شهد ويشهد العالم منذ فترة عدد من الكوارث الطبيعية الناتجة عن التغيرات المناخية المتطرفة والمتقلبة ما بين سقوط الامطار الغزيرة وحدوث الفيضانات بالإضافة الى الأعاصير والرياح العاتية الى جانب فترات الجفاف الطويلة. وتتسبب هذه الكوارث والظواهر المناخية في احداث خسائر في الأرواح الى جانب الخسائر المادية المباشرة وكذلك الاثار الاقتصادية السلبية والتي تمتد الى فترات ابعد من فترة حدوث هذه الكوارث. هذه الكوارث المناخية كانت تتركز الى حد ما في عدد من المناطق والاقاليم حول العالم والتي عرفت بتعرضها بشكل متكرر لتقلبات المناخ، الا ان هذا الوضع شهد العديد من التغيرات خلال السنوات الماضية بفعل تفاقم ازمة المناخ وتوسع الاضرار التي اصابت المناخ والبيئة العالمية، وتعرضت بلدان لم تكن في حزمه الدول التي لم تكن تعرف العديد من الظواهر المناخية المدمرة الى كوارث مناخية لم تشهدها سابقاً، وينطبق هذا الامر على ألمانيا التي شهدت تغيرات مناخية وكوارث طبيعية خلال السنوات الماضية لم تكن معتادة او معروفة لا من ناحية نوع الكارثة ولا حتى من ناحية حجمها، اذ تعرضت ألمانيا الى اعاصير وفترات جفاف حادة ومؤخرا تعرضت الى كوارث فيضانات لم يسبق لها ان عاشتها، والتي فرضت على الحكومة الألمانية تخصيص مبلغ 30 مليار يورو لمواجهة ومعالجة اضرارها، الى جانب ان ارتفاع حجم الامطار التي هطلت على ألمانيا خلال هذا العام تسببت أيضا في تراجع حجم العديد من المحاصيل الزراعية أهمها محصول الحبوب والذي يتوقع اتحاد المزارعين الألمان (DBV) ان يكون أقل من المتوسط للعام 2021م، حيث ان من المتوقع أن يصل حجم حصاد الحبوب إلى 42.4 مليون طن، أي أقل بنحو مليون طن أو 2 في المئة عن العام السابق.
عالمياً وبحسب أحدث تقرير نشرته الأمم المتحدة بمناسبة “اليوم العالمي للحد من مخاطر الكوارث” العام 2020م، شهد العالم ارتفاعا سريعا في عدد الظواهر الجوية الاستثنائية والكوارث الطبيعية خلال العقدين الماضيين، أثرت على حياة 4.2 مليارات نسمة وتسببت في مصرع 1.23 مليون شخص. كما جاء في التقرير أن عدد الكوارث الطبيعية الكبرى الواقعة بين عامي 2000-2019م بلغ 7 آلاف و348 كارثة. وأضاف التقرير أن عدد الفيضانات تضاعف مرتين خلال العقدين الماضيين، كما سُجلت زيادة في العواصف والجفاف وحرائق الغابات والظواهر الجوية الاستثنائية.
وفي الجانب الاقتصادي، بلغت قيمة الاضرار التي تعرض لها الاقتصاد العالمي من الكوارث الطبيعية خلال هذه الفترة ما يقرب من 3 تريليون دولار.
وامام هذه الاضرار والخسائر البشرية والمادية أصبح موضوع حماية البيئة أولوية أساسية للعديد من الدول، وأدت المعالجات السياسات والقوانين التي تمت صياغتها في هذا المجال الى نشوء ما تعارف على تسميته اقتصاد حماية البيئة او ” الاقتصاد الأخضر”.
حماية البيئة في السياسة الألمانية
تحظى سياسية حماية البيئة في ألمانيا بأولوية على جدول اعمال الحكومة الاتحادية والحكومات الألمانية السابقة فمنذ تولي الائتلاف بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر الحكم في ألمانيا عقب انتخابات العام 1998م تحولت قضية البيئة الى احد البرامج الرئيسية لكل الحكومات الألمانية المتعاقبة فقد شكل دخول حزب الخضر الى الحكومة الاتحادية تغيرا جوهريا من حيث انه عنى ن المجتمع الألماني اصبح اكثر وعياً وادراكاً بأهمية حماية البيئة ونتيجة لذلك تم انتخاب الحزب الذي يركز ويتبنى هذه القضية وقد أدى دخول الحزب الى الحكومة في تحول المطالبات المتعلقة بحماية البيئة الى مشاريع وقرارات وسياسات حكومية. وعقب انتهاء حكم الائتلافي الاشتراكي مع الخضر وتولي انجيلا ميركل لرئاسة الحكومة استمر اهتمام الحكومة بقضايا البيئة والالتزام بها والناتج أولا لزيادة الوعي لدى المجتمع والنخب المختلفة لهذه القضية وثانيا بسبب وجود المستشارة ميركل والتي كانت قد تولت منصب وزير البيئة في حكومة المستشار هلموت كول بداية عقد التسعينات مما يعني ادراكها واهتمامها بالسياسات التي تعنى بالبيئة. وبناءً على هذه التطورات فقد تصدرت المانيا الدول المطالبة والداعمة لتوقيع اتفاقيات دولية تتعلق بخفض انبعاثات الغازات الضارة بالبيئة ومحاربة الاحتباس الحراري. وأصبحت قضايا حماية البيئة أحد علامات السياسة الخارجية الألمانية.
اقتصاد حماية البيئة
تمثل حماية البيئة ومنذ اكثر من عشر سنوات احد المواضيع والاهتمامات الرئيسية للحكومات الالمانية المختلفة والتي صاغت القوانين من اجل تحقيق الحياد المناخي وضمان حماية البيئة، ومع قرار المحكمة الدستورية العليا نهاية شهر ابريل بعدم كفاية قانون حماية البيئة الذي اقرته الحكومة عام 2019م، اقرت الحكومة منتصف شهر مايو تعديلات على القانون، تهدف هذه التغييرات في قانون حماية المناخ إلى تحديد هدف الحياد المناخي في ألمانيا وتحديد شكل مسار حماية المناخ بعد عام 2030م، حيث حددت ألمانيا لنفسها هدف أن تصبح محايدة مناخياً بحلول عام 2045.
تكاليف ومعوقات حماية البيئة
ترى العديد من الصناعات أن أهداف الحد من الانبعاثات الجديدة الأكثر صرامة تمثل عبئاً، اذ بحلول عام 2030م، سيتم خفض 65 في المئة من انبعاثات الغازات الدفيئة بدلاً من 55 في المئة. وذلك مقارنة مع حجم الانبعاثات في العام 1990م. لقد أصبح مشروع قانون الحكومة أكثر تحديداً، على سبيل المثال، يجب إبطاء الانبعاثات في صناعة الطاقة إلى 108 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في نهاية العقد الحالي، بعد أن كان الهدف 175 مليون طن. في الصناعة، تم تخفيض الحد من 140 إلى 119 مليون طن، وفي قطاع النقل من 95 إلى 85 مليون طن.
من خلال هذه التعديلات في متطلبات حماية المناخ، حملت الحكومة الاتحادية الصناعة الألمانية مسؤولية أكبر واعباء أكثر، مما ولد مخاوف من ارتفاع التكاليف مع ضرورة زيادة الاستثمارات في التقنيات الصديقة للبيئة. هذه الاعباء دفعت العديد من ممثلي الاتحادات الصناعية الى التحذير من ان هذه الاعباء والتكاليف قد تهدد القطاع الصناعي بتراجع قدرته التنافسية، كما سيهدد قدرة بعض الشركات على الاستمرار في العمل. فعلى سبيل المثال يشير اتحاد الصناعات الكيميائية VCI إلى أن شركات الصناعات الكيميائية، ومن اجل تحقيق هدف حياد المناخ المنصوص عليه في القانون، تحتاج وحدها إلى المزيد من الكهرباء الخضراء أكثر مما تستهلكه ألمانيا حالياً ككل. كذلك ومن أجل تلبية متطلبات المناخ، يتعين على صناعة الصلب أن تطور تقنيات جديدة تماما باستخدام طاقة الهيدروجين، وهي مسالة بحاجة لمزيد من الاموال والوقت لإنجازها. كما يحاجج أنصار تخفيف الاعباء البيئية على القطاع الصناعي ” إنه لن يساعد المناخ العالمي إذا تم تدمير الصناعة المبتكرة في ألمانيا بينما في أماكن أخرى في العالم ينبعث المزيد من ثاني أكسيد الكربون”. وفي نفس الإطار، يمكن أن تؤدي الأهداف المناخية أيضاً إلى زيادة تكلفة الغذاء، اذ من المحتمل أن يؤدي الالتزام بالزراعة الصديقة للمناخ إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج على المزارعين.
بالإضافة الى التأثيرات السلبية على الصناعة والزراعة سيتأثر المستهلكون أيضاً بالأهداف المناخية الجديدة الأكثر صرامة، التي ستؤدي، على سبيل المثال، إلى زيادة أسعار الوقود أكثر مما كان متوقعاً. وينطبق الشيء نفسه على أسعار زيت التدفئة والغاز الطبيعي، ومن أجل معالجة هذا الوضع، اقرّت الحكومة انه يجب على المُلاك والمستأجرين تقاسم كلفة النفط أو الغاز المستخدم في التدفئة في المستقبل، حيث انه حتى الآن، يتحمل المستأجر وحده التكاليف. لكن اتحاد الملاك قدم شكوى الى المحكمة الدستورية لرفض قرار الحكومة باعتبار انه ليس للمالك أي تأثير على استهلاك المستأجر، وهو ما يمثل نقطة اضافية في عدم الاستقرار الاجتماعي وزيادة المنازعات ومشاعر عدم الرضا في المجتمع.
بلغت نفقات الشركات العاملة في قطاع الصناعة في ألمانيا (باستثناء صناعة البناء) على حماية البيئة خلال العام 2019م نحو 41.3 مليار يورو، وفقا لمكتب الإحصاء الاتحادي (Destatis)، ويتم تكبد هذه النفقات المستمرة لتلبية المعايير البيئية، والتي تتضمن تشغيل أنظمة ومرافق حماية البيئة، كما تشمل أيضًا الرسوم والمساهمات وغيرها من خدمات حماية البيئة غير المتعلقة بالمنشآت، مثل خدمات التخلص من قبل الشركات الخاصة، وتقديم المشورة بشأن حماية البيئة وإدارتها. هذه هي في الأساس تكاليف متابعة من الاستثمارات في الأنظمة والتدابير التي تقضي على الانبعاثات أو تقللها أو تتجنبها.
وفي تفاصيل هذه التكاليف، أنفقت الشركات 29.2 مليار يورو أو 70.8 في المئة من نفقات حماية البيئة على تشغيل أنظمة ومنشآت حماية البيئة. من بينها، نفقات الموظفين البالغة 6,5 مليار يورو والخدمات الخارجية للصيانة والتحليل والقياسات على أنظمة حماية البيئة بقيمة 5,6 مليار يورو. وتم إنفاق النسبة المتبقية البالغة 29,2 في المئة او ما يساوي 12 مليار يورو على شكل الرسوم والمساهمات بالإضافة إلى خدمات حماية البيئة الأخرى.
اما في المجالات التي تم فيها صرف هذه المبالغ، فإن الشركات قد أنفقت حوالي النصف، ما يقرب من 45 في المئة او ما يساوي 18,6 مليار يورو، على إدارة النفايات والتخلص منها وإعادة التدوير، بينما بلغت تدابير إدارة مياه الصرف الصحي 9,5 مليار يورو أو ما يمثل نسبة 23 في المئة.
وشكلت حماية المناخ 9,4 مليار يورو أو 22,8 في المئة من نفقات حماية البيئة للشركات. استحوذت المجالات البيئية الأخرى (التحكم في تلوث الهواء، وحماية ومعالجة التربة والمياه الجوفية والسطحية، والحماية من الضوضاء والاهتزازات، وحماية الأنواع والمحميات الطبيعية) على 3.8 مليار يورو أو 9,2 في المئة من نفقات حماية البيئة.
الفرص والمميزات التي تقدمها حماية البيئة
في الجهة المقابلة يقدر حجم صناعة حماية البيئة بالمليارات، كما انه مسؤول عن خلق مئات الآلاف من فرص العمل في ألمانيا، كما مثلت حماية البيئة والمناخ بشكل متزايد قطاعاً مربحاً للصناعة ومقدمي الخدمات. فبحسب أحدث بيانات المكتب الاتحادي للإحصاء، حققت صناعة حماية البيئة مبيعات بقيمة 73.6 مليار يورو في عام 2019م، بزيادة 3.1 في المئة عن العام السابق. وتم تحقيق ثلاثة أرباع هذه المبيعات في قطاع الصناعة، حيث حقق قطاع صناعة الآلات والمعدات (22.1 مليار يورو)، صناعة المعدات الكهربائية (6.5 مليار يورو) وصناعة السيارات والشاحنات والحافلات وأجزاء لها (5.8 مليار يورو).
كما نما بشكل خاص بناء وصيانة أجهزة التحكم في تلوث الهواء. ارتفعت المبيعات هنا بأكثر من الثلث لتصل إلى 10.5 مليار يورو. في مجال التنقل الكهربائي (السيارات والشاحنات والحافلات) تم تحقيق مبيعات بقيمة 2.5 مليار يورو في عام 2019م، بزيادة قدرها 24 في المئة عن العام السابق. كما أدت تكنولوجيا القيادة والتحكم الموفرة للطاقة، وإنشاء توربينات الرياح، والعزل الحراري للمباني، وتجديد وبناء أنظمة الصرف الصحي إلى مليارات من الأعمال التجارية. كما تؤدي الأهمية المتزايدة لحماية البيئة للاقتصاد الألماني إلى خلق وظائف جديدة، ما يسمى ب “الوظائف الخضراء”، حيث بلغ عدد الموظفين الذين يعملون في صناعة حماية البيئة 305 ألف شخص (أكثر من ثلثيهم في قطاع الصناعة) في العام 2019م، وهو ما يمثل زيادة بنحو 16 ألف شخص مقارنة بالعام السابق.
من جانب اخر، تواصل مداخيل الدولة الألمانية من رسوم تراخيص انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الارتفاع، حيث يجب على الشركات والمصانع المسؤولة عن انبعاثات الغاز الحصول على ترخيص لكميات الغازات التي تتسبب في انبعاثها، وقد بلغت عائدات ألمانيا من تراخيص انبعاثات الغازات خلال النصف الأول من العام 2021م نحو 2,4 مليار يورو، وهو ما يقترب من اجمالي العائدات المسجلة في العام الماضي 2020م والتي بلغت 2,7 مليار. ويعود ذلك الى ارتفاع قيمة ترخيص انبعاثات الطن الواحد من غاز ثاني اكيد الكربون من متوسط 25 يورو للطن الواحد في العام الماضي الى 33 يورو بداية من شهر يناير هذا العام و52 يورو بداية من شهر يونيو العام 2021م. وتتوقع وزارة المالية الاتحادية عائدات اجمالية تبلغ 7,4 مليار يورو لعام 2021م، كما انه من المحتمل أن ترتفع بشكل كبير في السنوات القادمة لأن سعر انبعاثات طن واحد من ثاني أكسيد الكربون سيرتفع إلى 55 يورو بحلول عام 2025م. وتذهب عائدات تراخيص الغازات المنبعثة إلى صندوق الطاقة والمناخ التابع للحكومة الاتحادية، والذي يتم من خلاله تمويل تدابير حماية المناخ المختلفة، مثل تعزيز توفير الطاقة في تجديد المباني.