يتزايد الارتباط والاعتمادية المتبادلة بين مختلف اقتصاديات الدول في الوقت الحاضر يوما بعد يوم، وهو الامر الذي يحمل إيجابيات كثيرة لهذه الاقتصاديات ولكنة يحمل جوانب سلبية أيضا، وهو ما أظهرته بشكل واضح ازمة كورونا والتي تسببت في قطع واعاقة سلسلة التوريد العالمية، كما تدخل ضمن سلبيات سلاسل التوريد العالمية عدم تساوى ظروف الإنتاج والتصنيع بشكل هائل بين مختلف الدول واضطرار بعض الدول، ومن اجل رفع القدرة التنافسية لمنتجاتها في الأسواق العالمية، الى تجاهل معايير حماية البيئة واحترام حقوق العمال. ومع استمرار هذه الممارسات والانتقادات المتزايدة لها بدأت عدد من الدول الصناعية الكبرى في محاولة تصحيح هذا الوضع والدفع نحو التزام الدول الموردة للمواد الأولية والسلع الوسيطة الى الالتزام بحماية البيئة وحقوق الانسان، ومثلت عملية سن قوانين ملزمة أحد اهم هذه الخطوات في هذا الاتجاه، وهو ما اتخذته ألمانيا مؤخراً عبر إقرارها لقانون سلسلة التوريد.
اندماج ألمانيا في سلاسل التوريد العالمية
أدت عولمة الدورات الاقتصادية إلى نقل الشركات العديد من خطوط الإنتاج إلى بلدان مختلفة حول العالم بشكل عام والى بلدان العالم النامي بشكل خاص، حيث الأجور المتدنية والمواد الخام الرخيصة. فعلى سبيل المثال الفاكهة التي يتم استهلاكها في ألمانيا تأتي من إفريقيا أو أمريكا الجنوبية، والشوكولاتة من ساحل العاج والقهوة من البرازيل والملابس مصنوعة في آسيا، وتحتوي بطاريات السيارات والهواتف المحمولة على معدني الكوبالت والكولتان من مناجم الكونغو. لقد توسعت عملية الإنتاج المعولم هذه الى ان أصبحت حوالي 80 في المئة من التجارة الدولية تعتمد الآن على سلاسل التوريد العالمية.
وتعد ألمانيا من أكثر الدول الصناعية المندمجة بشكل وثيق في سلاسل التوريد الدولية، فبحسب تقرير لوزارة التنمية والتعاون الاقتصادي حققت شركات التصدير الألمانية التي يبلغ عددها حوالي 320 ألفًا، في عام 2020م وحده، مبيعات بلغت 1205 مليار يورو، كما تنشط أكثر من 775 ألف شركة ألمانية في التجارة الدولية من خلال الواردات والتي بلغت قيمتها أيضاً في نفس العام 1025 مليار يورو. بالإضافة الى ذلك تعتمد العديد من القطاعات الاقتصادية، وخاصة الصناعية منها، على المواد والمنتجات الأولية المستوردة حيث تعتمد صناعة النسيج في انتاجها على 63 في المئة من المنتجات الأولية المستوردة، صناعة الإلكترونيات (45 في المئة)، الصناعات الكيميائية والصيدلانية (39 في المئة)، صناعة الأغذية (37 في المئة)، صناعة السيارات (29 في المئة) صناعة الآلات والمعدات (28 في المئة). وبشكل عام، استوردت الشركات الألمانية في العام 2019م منتجات وسيطة بقيمة 606 مليار يورو، وهو ما يمثل نسبة 55 في المئة من اجمالي الواردات الى ألمانيا.
بالنسبة لألمانيا، تعتبر دول الاتحاد الأوروبي الأخرى أهم موردي المنتجات الأولية، حيث ان أكثر من 62 في المئة من البضائع الوسيطة المستوردة تأتي من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. وتأتي هولندا في المرتبة الأولى بنسبة تبلغ 13 في المئة. ومع ذلك، لا يعكس هذا الرقم حقيقة أن العديد من المنتجات الأولية، التي تأتي الى المانيا عبر ميناء روتردام الهولندي، تأتي بالفعل من أجزاء أخرى من العالم.
وبشكل اجمالي يأتي ثلث الواردات الألمانية من المواد الاولية والسلع الوسيطة من دول خارج الاتحاد الأوروبي، وتمثل الولايات المتحدة بنسبة 5.3 في المئة من الواردات، أكبر دولة مصدرة للسلع الوسيطة الى المانيا وتأتي الصين في المرتبة الثانية بنسبة 5 في المئة (ارقام العام 2019م). كما تأتي نسبة 16 في المئة من واردات ألمانيا من المواد الأولية والسلع الوسيطة من عدد واسع من الدول.
ولتحديد أهمية المنتجات الأولية الأجنبية بدقة أكبر في تصنيع المنتجات الألمانية، يجب العودة الى بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD والمتاحة فقط لعام 2015م، بسبب الحسابات المعقدة، والتي تؤكد بشكل عام، ان 23 في المئة من القيمة المضافة للسلع والخدمات الألمانية تأتي من الخارج. وتختلف نسبة مشاركة المواد الأولية او السلع الوسيطة الأجنبية في نسبة القيمة المضافة باختلاف القطاع الاقتصادي، حيث تمثل المواد الأولية الأجنبية جزء مهما في القيمة المضافة في قطاع الصناعة الألماني، فعلى سبيل المثال آلة يبيعها مصنعون ألمان في الداخل أو الخارج مقابل 100 ألف يورو تحتوي في المتوسط على 28200 يورو من القيمة المضافة الأجنبية، بما في ذلك 3200 يورو من الصين.
لكن العولمة لها أيضا سلبيات، فالعديد من المنتجات والمواد الخام التي تحصل عليها الشركات في ألمانيا وغيرها من الدول الصناعية الكبرى بأسعار قد تكون متدنية يتم تصنيعها أو الحصول على موادها الأولية او مكوناتها في الدول النامية في ظل ظروف بيئية وعمل غير مناسبة، منها على سبيل المثال استغلال عمالة الأطفال او العمل مقابل أجور متدنية للغاية ” ما تسمى أجور مجاعة”. الى جانب استخدام مواد ضارة بالبيئة في التعدين والإنتاج، على سبيل المثال يتم استخدام 45 مليون طن من المواد الكيميائية في انتاج الملابس كل عام، كما ان هذه الصناعة مسؤولة عن 35 في المئة من النفايات البلاستيكية في البحار والمحيطات. بالإضافة الى ذلك وبسبب عواقب جائحة كورونا، ساء الوضع في منشآت إنتاج المنسوجات، ومعظمها في البلدان النامية، بشكل كبير، حيث ادى الإغلاق المؤقت في الدول الصناعية الغربية الى إلغاء الطلبات في البداية، مما أدى إلى خسارة فورية للأجور في 98 في المئة من منشآت الإنتاج في بنغلاديش مثلاً، وعندما تم استئناف الإنتاج لاحقاً حصلت تجاوزات في قواعد النظافة والسلامة الصحية في مواقع الانتاج.
قانون سلسلة التوريد الألماني
اقر البرلمان الألماني (البوندستاج) منتصف شهر يونيو 2021م، قانون سلسلة التوريد الذي قدمته الحكومة الاتحادية، والذي هو من استحقاقات اتفاقية الائتلاف الحكومي بين الاتحاد المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي عام 2018م، بهدف تحسين ظروف امدادات سلاسل التوريد العالمية، والتي من اهمها، منع عمل الأطفال والعمل الجبري وحظر المواد التي تشكل خطورة على الناس والبيئة.
وتهدف الحكومة الألمانية إلى تبني معايير قانونية قابلة للتطبيق على مستوى الاتحاد الأوروبي في سلاسل التوريد والقيمة العالمية العادلة، ونظرًا لأن هذا قد يستغرق بعض الوقت، فإن ألمانيا مضت قدمًا في إقرار قانون وطني، حيث سينطبق قانون سلسلة التوريد الألماني مبدئيًا على الشركات التي يعمل بها أكثر من 3000 موظف اعتبارًا من عام 2023م ثم على الشركات التي يعمل بها أكثر من 1000 موظف اعتبارًا من عام 2024م. وتوجد قوانين مماثلة بالفعل في فرنسا وهولندا وبريطانيا، منذ عدة سنوات، كما يلزم القانون الأوروبي الشركات بالإبلاغ عن الامتثال لحقوق الإنسان والمعايير البيئية. وإقرار قانون مشابهة في ألمانيا يتماشى مع هذا الاتجاه الأوروبي المتزايد.
المفهوم المركزي لقانون سلسلة التوريد الجديد هو “العناية الواجبة بحقوق الإنسان”، حيث يجب على الشركات النظر في الآثار المحتملة لأنشطتها التجارية على حقوق الإنسان في الخارج واتخاذ الاحتياطات المناسبة إذا لزم الأمر، كما يجب على الشركات توقع انتهاكات حقوق الإنسان المحتملة مسبقًا ومحاولة منعها.
وفي هذا الإطار يلزم قانون سلسلة التوريد الشركات الألمانية ويحملها مسؤولية تتبع السلع الوسيطة أو المنتجات النهائية المشتراة في الخارج في جميع مراحل سلسلة التوريد الخاصة بها، بداية من المواد الخام إلى المنتج النهائي، وذلك من اجل التأكد من عدم وجود أي عمليات إنتاج ضارة بالبيئة أو انتهاك لظروف العمل وضمان احترام حقوق الإنسان، على سبيل المثال حظر العمل الجبري وعمل الأطفال والامتثال للمعايير الاجتماعية المعترف بها دوليًا مثل معايير العمل الأساسية لمنظمة العمل الدولية وإدخال آلية شكاوى للمتضررين. وفي حالة حدوث انتهاكات، يجب على هذه الشركات اتخاذ الإجراءات التصحيحية على الفور. وسيقوم المكتب الاتحادي للاقتصاد والرقابة على الصادرات (BAFA) بمراقبة الامتثال للقانون ومعاقبة المخالفين، حيث يمكن أن تفرض عقوبات وغرامات تصل إلى 500 ألف يورو أو ما يصل إلى 2 في المئة من متوسط المبيعات السنوية في حالة انتهاك القانون، كما يدخل من ضمن العقوبات احتمال استبعاد الشركات المتأخرة في تنفيذ القانون من منح العقود العامة في ألمانيا.
إشكاليات تطبيق قانون سلسلة التوريد
ان طريقة امتثال الشركات الألمانية للقانون وتنفيذ التزاماتها الواردة فيه ما تزال محل تساؤل، حيث أظهرت النتائج النهائية لدراسة حديثة لمؤسسة Horn & Company أجريت على 60 شركة صناعية المانية يتراوح دخلها بين 500 مليون يورو و2 مليار يورو سنوياً، ان أكثر من 80 في المئة من الشركات المستطلعة لم تتعامل بعد مع المتطلبات والشروط التي حددها القانون، كما انه لا توجد لدى هذه الشركات خطط محددة حتى الآن فيما يتعلق بالوقت الذي يجب أن تبدأ فيه الاستعدادات لتقييم سلسلة التوريد وإدارة محفظة الموردين والعمليات والتعديلات التنظيمية اللازمة لذلك. ويعود ذلك الى سببين رئيسيين: الأول يتمثل في التساؤل الذي لم يتم الإجابة عنه حتى الآن حول كيفية مراقبة مدى الالتزام بحقوق الإنسان على طول سلسلة التوريد بأكملها، والذي يشمل جميع الموردين والموردين الفرعيين. فيما يتمثل السبب الثاني في الجهد الإداري المرتفع المتوقع لتنفيذ شروط القانون، بالإضافة الى الاضطرابات المتوقعة أيضا في الأعمال التشغيلية قبل الوصول الى نموذج فعال لتنفيذ مقتضيات القانون.
وعلى الرغم من ان الدراسة تظهر أيضًا أن عددا محدودا من الشركات قد أنشأت بالفعل مكاتب تنسيق عبر الإدارات تحت تسمية “إدارة مخاطر الموردين والأداء”. حيث سيتم في هذه الوحدات تنسيق الاستعدادات فيما يتعلق بإدارة الموردين وإدارة المخاطر وضمان الجودة والالتزام بالقانون، الا ان الغموض والاعباء الإضافية التي سيفرضها القانون تلقى نقداً واسعاً من قبل الأوساط الصناعية حيث اعتبرت Anne Lauenroth، نائبة رئيس قسم التعاون الدولي في اتحاد الصناعات الألمانية، أن قانون سلسلة التوريد “ليس قابلاً للتطبيق ولا آمنًا من الناحية القانونية”، مؤكدة ان القانون يترك للشركات وحدها تفسير الواجبات المنصوص عليها، حيث ليس من الواضح كيف يجب عليها الامتثال للقانون وإنفاذه. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يجب على شركة ألمانية في دول مثل الصين، حيث يتم حظر النقابات العمالية الحرة، الامتثال للموقف القانوني لحرية تكوين الجمعيات التي يحميها القانون. وتؤكد Lauenroth في هذا السياق على انه “إذا كانت الحكومة تريد الالتزام بمعايير قانونية أعلى في دول اخرى، فيجب عليها ضمان ذلك في إطار الاتفاقيات الدولية ويجب ألا تحمل هذا على الشركات”. بالإضافة الى ذلك يلزم القانون جميع الشركات بمراقبة التزام الموردين بحقوق الانسان على طول سلسلة التوريد، وهذا يعني ان تواجه الشركات الكبرى تحديات كبيرة بسبب سلاسل التوريد المعقدة، حيث تتعامل بعض هذه الشركات مع أكثر من 100 ألف مورد مباشر.
لقد أدى قانون سلسلة التوريد الآن إلى خلق قدر كبير من عدم اليقين، وطرحت أسئلة من نوع: هل ستتم مقاضاة الشركات الألمانية الخاصة الآن بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في الخارج؟ وإلى أي مدى تتأثر الأعمال التجارية لهذه الشركات في مختلف دول العالم؟ ويشتكي الكثير من رجال الاعمال من استحالة تلبية كل المتطلبات القانونية، بالإضافة الى الاضرار بقدرة الشركات الألمانية على المنافسة بالمقارنة مع الشركات القادمة من شرق آسيا والغير ملزمة بمراقبة مدى احترام مورديها لحقوق الانسان. الى جانب ذلك، تعتبر مسؤولية الشركات عن انتهاكات حقوق الإنسان موضع جدل كبير بين المحامين، اذ اكدت نقابة المحامين الألمان في بيان إن الفشل في وضع لائحة قانونية واضحة سيؤدي إلى “مخاطر نشوء دعاوى تعويض أضرار لا تحصى”.