة القادمة ستكون في حدود 0.6 في المئة سنويًا.  من جانبه أشار التقرير الشهري الصادر عن البنك المركزي الألماني الى أن الاقتصاد الألماني ليس على وشك انتعاش دائم. “لقد تحسنت الأوضاع الاقتصادية في ألمانيا قليلاً، لكن انتعاشاً شاملاً لم يتأكد بعد”، وأعاد التقرير السبب الى ان تكاليف التمويل المرتفعة وزيادة عدم اليقين الاقتصادي والسياسي أدت إلى كبح نشاط الاستثمار للشركات، كما ان الطلب على السلع من الداخل والخارج لا يزال ضعيفًا، بالإضافة الى أن الاتجاه السلبي في الطلب على بناء المساكن لم ينكسر بعد.

     وعلى العكس من ذلك، أكد بعض الخبراء الاقتصاديين ان هنالك مؤشرات متزايدة أن الانتعاش المرتقب في ألمانيا بدأ يتجسد ببطء. وقالت Geraldine Dany-Knedlik، رئيسة قسم التوقعات والسياسات الاقتصادية في المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية (DIW)، “على الرغم من أنه لا يزال من المبكر جدًا الشعور بالتفاؤل الكبير، إلا أن الآفاق تبدو أفضل بكثير مما كانت عليه مؤخرًا”.

وتنعقد الآمال على العديد من القطاعات الاقتصادية، لا سيما تلك التي أثارت القلق مؤخرًا. حيث تشير أحدث بيانات الصادرات إلى انتعاش كبير في الأعمال التجارية مع الصين، التي كانت في تراجع سابقًا. فبحسب مكتب الإحصاء الاتحادي ارتفع إجمالي الصادرات في شهر مارس 2024م، بنسبة 0.9 في المئة مقارنة بفبراير، وارتفعت الصادرات إلى الصين بنسبة 3.7 في المئة.

     علاوة على ذلك تحسن الاستهلاك المحلي الذي يمثل جزءًا كبيرًا من الأداء الاقتصادي والذي عانى بشكل خاص في العامين الماضيين بسبب التضخم المرتفع. وعلى الرغم من أن معنويات الاستهلاك لا تزال دون المستوى المعتاد، الا ان المستهلكين الألمان أصبحوا أكثر تفاؤلاً بشكل لم يحدث منذ عامين بفضل تراجع التضخم، حيث سجل معدل التضخم في شهر أبريل 2024م، مستوى 2.2 في المئة وهو المعدل الأدنى منذ أبريل 2021م، عندما كان عند مستوى 2 في المئة. وكان هذا المعدل قد وصل الى 3.7 في المئة في شهر ديسمبر 2023م، ويتراجع بشكل مطرد منذ ذلك الحين. وقد ارتفع مؤشر مناخ الاستهلاك، الذي يصدره معهد أبحاث السوق (GfK)، بشكل غير متوقع في شهر مايو بمقدار 3.1 نقطة ليصل إلى ( -24.2 نقطة)، وهذا هو الارتفاع الثالث على التوالي والذي انعكس في أحدث بيانات تجارة التجزئة في شهر مارس، حيث زادت مبيعات التجزئة الألمانية بنسبة 1.8 في المئة مقارنة بالشهر السابق، وهذه أكبر زيادة شهرية منذ نوفمبر 2021م.  ومن المحتمل أيضا أن يلعب تطور أسعار الفائدة دورًا رئيسيًا في انتعاش الاقتصاد، سواء بدأ البنك المركزي الأوروبي بخفض أسعار الفائدة كما أُشير في يونيو القادم أو في وقت لاحق، فإن مستوى الفائدة وتكاليف الاقتراض ستنخفض، وهذا ما ينعكس بالفعل ايجابيًا على مستوى أعمال واستثمارات الشركات.

سوق العمل: تراجع عدد العاطلين عن العمل وتزايد نسبة النساء في المهن التي يهيمن عليها الرجال

     انخفض عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا في شهر أبريل مقارنة بشهر مارس بمقدار 20 ألف شخص وتراجع اجمالي عدد الأشخاص بدون عمل الى 2.750 مليون شخص. وبالمقارنة مع نفس الشهر من العام الماضي زاد عدد العاطلين عن العمل بنحو 164 ألف شخص. وظلت نسبة البطالة في شهر أبريل دون تغيير مقارنة بشهر مارس عند نسبة 6 في المئة. ومقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، ارتفعت هذه النسبة بمقدار 0.3 نقطة مئوية. وأرجعت وكالة العمل الاتحادية (BA)، الانخفاض المحدود نسبيًا في عدد العاطلين عن العمل إلى ضعف انتعاش سوق العمل والذي عادة ما يشهده خلال فترة الربيع من كل عام والناتج بشكل أساسي عن ضعف أداء الاقتصاد الألماني خلال الفترة الماضية.

     وتعليقا على بيانات سوق العمل في شهر أبريل قال Daniel Terzenbach، عضو مجلس الإدارة في وكالة العمل الاتحادية (BA)، “لا يزال سوق العمل يفتقر إلى الرياح الاقتصادية المواتية ولذلك يظل انتعاش الربيع ضعيفًا، وعلى الرغم من أن الاقتصاد الألماني لم يتمكن من تحقيق نمو كبير لمدة عامين، إلا أن الوضع في سوق العمل لا يزال قوياً”.

     وفي جانب العمل بدوام جزئي سجلت الشركات الألمانية خلال الفترة من 1 إلى 24 أبريل نحو 61 ألف موظف جديد في البرنامج، أي بزيادة تقدر بأكثر من الربع مقارنة بنفس الفترة من الشهر السابق. وبحسب أحدث بيانات وكالة العمل الاتحادية فقد بلغ اجمالي عدد الموظفين المستفيدين من برنامج العمل بدوام جزئي في شهر فبراير 2024م، حوالي 204 ألف موظف، مقارنة بـ 190 ألف موظف في يناير 2024م و146 ألف موظف في ديسمبر 2023م.

     من جانب أخر، تراجع الطلب على العمالة بشكل محدود في شهر أبريل 2024م، حيث بلغ عدد الوظائف الشاغرة المسجلة لدى وكالة العمل نحو 701 ألف وظيفة شاغرة وهو ما يقل بـ 72,000 وظيفة بالمقارنة مع نفس الشهر من العام الماضي، ومع هذا التراجع فان مستوى الوظائف الشاغرة لا يزال عند مستوى عالٍ.

      في سياق متصل، وفي جانب التغيرات التي حدثت في نسبة وجود النساء في المهن المعروفة تقليديًا بانها مهن ذكورية بالدرجة الأولى، أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي ان مساهمة النساء في المهن التقنية لا تزال محدودة، وكذلك نسبة الرجال العاملين في مجال رعاية المسنين. لكن هذا الوضع يتغير بشكل متزايد، حيث تضاءلت الفوارق بين الجنسين في اختيار المهن بين النساء والرجال في السنوات العشر الماضية، فقد ارتفعت نسبة النساء في مجال البحث والتطوير التقني في عام 2023م، إلى 18 بالمئة، بينما كانت قبل عشر سنوات عند حدود 11 في المئة. وفي مجال علوم الحاسوب، بلغت نسبة النساء العاملات في هذا المجال حوالي 18 بالمئة مقارنة بـ 14 بالمئة في عام 2013م. وشهدت مجالات أخرى مثل الزراعة والغابات وصيد الحيوانات ورعاية المحميات الطبيعية تطورات مشابهة، حيث ارتفعت نسبة النساء من 10 بالمئة في عام 2013م، إلى 19 بالمئة حاليًا. وفي مجال العمل في الشرطة والمؤسسات العقابية مثل السجون، ارتفعت نسبة الموظفات من 20 بالمئة إلى أكثر من 28 بالمئة، أي ما يعادل 97,000 موظفة.

     على الجانب الآخر، تم ملاحظة اتجاه لزيادة مشاركة الرجال في بعض المهن التي كانت تقليديًا تُختار من قبل النساء. على سبيل المثال، ارتفعت نسبة الرجال في مهن العناية الشخصية بمقدار ثماني نقاط لتصل إلى 18 بالمئة. وبلغ عدد الرجال العاملين في مجال رعاية المسنين، 103,000 رجل، لترتفع بهذا نسبتهم من اجمالي العاملين في القطاع من حوالي 13 إلى 17 بالمئة. وفي مجال بيع المواد الغذائية، وصلت نسبة الرجال في القوة العاملة في هذا القطاع إلى 23 بالمئة بعد أن كانت 14 بالمئة قبل عشر سنوات.

أكبر تراجع في مشاريع الاستثمار الأجنبي في ألمانيا منذ 10 سنوات

     أعلنت الشركات الأجنبية في العام 2023م، عن 733 مشروعًا استثماريًا فقط في ألمانيا، وهذا هو أقل عدد من المشاريع منذ عشر سنوات، وأقل بنسبة 12 في المئة مقارنة بالعام السابق. ومنذ عام 2017م، انخفض عدد الاستثمارات الأجنبية في أكبر اقتصاد في أوروبا بنسبة 35 في المئة، بينما ارتفعت هذه الاستثمارات في فرنسا في نفس الفترة بنسبة 20 في المئة. وبحسب دراسة لشركة EY للاستشارات فقد بلغ عدد مشاريع الاستثمار الأجنبية في جميع أنحاء أوروبا، حوالي 5694 مشروع استثماري من قبل مستثمرين أجانب في العام الماضي، وهو ما يمثل انخفاضًا طفيفًا بنسبة أربعة في المئة عن مستوى الاستثمارات في العام 2022م. واستمرت فرنسا في احتلال المركز الاول بين الدول الأوروبية في عدد مشاريع الاستثمار للشركات الأجنبية ، على الرغم من انخفاض عدد مشاريع الاستثمارية الجديدة بنسبة خمسة في المئة إلى 1194مشروع في العام 2023م، بالمقارنة بالعام الذي قبله فيما تحتل المملكة المتحدة المركز الثاني، حيث ارتفع عدد المشاريع في 2023م بنسبة ستة في المئة لتصل إلى 985 مشروع بينما جاءت ألمانيا في المركز الثالث بنحو 733 مشروع.

     ويتضح من هذه الأرقام تراجع ثقة المستثمرين في ألمانيا كموقع استثماري ليس فقط من خلال عدد المشاريع، ولكن أيضًا من خلال مبالغ الاستثمار. حيث اظهر تقرير صادر عن معهد الاقتصاد الألماني (IW) ارتفاع استثمارات الشركات الألمانية في الخارج بدلا عن توظيفها في الاقتصاد المحلي، فبعدما وصل صافي الاستثمار الخارجي للشركات الألمانية إلى مستويات قياسية في عامي 2021م و2022م، تباطأ في العام الماضي 2023م، لكنه وصل إلى 94 مليار يورو، وهو ثالث أعلى قيمة لاستثمارات هذه الشركات على المستوى العالمي. ولم تكن الاستثمارات الخارجية للشركات المحلية على مستوى العالم أعلى سوى في اليابان.

     ووفقًا لدراسة شركة EY فانه ومع تراجع استثمارات الشركات الأجنبية في ألمانيا سارت الشركات الصينية في عكس الاتجاه حيث ارتفعت استثماراتها في ألمانيا العام 2023م، بنسبة 16 في المئة إلى 99 مشروع، وهذا يجعل الصين ثاني أهم مستثمر في ألمانيا بعد الولايات المتحدة. الا ان الاستثمارات الصينية تثير مناقشات في ألمانيا حول تأثير الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية الشمولية على ألمانيا وقيمها، وهو ما تسبب في حالات كثيرة بحظر الحكومة الاتحادية بعض المشاريع أو الموافقة عليها بشروط معينة. بالإضافة الى تزايد المخاوف مؤخرًا بشأن أمن ألمانيا، الذي يرى بعض الخبراء والمحللين أنه مهدد من خلال الاستثمارات الصينية، خصوصا بعد توجيه الاتهامات لبعض السياسيين من أحزاب اليمين بالتجسس لصالح الصين.

     وبالمقارنة بين ألمانيا وفرنسا التي تحتل المركز الأول في أوربا في عدد استثمارات الشركات الأجنبية مع 1223 مشروع استثماري، فان فرنسا أقل بنسبة 30 في المئة في القوة الاقتصادية مقارنة بألمانيا، ويقطنها 20 في المئة أقل من السكان، لكن فرنسا جذبت حوالي 50 في المئة أكثر من المشاريع الاجنبية مقارنة بأكبر اقتصاد أوروبي. ويعود ذلك الى النجاح الذي حققته فرنسا في جانب الإصلاحات الاقتصادية، ويشمل ذلك إلغاء ضريبة الثروة، كما تم تعزيز مرونة سوق العمل وتخفيض ضريبة الشركات. كما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن تسهيلات في القروض للتكنولوجيات المستقبلية وتسريع إقامة الصناعات، حيث يفترض أن يتم إصدار تصاريح البناء المناسبة في غضون تسعة أشهر كحد أقصى، بينما في ألمانيا يكون الوقت اللازم لإصدار هذه التراخيص عادة أطول بكثير. وقد أدت هذه الإصلاحات الى جذب الشركات الأجنبية بما فيها الشركات الألمانية إذ مع 183 مشروع استثماري، تحتل ألمانيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة كأكبر مستثمر في فرنسا. وعلى العكس من ذلك، قليلًا ما تستثمر الشركات الفرنسية في ألمانيا، فقد تم تسجيل 30 مشروعًا استثماريًا فقط للشركات الفرنسية في ألمانيا خلال عام 2023م.

     وليست فرنسا هي المنافس الوحيد لألمانيا في مجال جذب استثمارات الشركات الأجنبية ولكن تأتي أيضا الولايات المتحدة كالمنافس الأكبر، فمن اجل التخفيف من آثار جائحة كورونا وارتفاع الأسعار، أطلقت الولايات المتحدة حزمة تحفيز اقتصادية تبلغ قيمتها تريليون دولار، ومع “قانون خفض التضخم” الذي أطلقته إدارة الرئيس جو بايدن في أغسطس من العام الماضي، تعزز الولايات المتحدة مركزها كموقع للاستثمار من خلال تقديم إعفاءات ضريبية كبيرة للاستثمارات في التكنولوجيا الخضراء، وهو ما يقلل من تكاليف الإنتاج ويجذب المستثمرين، فمثلًا، تحصل السيارات الكهربائية الجديدة المصنوعة في الولايات المتحدة على إعفاءات ضريبية تصل إلى 7500 دولار. كما ان لحزمة التحفيز الاقتصادية الامريكية أيضا تأثير مزدوج فهي لا تؤثر فقط على زيادة جاذبية الولايات المتحدة بالنسبة للمستثمرين الأجانب ولكنها أيضا تقلل من استثمارات الشركات الامريكية في الخارج، فعلى الرغم من ان الشركات الأمريكية ظلت تمثل أهم المستثمرين في أوروبا العام الماضي، لكن عدد مشاريعها الاستثمارية تقلص بنسبة 15 في المئة. أما في ألمانيا، فقد تراجعت الاستثمارات الامريكية بنسبة 22 في المئة مقارنة بالعام 2022م.

زيادة قياسية في عدد الطلاب الأجانب في ألمانيا

     شهد العالم خلال السنوات الماضية، خصوصا بعد جائحة كورونا، تراجع العولمة في العديد من المجالات، الا ان مجال التعليم والبحث العلمي ما يزال الاستثناء في هذا الجانب حيث نما مستوى تبادل الطلاب الدوليين بدرجة كبيرة ليس من ناحية العدد فحسب ولكن أيضا من ناحية البلدان التي        يتوجه اليها هؤلاء الطلاب حيث لم تعد الدول الكلاسيكية في مجال التعليم مثل الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، وألمانيا الوحيدة التي تجذب الطلاب المتميزين من الخارج. فقد قامت دول مثل قيرغيزستان، بولندا، المغرب، كوريا الجنوبية وحتى منطقة ماكاو الإدارية الخاصة في الصين، بتوسيع عروضها التعليمية بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية. فعلى سبيل المثال ارتفع عدد الطلاب الأجانب في الجامعات والمؤسسات التعليمية في قيرغيزستان خلال الفترة 2013-2022م، بنسبة 617 في المئة وفي بولندا بنسبة 230 في المئة وفي مكاو في الصين بنسبة 203 في المئة وفي المغرب بنسبة 137 في المئة وفي كوريا الجنوبية بنسبة 122 في المئة.

     في ألمانيا، وبعد ان حقق عدد الطلاب الأجانب رقمًا قياسيًا في الفصل الدراسي الشتوي 2022/2023م بلغ 370 ألف طالب وطالبه يقدر المكتب الألماني للتبادل الأكاديمي (DAAD) أن يصل عددهم إلى مستوى قياسي جديد في الفصل الدراسي الشتوي 2023/2024م، بحوالي 390 ألف طالب وطالبة. وبهذا الرقم تحتل ألمانيا المرتبة الثالثة على مستوى العالم ضمن دائرة أكثر الدول مطلوبة للدراسة متقدمة على استراليا ومتأخرة فقط عن الجامعات والمؤسسات البحثية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التي تجذب أعداداً أكبر من الدارسين والطلاب الدوليين، حيث بلغ عدد الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة الامريكية في العام الدراسي 2022م، نحو 833 ألف طالب وطالبة وفي المملكة المتحدة 601 ألف طالب وطالبة تقريبًا.  

      وبحسب مؤسسة DAAD فان الزيادة الأكثر وضوحاً كانت في عدد الطلاب الدوليين الجدد في الجامعات الألمانية حيث تم تسجيل ما يقرب من 92,000 شاب وشابة من جميع أنحاء العالم لأول مرة في الجامعات الألمانية في الفصل الشتوي 2023/2024م، مقارنةً بـ 80,000 طالب وطالبة في الفصل الدراسي الشتوي 2022/2023م. ويعادل ذلك زيادة بنسبة تصل إلى 15 في المئة.

     من جانب أخر لم يتغير فقط عدد الدول التي تسعى لجذب الطلاب من الخارج والتي تزايدت خلال أخر عشر سنوات بدرجة كبيرة، ولكن أيضًا تغيرت خريطة الدول التي يأتي منها هؤلاء الطلاب بشكل كبير، ففي ألمانيا، تجاوز عدد الطلاب القادمين من الهند لأول مرة عدد الطلاب القادمين من الصين، والتي كانت لسنوات عديدة تتصدر قائمة الدول المرسلة للطلاب الأجانب الى ألمانيا. كذلك ومن ضمن الدول الخمسة عشر الأكبر في عدد الطلاب في الجامعات الألمانية، لم يعد هناك سوى أربع دول من الاتحاد الأوروبي، أما البقية من الطلاب فتأتي من دول خارج الاتحاد الأوروبي، وعلى سبيل المثال، يدرس الآن عدد أكبر من الشباب المغاربة في الجامعات الألمانية أكثر من الطلاب الفرنسيين. وإذا ما كان هذا الأمر يمثل مؤشر جيد للعلاقات الألمانية مع المغرب الا انه لا يمثل ذلك بالنسبة للعلاقات الألمانية الفرنسية. تجدر الإشارة الى ان عدد الطلاب العرب في الجامعات الألمانية بلغ 71 ألف طالب وطالبة تقريبًا خلال الفصل الشتوي 2022/2023م، ويشكلون نسبة 19.3 في المئة من الطلاب الأجانب.

     وقال البروفيسور Joybrato Mukherjee، رئيس DAAD “هذا نجاح كبير لنظام التعليم العالي الممول من القطاع العام لدينا”، وأضاف “أن هذا يمثل أيضاً فرصة كبيرة، حيث أن الطلاب الدوليين هم مهاجرون مؤهلون بشكل ممتاز وغالباً ما يكون لديهم اهتمام كبير بالبقاء لفترة طويلة أو حتى بشكل دائم في ألمانيا بعد إتمام دراستهم. ” مشددا ايضًا على انه “في أوقات النقص المتزايد في الكفاءات، ينبغي لنا في مجالات العلوم والاقتصاد والمجتمع أن نفعل المزيد لإقناع هؤلاء الشباب والمواهب بألمانيا وإبقائهم في البلاد حيث يمكن ان تساعد هذه المواهب المؤهلة ككفاءات مطلوبة بشدة في ضمان القدرة على الابتكار والازدهار في بلدنا”.

     وتزداد أهمية الطلاب الأجانب بالنسبة للاقتصاد الألماني مع معرفة ان أكثر من نصف الطلاب الذين يأتون إلى ألمانيا يدرسون التخصصات المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، والتي يطلق عليها اختصارًا اختصاصات “MINT“، والتي تمثل أهمية خاصة للاقتصاد الذي يعتمد بشكل كبير على الصادرات والمنتجات الصناعية ذات التقنيات المتقدمة.

      وأشار Michael Flacke، الخبير في DAAD الى ان ” أكثر من ثلث الطلاب الأجانب يبقى لفترة طويلة بعد التخرج للعمل في ألمانيا”، وتعد هذه النسبة مرتفعة جدا ولا يوجد بلد أخر في العالم يسجل معدل أعلى في الاحتفاظ بالخريجين الأجانب المؤهلين الا كندا. وهذا يمثل ميزة هائلة لجذب الكفاءات العالية للعمل وبناء الشركات الناشئة في ألمانيا، معتبرًا ان “من يعارض وجود الأجانب مثل اليمين المتطرف، يقوم بتعطيل ازدهار ألمانيا”.

اعتماد متبادل بين الصين وأوروبا

     تعتمد أوروبا في مجالات عديدة مثل المعادن الأرضية النادرة والمنتجات الإلكترونية على الواردات من الصين والتي تحتكر إنتاج وبيع العديد من الخامات الأولية الهامة بدرجة تصل الى أكثر من 80 في المئة من الإنتاج العالمي كما هو الحال في انتاج المواد الخام مثل البراسيوديميوم، النيوديميوم، التيربيوم، والديسبروسيوم، التي تشكل جزءًا أساسيًا لا غنى عنه في تصنيع المحركات الكهربائية وتوربينات الرياح، حيث تحتكر الصين إنتاج وتجارة هذه المواد بنسبة 87 في المئة. هذا بالإضافة الى طيف واسع من المواد الخام والمواد الصناعية الأولية التي تجعل استبدال أو استغناء الشركات الصناعية الأوروبية عن وارداتها من الصين مسألة غير ممكنه في المستقبل المنظور.

       لكن هذا الاعتماد الأوروبي على المنتجات الصينية لا يمر في اتجاه واحد بل يقابله ايضًا اعتماد صيني كبير على عدد من المنتجات الأوروبية، أذ اوضحت دراسة أجراها اتحاد أبحاث الطاقة الرقمية في الصين (DPC)، وهو تجمع للخبراء والمهندسين الصينيين العاملين في ثماني مؤسسات بحثية وجامعات أوروبية. أن هناك أيضًا العديد من المنتجات والتقنيات التي تعتمد الصين بدرجة رئيسية على وارداتها من أوروبا.

     وركزت الدراسة على البحث على التقنيات الأوروبية التي تلعب “دورًا لا غنى عنه في النظام البيئي التكنولوجي الصيني”. بالإضافة الى حساب التكلفة التي قد تتحملها الصين في حالة انقطاع توريد هذه التقنيات في حالة أي خلاف أو صراع محتمل مع أوروبا، على سبيل المثال في حالة حصول هجوم عسكري صيني على تايوان. وقد خلصت الدراسة الى ان اهم التقنيات التي تتمتع فيها أوروبا بتقدم كبير على الصين تشمل التالي:

  • أنظمة الطباعة الحجرية: تُستخدم هذه التقنية في تصنيع أشباه الموصلات. وحسب الدراسة، فإن الشركة الهولندية لصناعة أجهزة الطباعة الحجرية، Advanced Semiconductor Materials Lithography (ASML)، هي أكبر مزود في العالم لأنظمة الطباعة الحجرية لصناعة أشباه الموصلات، وتحتكر حاليًا مجال انتاج أجهزه الطباعة الحجرية الأكثر تقدمًا، وهي أجهزة المسح بالأشعة فوق البنفسجية القصوى (Extreme Ultraviolet – EUV). وتمكن هذه التقنية من انتاج أشباه الموصلات الأكثر دقة وكفاءة والأكثر صغرا بمقاييس 7 نانومتر و5 نانومتر وأيضا مقاييس 3 نانومتر، وتستخدم اشباه الموصلات من هذه المقاييس في الأجهزة والتقنيات التي تستخدم الذكاء الصناعي والتطبيقات العسكرية. لكن اعتماد الصين على التقنيات الاوروبية في عملية الطباعة الحجرية يتجاوز شركة ASML ليشمل أيضًا موردي الأنظمة البصرية والليزر والعديد من التقنيات الأخرى الضرورية للتقدم في مجال الطباعة الحجرية. وتزيد اعتمادية الصين على هذه التقنيات الأوروبية بالنظر الى الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على بيع أجهزة الطباعة الحجرية بتقنيات الأشعة فوق البنفسجية إلى الصين في خضم التنافس التجاري بين البلدين، هذا بالإضافة الى قدرة شركة ASML على إيقاف التشغيل عن بعد لأجهزة الطباعة الحجرية التي تستخدم هذه التقنيات.
  • تطبيقات الاستشعار الكمي: تحتل أوروبا ايضًا موقعًا متقدمًا في تطبيقات الاستشعار الكمي في مجال الرعاية الصحية، حيث تُستخدم هذه التقنية في تشخيص امراض السرطان. وتشير الدراسة إلى أن القدرات التكنولوجية الأوروبية في مجال الاستشعار الكمي “أكثر تطورًا بكثير” من نظيرتها الصينية. كما ان أوروبا تسعى الى الحفاظ على هذا التفوق في هذه التقنية من خلال اتخاذ تدابير للحد من تسرب التكنولوجيا، وكذلك الاستثمار في الحفاظ على هذا التفوق أيضا من خلال دعم الابحاث وعمليات التطوير في أوروبا.

أداء الطاقة لشبكات الاتصالات اللاسلكية: وفقًا للباحثين، تتمتع أوروبا بتفوق تكنولوجي على الصين في مجال أضافي وهو في أداء الطاقة لشبكات الاتصالات اللاسلكية المستقبلية، مثل شبكات 5G و6G. حيث تشير الدراسة إلى أن الشبكات اللاسلكية هي العمود الفقري للثورة الرقمية في كل من أوروبا والصين، ولتحقيق أفضل استغلال اقتصادي لهذه الشبكات يجب توصيل عدد متزايد من الأجهزة وأجهزة الاستشعار والتي ستؤدي الى زيادة سريعة في حركة البيانات وبالتالي إلى زيادة كبيرة في احتياجات الطاقة للشبكات اللاسلكية، لذا فإن الحلول والتقنيات التي تساهم في تقليل استهلاك الطاقة تعتبر ذات أهمية كبيرة، وتتمتع أوروبا بتقنيات أكثر ابتكارًا وتقدما في هذا المجال من التقنيات التي تمتلكها الصين وهو ما يربط الصين أيضا ويزيد اعتمادها على الشركات الأوروبية في هذا الجانب.