لم يعد تغير المناخ العالمي مجرد نظريات وتحذيرات يطلقها خبراء البيئة والمناخ في المؤتمرات العالمية المختصة بل تحول الامر الى واقع يتكرر بوتيرة متزايدة، خصوصا في السنوات الاخيرة، في شكل كوارث طبيعية متنوعة ما بين الأعاصير والعواصف والفيضانات او الجفاف وارتفاع درجات الحرارة. وقد انتشرت هذه الكوارث الطبيعية لتغطى مناطق جغرافية لم تكن تعرف هذا النوع من الكوارث او على الأقل لم تكن تعرفها بهذه الحدة والشدة. وهنا تأتي ألمانيا ضمن هذه المناطق التي شهدت خلال السنوات الماضية وبشكل غير معتاد العديد من الكوارث الطبيعية تراوحت بين موجات جفاف وارتفاع درجات الحرارة وبين اعاصير وعواصف قوية تتسبب في حدوث فيضانات مدمرة غطت مختلف مناطق ألمانيا من الغرب الى الشرق ومن الجنوب الى الشمال، متسببة في اضرار اقتصادية مباشرة وغير مباشرة يتوقع لها ان ترتفع بشكل متزايد خلال السنوات والعقود القادمة.
اضرار الكوارث الطبيعية في ألمانيا (1990م-2022م)
من مجموع الكوارث الطبيعية التي واجهتها ألمانيا خلال الأربعة عقود الماضية كان 59 في المئة منها عبارة عن عواصف واعاصير (63 كارثة طبيعية) بينما مثلت كوارث الفيضانات والسيول الجارفة والتي بلغت خلال نفس الفترة 25 كارثة طبيعية 23 في المئة من عدد الكوارث الطبيعية. فيما تمثلت 8 كوارث طبيعية في موجات من الانخفاض الشديد في الحرارة والصقيع كما بلغ عدد الكوارث الطبيعية المرتبطة بالارتفاع الكبيرة في درجات الحرارة في 5 كوارث طبيعية.
وعلى الرغم من ان درجات الحرارة العالية وموجات الحر كانت الأقل من حيث الحدوث ضمن المتغيرات المناخية الا انها كانت المتسبب في 90 في المئة من حالات الوفاة الناتجة عن الكوارث الطبيعية في ألمانيا خلال الفترة (1990م-2020م)، بنحو 9361 حالة وفاة، في المرتبة الثانية وبنسبة 7 في المئة جاءت العواصف والاعاصير التي تسببت في وفاة 718 شخص، كما تسببت الفيضانات والسيول الجارفة في 3 في المئة من حالات الوفاة بسبب الكوارث الطبيعية بحوالي 271 حالة وفاة.
اقتصاديًا بلغت التكلفة الاقتصادية المباشرة التي تحملتها ألمانيا بسبب التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية الناتجة عنها بين عامي 2000م و2021م نحو 145 مليار يورو. وبهذا الحجم من الخسائر تكون ألمانيا أكثر دولة أوروبية تأثرا اقتصاديا بالكوارث الطبيعية وتغير المناخ.
الا ان تزايد حدة تأثيرات تغيرات المناخ والكوارث الطبيعية الناتجة عنها في ألمانيا ظهر بشكل واضح خلال كارثة الفيضان الذي تعرضت لها مناطق في غرب ألمانيا في صيف العام 2021م، حيث تعرضت مناطق في ولايتي شمال الراين-وستفاليا وراينلاند فلاتز منتصف شهر يوليو الى فيضانات عارمة تسببت في وفاة 183 شخص وفي اضرار اقتصادية بأكثر من 40 مليار يورو، وهو ما يمثل أكثر من ثلث اجمالي الاضرار والخسائر الاقتصادية التي تعرضت لها ألمانيا خلال أكثر من أربعين عامًا.
وتشير أحدث الدراسات ان هذا الحجم من الاضرار والخسائر الاقتصادية سوف يتكرر خلال السنوات القادمة خصوصا مع ارتفاع حرارة العالم نتيجة انبعاثات الغازات العادمة الناتجة عن النشاط البشري وتأثيرات هذا الارتفاع على المناخ العالمي وتوابعه من التغيرات الحادة وغير المتوقعة في الظواهر المناخية.
الاضرار الاقتصادية الناتجة عن الكوارث الطبيعية لعام 2023م عالميًا
تسببت الكوارث الطبيعية في جميع أنحاء العالم في العام 2023م، في أضرار بلغت حوالي 250 مليار دولار أمريكي. ويتوافق إجمالي هذه الخسائر مع متوسط الخسائر الناتجة عن الكوارث الطبيعية خلالالخمس سنوات الماضية. وخلافا للسنوات السابقة، لم تكن هناك كوارث ضخمة هذه المرة في البلدان الصناعية أدت إلى خسائر كبيرة (مثل إعصار إيان الذي ضرب ولاية فلوريدا الامريكية في عام 2022م بخسائر إجمالية قدرها 100 مليار دولار أمريكي). وبدلاً من ذلك، اتسم ميزان الخسارة بالعديد من العواصف الإقليمية. لم يحدث من قبل أن تم تسجيل مثل هذه المستويات العالية من الأضرار الناجمة عن العواصف الرعدية في أمريكا الشمالية وأوروبا: فقد دمرت أصول تبلغ قيمتها حوالي 66 مليار دولار أمريكي في أمريكا الشمالية وفي أوروبا، بلغ إجمالي الخسائر 10 مليارات دولار أمريكي (9.1 مليار يورو)، تفترض غالبية الأبحاث أن تغير المناخ يتمثل الان بشكل أكبر في صورة عواصف مصحوبة ببرد شديد. وتشير الإحصائيات ان الأضرار الناجمة عن العواصف الرعدية في أمريكا الشمالية ومناطق أخرى أيضًا سوف ترتفع.
وارتفع عدد الوفيات الناجمة عن الكوارث الطبيعية في عام 2023م، إلى 74 ألف شخص، وهو أعلى بكثير من متوسط السنوات الخمس الماضية. وبعد سنوات من الهدوء النسبي، تسببت سلسلة من الزلازل المدمرة في حدوث كوارث إنسانية، بلغ عدد الوفيات الناتجة عنها حوالي 63 ألف شخص في عام 2023م، وهو مما يمثل نسبة 85 في المئة من اجمالي الخسائر البشرية بسبب الكوارث الطبيعية. وهي النسبة الأعلى أيضا منذ العام 2010م.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالخسائر الاقتصادية الناجمة عن الكوارث الطبيعية، هيمنت الظواهر الجوية القاسية، حيث كان 76 في المئة من إجمالي الخسائر كانت مرتبطة بالطقس، و24 في المئة منها لأسباب الزلازل.
التغييرات المناخية العالمية
يُظهر تقرير جديد صادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن الأرقام القياسية المتعلقة بالمتغيرات المناخية الحادة قد تحطمت مجدداً، وفي بعض الحالات جرى تجاوزها بدرجة كبيرة، وذلك فيما يخص مستويات غازات الاحتباس الحراري، ودرجات حرارة السطح، وحرارة المحيطات وتحمضها، وارتفاع مستوى سطح البحر، وتراجع الغطاء الجليدي البحري في المنطقة القطبية الجنوبية، وتقلص مساحات الأنهار الجليدية. وأكد تقرير المنظمة أن عام 2023م، كان العام الأكثر دفئاً منذ بدء التسجيل، إذ بلغ المتوسط العالمي لدرجة الحرارة القريبة من السطح 1.45 درجة مئوية فوق خط الأساس في فترة ما قبل الثورة الصناعية. وكانت آخر عشر سنوات هي أحر فترة مسجلة.
حول ذلك صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش «إن جميع المؤشرات الرئيسية تدق نواقيس الخطر فبعض المعدلات لم تحقق أرقاماً قياسية فحسب، بل فاقتها بكثير، والتغيرات تحدث بوتيرة متسارعة». وصرحت الأمينة العامة للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية سيليستى ساولو: «لم نكن أبداً قريبين إلى هذا الحد، وإن كان ذلك على أساس مؤقت في الوقت الحالي، من الحد الأدنى البالغ 1.5 درجة مئوية لاتفاقية باريس بشأن تغير المناخ. ومجتمع المنظمة يعلن حالة الإنذار القصوى للعالم». وأضافت: «إن تغير المناخ ينطوي على ما هو أكثر بكثير من درجات الحرارة. فما شهدناه في عام 2023م، خاصة مع دفء المحيطات غير المسبوق وتقلص مساحات الأنهار الجليدية وفقدان الجليد البحري في القطب الجنوبي، أمر يثير القلق بشكل خاص».
وفي عام 2023م، اجتاحت موجة حر بحرية ما يقرب من ثلث المحيطات العالمية، وهو ما أضر بالنظم الإيكولوجية والنظم الغذائية الحيوية. وقرب نهاية عام 2023م، شهد أكثر من 90 في المئة من المحيطات ظروف موجة حر في مرحلة ما خلال العام. وشهدت أهم الأنهار الجليدية في العالم أكبر خسارة للجليد على الإطلاق (منذ عام 1950م)، مدفوعة بالذوبان الشديد في كل من غرب أمريكا الشمالية وأوروبا. وكانت رقعة الجليد البحري في المنطقة القطبية الجنوبية هي الأدنى على الإطلاق، إذ وصل الحد الأقصى للرقعة في نهاية الشتاء إلى أقل من العام القياسي السابق بمليون كيلومتر مربع أي ما يعادل حجم فرنسا وألمانيا مجتمعتين.
وأضافت الامينة العامة للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية «إن أزمة المناخ هي التحدي الحاسم الذي تواجهه البشرية وترتبط ارتباطاً وثيقاً بأزمة عدم المساواة، كما يشهد على ذلك تزايد انعدام الأمن الغذائي ونزوح السكان وفقدان التنوع البيولوجي». حيث زاد عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في جميع أنحاء العالم بأكثر من الضعف، من 149 مليون شخص قبل جائحة كوفيد-19 إلى 333 مليون شخص في عام 2023م، (في 78 بلداً رصدها برنامج الأغذية العالمي). حيث يساهم الطقس والمناخ المتطرفين بشكل هام في مفاقمة انعدام الامن الغذائي.
التكلفة المتوقعة للتغير المناخي في ألمانيا حتى العام 2050م
بحسب تقرير أعده معهد البحوث الاقتصادية البيئية (IÖW) وجمعية البحوث الهيكلية الاقتصادية (GWS) بتكليف من وزارة الاقتصاد وحماية المناخ حول تكاليف تغير المناخ في ألمانيا وعرض على لجنة خاصة في البرلمان الاتحادي (البوندستاج)، فان تكاليف التغيرات المناخية التي ستواجهها ألمانيا حتى العام 2050م، ستكون بين 280 و900 مليار يورو اعتمادًا على كيفية تقدم التغير المناخي. لقد أصبحت آثار التغير المناخي محسوسة بالفعل في ألمانيا، حيث تسببت أحداث الطقس المتطرفة مثل الفيضانات بمعاناة كبيرة وتكاليف هائلة. ولا تشمل هذه التكاليف العديد من التأثيرات الصحية، والوفيات الناتجة عن الحرارة والفيضانات، والضغط على النظم البيئية، وفقدان التنوع البيولوجي، وتدهور جودة الحياة.
وتعد الفيضانات النهرية والفيضانات الناجمة عن الأمطار الغزيرة هي حتى الآن أكثر الكوارث الجوية تكلفة في ألمانيا. اذ لا تقتصر اثارها على المباني ووسائل النقل، بل أيضاً الصناعة والتجارة وسلاسل التوريد. وتحدث ما تسمى بـ «فيضانات القرن» والتي تتمثل في فيضانات وسيول جارفة بشكل متزايد، حيث تكررت في السنوات الأخيرة منها فيضانات العام 2002م، وايضًا في عام 2013م التي اصابت أجزاء واسعة من جنوب ووسط وشمال ألمانيا، وفي عام 2021م في غرب ألمانيا، حيث كانت الفيضانات هي الحدث المناخي الأكثر تدميراً في التاريخ الألماني. وفقاً للتقارير المختلفة، فان التغير المناخي جعل الفيضانات أكثر احتمالاً وأسهم أيضاً في زيادة هطول الأمطار.
بالإضافة إلى ذلك، تأتي الظواهر الجوية «الصامتة» مثل الحرارة والجفاف، والتي غالباً ما يتم التقليل من آثارها، لذا فإن هناك عدداً أقل من الدراسات حولها. وتعاني الزراعة والغابات بشكل خاص من هذه التغيرات المناخية، حيث يتم قياس الضرر مثلاً في فقدان محصول الحبوب أو في جودة وتوفر المياه، وهذا الأخير له أهمية كبيرة للحفاظ على الغابات. وتشير التقديرات للفترة من 2018م إلى 2019م إلى أضرار تبلغ حوالي 35 مليار يورو نتيجة الجفاف وارتفاع الحرارة. هنا أيضاً، يُعتبر التغير المناخي السبب الرئيسي وراء زيادة هذه الظواهر. كما ان هنالك أضرار غير قابلة للقياس المالي للتغيرات المناخية مثل فقدان الصحة ونوعية الحياة يصعب حسابها. فعلى سبيل المثال وفي حالة ارتفاع الحرارة، تنخفض الإنتاجية بسبب الأمراض أو الإجهاد الحراري، حيث إن الحرارة مسؤولة عن 90 في المئة من وفيات الكوارث المناخية في ألمانيا منذ عام 2000م وقد علق وزير الاقتصاد وحماية المناخ في الحكومة الاتحادية روبرت هابيك عن ذلك بالقول «نحن نتحدث دائماً عن حماية المناخ، ولكن ببساطة نحن لا نحمي المناخ، بل نحمي الناس، الناس على الأرض، الناس في وطننا».
علاوة على ذلك، هنالك تكاليف غير مباشرة لآثار التغير المناخي التي تقع في مناطق مختلفة في العالم بعيدة عن ألمانيا الا ان لها تأثير كبير على الاقتصاد الألماني، حيث تتعطل سلاسل التوريد لأن البنية التحتية في أجزاء أخرى من العالم غمرتها المياه، وفي حالة الارتفاع الشديد في الحرارة يعمل الناس في جميع أنحاء العالم بشكل أقل إنتاجية. ولذلك فان هذه التكاليف، وبسبب الترابط التجاري القوي لألمانيا مع العالم الخارجي، تكون أكبر بكثير من تلك التي تقع مباشرة في ألمانيا.