تعد عمليات وصفقات الاستحواذ ظاهرة اقتصادية عالمية لا تقتصر على دولة دون أخرى، وان كانت تأخذ في بعض الأوقات شكلا أكثر كثافة وحضورا في بعض القطاعات او الاقتصاديات، كما هو حاصل في الوقت الحاضر في ألمانيا، والتي لا تقتصر فيها عمليات وصفقات الاستحواذ على المستثمرين المحليين بل تشمل أيضا المستثمرين من دول العالم المختلفة. وبالمجمل تمثل صفقات الاستحواذ ظاهرة اقتصادية لها مردوداتها الإيجابية بشكل عام على حركة الاقتصاد وتطور قطاعاته المختلفة، فظهور مجموعات اقتصادية عملاقة ذات قدرات مالية وصناعية كبيرة سينعكس بالضرورة على نمو الاقتصاد الكلي وعلى تحسين شروط المنافسة وعمليات التطوير حتى مع وجود مخاطر تسرب التكنولوجيا للاقتصاديات المنافسة.

عمليات الاستحواذ:
إيجابيات ومخاطر

تمثل عمليات الاستحواذ بالنسبة للمستثمرين عمليات ذات عائد اقتصادي عال، فبالإضافة الى انها تمثل توظيفا مجدياً ومجزياً للفوائض المالية التي حققتها الشركات والمؤسسات التي يتبعونها، فهي تتيح لهم كذلك توسيع عملياتهم التجارية وفتح أسواق جديدة سوآءا لنشاطاتهم او حتى للخدمات والسلع التي تنتجها شركاتهم الأصلية، خصوصا في مواجهة الإجراءات الحِمائية التي تتبعها بعض الدول للحفاظ على القدرة التنافسية للشركات والمؤسسات المحلية العاملة في مختلف قطاعات اقتصاداتها، ناهيك عن عمليات نقل التكنولوجيا والخبرات التي تنتج عن عمليات الاستحواذ التجاري والتي تمثل في كثير من الأحيان الهدف الأساسي من عمليات الاستثمار في صفقات الاستحواذ والسيطرة على إدارة الشركات الأجنبية.

في الجانب الاخر تعد صفقات الاستحواذ بالنسبة للشركات المبيوعة عملية ضخ مزيد من رأس المال والسيولة النقدية من اجل تمويل عمليات التوسع في النشاط والإنتاج وفتح أسواق جديدة او كذلك في إطار تطوير الإنتاج او إضافة منتجات جديدة الى خط التصنيع. من جهة أخرى تعد عملية بيع الشركات او جزء كبير من أسهمها عملية انقاذ لهذه الشركات من صعوبات مالية تواجهها او حتى، في كثير من الحالات، منفذ للنجاة وحماية للشركات من مخاطر الإفلاس. وبشكل عام فان الاستثمارات الأجنبية في أي اقتصاد سوآء أتت في شكل استثمارات مباشرة في انشاء مشاريع ومؤسسات جديدة او أتت في شكل صفقات استحواذ وسيطرة على مؤسسات وشركات قائمة فعلا، فإنها تمثل عنصرا إيجابيا يسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وفي الحفاظ على الوظائف وكذلك في خلق فرص عمل جديدة. إلا ان صفقات الاستحواذ التجاري لا تخلوا من مخاطر وسلبيات ليس اقلها عمليات التهرب الضريبي، الى جانب مخاطر حصول دول اجنبية على مزيد من النفوذ والقدرة على التأثير في الاقتصاد المحلي، ويبدو النموذج الصيني هنا أبرز مثال على وجود هكذا محاذير على صفقات الاستحواذ خصوصا إذا علمنا ان الجزء الأكبر من الاستثمارات الصينية في ألمانيا تأتي من شركات اما انها تتبع الحكومة الصينية مباشرة او انها مدعومة منها.

وعلى الرغم من شمول صفقات الاستحواذ على بنود تقضي بحماية الوظائف والعاملين الا ان المستوى الذي وصلت الية حقوق العمال في ألمانيا خاصة والغرب عموما ما يزال امراً غريبا على المستثمرين القادمين من بيئات عمل تسري فيها شروط مختلفة للعلاقة بين صاحب العمل والعامل وهو الامر الذي يسري كذلك على البحث العلمي ودعم الابتكار حيث يعد البحث العلمي جزء رئيسيا في تركيب وبنية اغلب الشركات الصناعية والتقنية، بالإضافة الى انه يٌعد احد الوظائف الأساسية التي تقوم بها الشركات في اطار الاقتصاد الألماني ودعم قدرته التنافسية، وهو الأمر الذي قد لا يحظى بنفس درجة الأهمية والأولوية في اقتصاديات أخرى تركز على الكم قبل الكيف في منتجاتها.

الصفقات المتوقعة للاندماج والاستحواذ على الشركات في ألمانيا عام 2021م

بعد ذروة ازمة كورونا في العام 2020م وتراجع حجم صفقات الاندماج والاستحواذ على الشركات توافر لدي المستثمرين الماليين في جميع انحاء العالم ما يقرب من 750 مليار دولار، وهم يبحثون بشكل عاجل عن فرص الاستثمار، ويتطلعون بشكل متزايد إلى ألمانيا، الأمر الذي يرفع التوقعات بحصول طفرة حقيقية في الصفقات الضخمة للاستحواذ على العديد من الشركات الألمانية في عام 2021م. حول ذلك يؤكد Joachim Ringer، الرئيس المشارك للخدمات المصرفية الاستثمارية في مصرف Credit Suisse في ألمانيا والنمسا، إنه خلال النصف الأول من العام الجاري «من الممكن إجراء صفقتين إلى ثلاث صفقات كبيرة تتجاوز قيمتها 10 مليار يورو، حيث يتحد العديد من المستثمرين الماليين لتقديم عطاءات مشتركة». وتتداول الدوائر المالية أسماء شركة Bilfinger للصناعة وشركة تجارة الصلب Klöckner وشركة Reebok احدى الشركات الفرعية لشركة Adidas كأهداف استحواذ محتملة.

وبينما تتجه العديد من صناديق الاستثمار، والتي شهد نشاطها تراجعاً خلال جائحة كورونا، فرصاً كبيرة لعقد صفقات للاستحواذ او شراء جزء كبير من أسهم الشركات الألمانية، حيث تشير تقديرات مجموعة بوسطن الاستشارية Boston Consulting Group، الى إن أكثر من 100 شركة ألمانية تمثل هدفاً لصفقات استحواذ المستثمرين الناشطين، ويتوقع الخبراء موجة حقيقية من الصفقات الجديدة للاستحواذ ولشراء أسهم الشركات خلال العام 2021م اعتمادا على الأسباب التالية:

1- الضغط من قبل المساهمين النشطاء

صناديق الاستثمار في الأسهم الخاصة تكون مستعدة للشراء عندما يضغط المساهمون النشطون على أعضاء مجلس إدارة الشركات او المجموعات التجارية او الصناعية المساهمين فيها للتركيز على النشاط الأساسي للشركة او المجموعة، مما يتيح بيع أجزاء من المجموعة. ويفترض مستشارو مجموعة بوسطن الى ان 90 في المئة من التكتلات الصناعية والتجارية معرضة لضغوط المساهمين بها، ويتم تقديم مثال شركة Bayer كنموذج لذلك، حيث ترتكز المجموعة على ثلاث نشاطات اقتصادية وصناعية وهي الأدوية وصحة المستهلك وحماية المحاصيل. ويرغب المستثمرون النشطين في أن تركز الشركة على قطاع الأدوية.

2- الصناديق الكبيرة تحتاج إلى صفقات كبيرة

ان عدم وجود عائدات مجزية لصناديق الاستثمار الأساسية مثل صناديق التقاعد وشركات التأمين اتاحت تدفق مزيد من الأموال للاستثمار في شراء الأسهم في الشركات وفي عمليات الاستحواذ عليها. لهذا تمتلك شركات ومجموعات الاستثمار المالي الكبرى مثل Blackstone وCVC وCarlyle وApollo وEQT عشرات المليارات من الأموال في متناول اليد. ويتزايد الضغط على هذا الشركات بسبب ان الصناديق الأساسية للاستثمار تتوقع عائدات كبيرة لرأس المال الذي ضخته في هذه الشركات وتتوقع منها عقد صفقات ضخمة للاستحواذ على الشركات او شراء نسبة كبيرة من أسهمها. وتمثل شركة Bilfinger للخدمات الصناعية الألمانية أحد اهم أهدف الشركات الاستثمارية المالية العالمية الى جانب شركة Klöckner لتجارة الصلب خصوصا بعد قيام الشركة برقمنة جزء كبير من اعمالها. كما تمثل شركة Reebok، احدى شركات علامة اديداس لصناعة المستلزمات والسلع الرياضية، والتي تحسنت ربحيتها بشكل كبير خلال العام 2019م أحد الشركات التي تسعى العديد من شركات وصناديق الاستثمار المالي الى الاستحواذ عليها.

3- عمليات تبسيط الشركات

تعاني عدد من الشركات والمجموعات الصناعية من تعقيد وتعدد أنشطتها واعمالها وهو ما يعيق في كثير من الحالات تطوير هذه الاعمال، ولذلك تولد اتجاه لتبسيط اعمال الشركات وجعلها أكثر تخصصا عبر بيع بعض افرعها او اقسامها المتخصصة. وفي هذا الاطار يأتي بيع قسم المصاعد في Thyssen-Krupp كأحدث معلم في تبسيط هياكل المجموعة الصناعية في ألمانيا. ويتيح تبسيط أنشطة الشركات وفصلها عن النشاط الرئيسي فرصة لأسواق المال وللمستثمرين لإبرام صفقات استحواذ او شراء نسبة كبيرة من الأسهم في هذه الشركات. كما يمثل تقسيم شركة سيمنس الى ثلاث شركات مستقلة (سيمنس للتقنيات الطبية، سيمنس للطاقة، سيمنس للصناعة) خلال السنوات الماضية مثالاً واضحاً لذلك.

4- الرقمنة

يركز المستثمرون الماليون بشكل متزايد على الصفقات المتعلقة بالرقمنة أو التقنيات المتجددة. حيث وبعدد 57 صفقة، كانت معظم صفقات شراء الأسهم الخاصة في ألمانيا في عام 2020م في مجال تكنولوجيا المعلومات، تليها 40 صفقة في القطاع الصناعي. ووفقًا للخبراء، تتطلع صناديق الاستثمار في الأسهم الخاصة بشكل متزايد إلى شركات التكنولوجيا في عام 2021 بالإضافة كذلك الى المنصات الرقمية.

5- إصلاح الميزانية العمومية بعد أزمة كورونا

على الرغم من الدعم الحكومي، سيكون عام 2021م عام جرد الشركات للأضرار الناجمة عن أزمة كورونا. وهنا سيستهدف المستثمرون الماليون الشركات التي عانت بشكل أكبر والتي تحتاج الى ضخ مزيد من الأموال في راس مالها لتجاوز او تخفيف حدة اضرار كورونا على اعمالها. وتبدوا هنا الشركات العاملة في قطاع السياحة وقطاعي المطاعم والبيع بالتجزئة بالإضافة الى شركات الطيران الأكثر ترشيحا لعمليات إعادة الهيكلة وكذلك بيع جزء من أسهمها او بيع الشركة بالكامل للمستثمرين الماليين.

6- بيع شركات صناديق الاستثمار المالي

خلال العام 2021م لا يتوقع أن يقوم كبار المستثمرين الماليين بالشراء فقط بل سيقومون ببيع الشركات او جزء من أسهم الشركات التي يمتلكونها أيضا اما عن طريق الاكتتاب العام او عن طريق بيع الشركات الى صناديق استثمارية أخرى. وتبرز كمثال في هذا الجانب النوايا الخاصة بعملية طرح أسهم شركة Suse المصنعة للبرمجيات والتي تمتلكها شركة الاستثمار المالي EQT للاكتتاب العام خلال هذا العام. كذلك نية شركة الأسهم الخاصة BC Partners لبيع شركة Ceramtec المختصة في صناعة السيراميك.

ونظرا لهذه العوامل والأسباب يتوقع الخبراء مستوى مرتفعًا جدًا من النشاط من صناديق الأسهم الخاصة ومن المستثمرين الماليين في الأشهر المقبلة من العام 2021م في ألمانيا والذي سيشمل جميع الصناعات والتي تعتبر فرصا استثمارية خصوصا في قطاعات البرمجيات والرعاية الصحية والتجارة الإلكترونية والتكنولوجيا الطبية.

ووفقًا لمعهد الاندماج والاستحواذ والتحالفات الدولي (IMAA)، بلغ عدد صفقات الاستحواذ وشراء الشركات في السوق الألماني، سواء من مستثمرين محليين او دوليين، خلال العام 2020م نحو 1880 صفقة، وبقيمة تقدر بحوالي 93.2 مليار دولار أمريكي، كما بلغت نسبة استحواذ أو شراء أسهم الشركات في ألمانيا من قبل صناديق الاستثمار المالي العالمية نحو 35 في المئة من اجمالي صفقات الاستحواذ وشراء الأسهم في السوق الألماني. وتعد عملية شراء قسم المصاعد في شركة Thyssen-Krupp الألمانية بقيمة 18,8 مليار دولار أكبر صفقة استحواذ اجنبية على شركة ألمانية في العام 2020م.