ينمو الاقتصاد الألماني ويزدهر دون توقف منذ ثماني سنين، وفي حال أخذ المرء بعين الاعتبار أن العام الجاري 2018 لن يكون مختلفاً عن الأعوام الماضية يمكن القول بأن مسيرة نمو اقتصاده لا تزال مستمرة رغم أن بعض الاقتصاديين والخبراء بدأ في طرح السؤآل: إلى متى سيستمر الانتعاش؟ مع ذلك يرى كثيرون أن لا دلائل حتى الآن تشير إلى تراجع النمو الاقتصادي الذي طال دولاً أوروبية وغربية وآسيوية أيضاً. ومع ذلك لا ينتظر خبراء الاقتصاد أي انتكاسة على المدى القصير، لكنهم يحذرون “من تأثيرات قد تحصل على المدى المتوسط”.
في غضون ذلك، أعلن المكتب الإتحادي للإحصاء تحقيق الاقتصاد الألماني نمواً بواقع 2,2 في المائة، وهو الأعلى منذ العام 2011م، ويُرجع الخبراء نسبة النمو العالية التي حققها الاقتصاد الألماني الى عدد من الأسباب يتمثل أبرزها في زيادة الرغبة في الشراء لدى المستهلكين في السوق المحلي وكذلك الى ارتفاع استثمارات الشركات خصوصا في المعدات والآلات الصناعية بالإضافة الى نمو الاقتصاد العالمي وزيادة الطلب على المنتجات الألمانية التي تحمل علامة الجودة (Made in Germany) حيث سجلت الصادرات الألمانية رقما قياسيا وذلك للعام الرابع على التوالي حيث بلغت قيمة الصادرات الألمانية من المعدات والسيارات والبضائع الأخرى خلال الأشهر يناير – نوفمبر 2017م مبلغ 1,18 ترليون يورو بزيادة بنسبة 6,5 % عن نفس الفترة من العام 2016م.
هذا الأداء الجيد للاقتصاد الألماني انعكس أيضاً في زيادة إيرادات الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات حيث تشير الحسابات الأولية الى تحقيق ميزانيات الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات والبلديات والصناديق الاجتماعية، لفائض يقدر بنحو 38,4 مليار يورو وهو الأعلى الذي يتم تحقيقه منذ إعادة تحقيق الوحدة الألمانية.
وكان المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية DIW قد أعلن في تقرير له صدر مطلع شهر يناير الجاري تحت عنوان “الوضع المستقبلي للاقتصاد الألماني” أنه بموازاة استهلاك الألمان المتنامي وقوة التصدير الألمانية ستزداد أيضاً استثمارات الشركات، وسترتفع معدلات التشغيل في سوق العمل”. وأكد رئيس المعهدMarcel Fratzscher أن ألمانيا “تسير على درب الازدهار الاقتصادي”، وعزا المعهد توقعاته “إلى المسار الجيد للاقتصاد العالمي، الذي يستفيد منه الاقتصاد الألماني القوي في الصادرات، وكذلك إلى الاستهلاك الفردي القوي، وانتعاش قطاع البناء وطلبيات المصانع”. وينتظر فراتشر كذلك أن يرتفع معدل التضخم خلال العام الجاري والعام المقبل إلى 1,7 في المائة في المتوسط.
ولفت رئيس المعهد إلى أنه “لا يمكن استبعاد بعض المحاذير العالمية على الاقتصاد الألماني، مثل التوجه نحو الانعزالية الاقتصادية في الولايات المتحدة، والآثار السلبية الناجمة عن قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي”. لكن مدير غرفة التجارة الخارجية في الرابطة الألمانية لشركات صناعة الآلات Ulrich Ackermann قال إن الاتحاد الأوروبي “يمكن أن يستفيد من التوجهات الحمائية للولايات المتحدة في قطاع التجارة الحرة، وأن يصبح شريكا أساسيا للتكتلات الاقتصادية في العالم” لافتاً إلى “وجود فرص للتجارة الحرة رغم توجهات واشنطن”. وأعطى مثالاً على ذلك اتفاقية التجارة الحرة مع اليابان، واتفاقية التجارة الحرة بين كندا والاتحاد الأوروبي CETA التي دخلت حيز التنفيذ. وتابع “أن بدء المفاوضات أخيراً بين الاتحاد الأوروبي والتكتل الاقتصادي لدول أمريكا اللاتينية Mercosur لم يحصل من قبيل الصدفة، وله علاقة بمواقف الولايات المتحدة. وتابع أن الدول تبحث عن بدائل”، مقترحاً أن تبدأ أوروبا البحث عن مناطق أخرى للتجارة معها مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا التي لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة كشريك موثوق. لكن أكرمان أوضح أنه يرى أن الولايات المتحدة سوف تظل أهم سوق فردية للاستيراد وللاستثمارات بالنسبة لشركات صناعة الآلات في ألمانيا.
وأكدت مجموعة من معاهد البحوث الألمانية التفاؤل المتوقع للمرحلة المقبلة، وبخاصة للسنةالحالية. فقد ذكر معهد بحوث الاقتصاد الألماني Ifo في ميونيخ أواسط الشهر الأخير من العام الفائت أن الاقتصاد الألماني سيسجل العام 2018م نمواً بواقع 2,6 في المئة. وقال رئيس المعهد Clemens Fuest “إن الازدهار سيستمر إلى ما أبعد من عام 2018”. كما رفع معهد بحوث الاقتصاد العالمي IfW توقعه للنمو في ألمانيا للعام الحالي إلى 2,5 في المئة. وقال إن الانتعاش سيؤمن استهلاكاً أعلى من جانب المواطنين، وفرص عمل جديدة في البلاد، متوقعاً ارتفاع عدد العاملين فيها إلى 45,2 مليون شخص، بزيادة نحو نصف مليون وظيفة عن عام 2017.
انخفاض غير مسبوق للعاطلين عن العمل في ألمانيا عام 2017
سجلت ألمانيا في العام 2017 المنصرم انخفاضاً غير مسبوق في عدد العاطلين عن العمل. وذكرت الوكالة الاتحادية للعمل BA أن متوسط عدد هؤلاء في ألمانيا بلغ العام الماضي 2،533 مليون عاطل، بتراجع قدره 158 ألفاً عن عام 2016. وتراجع متوسط معدل البطالة في ألمانيا بنسبة 0,4 ليصل إلى 5,7 في المئة. وبالنسبة إلى شهر ديسمبر الماضي قالت الوكالة إن البطالة في البلاد ارتفعت بمقدار 17 ألف شخص فقط مقارنة بشهر نوفمبر الذي سبقه بحيث بلغ عدد العاطلين عن العمل 2,385 مليون شخص، ما يعني أن معدل البطالة بقي على حاله، أي 5,3 في المئة. وعزت الوكالة الاتحادية للعمل سبب ارتفاع عدد العاطلين الشهر الماضي إلى موسم الشتاء فقط. ومقارنة بشهر ديسمبر من العام 2016 تراجعت البطالة بمقدار 183 ألف شخص.
وتحدث رئيس الوكالة Detlef Scheele في مؤتمر صحافي عقده في مقر الوكالة في نورنبيرغ “عن تطور جيد للغاية في سوق العمالة”، لافتاً إلى “أن عدد العاطلين عن العمل ارتفع الشهر الماضي بصورة أقل مما هو معهود موسمياً. وشدّد المسؤول على وجود ازدياد في الطلب على اليد العاملة المؤهلة من جانب الشركات في ألمانيا، مشيراً إلى إن عدد الوظائف الشاغرة في البلاد ارتفعت إلى مليون شخص. وبحسب بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي في مانهايم، بلغ مجمل عدد العاملين في ألمانيا في شهر نوفمبر الماضي 44,74 مليون عامل، بزيادة قدرها 50 ألف عامل عن شهر أكتوبر الماضي، وبزيادة 613 ألف عامل عن نوفمبر 2016. وبحسب بيانات الوكالة الاتحادية للعمل، يعود الارتفاع أيضاً إلى زيادة عدد المنتسبين إلى الصناديق الاجتماعية والذي ارتفع من سبتمبر وحتى أكتوبر الماضي بواقع 69 ألف عامل ليصبح عدد المنتسبين في هذه الصناديق 32,79 مليون عامل، بزيادة قدرها 743 ألف عامل مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2016. وقيَم المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية DIW وضع سوق العمل الألماني بـ “الجيد”، وتوقع رئيسه Marcel Fratzscher “أن يجري توظيف المزيد فيه، وأن يشكل المهاجرون النصف تقريبا”. وأضاف: “دون الهجرة القوية من دول أوروبية لن يبقى مسار الاقتصاد الألماني جيدا”.
إلى ذلك أعلنت الوكالة الاتحادية للعمل أن صندوقها المالي حقق في نهاية عام 2017 فائضا سنوياً أعلى بصورة ملحوظة مما كان متوقعاً منها. وقال رئيسها إن الفائض بلغ 5،5 مليار يورو، بزيادة نحو 700 مليون يورو عن تقديرات الوكالة في نوفمبر الماضي. وتجدر الإشارة إلى أن الوكالة توقعت بالأساس تحقيق فائض بمقدار 1,5 مليار يورو فقط. وأوضح رئيسها أن انخفاض البطالة القوي هو السبب وراء الفائض السنوي القوي، إلى جانب زيادة عدد المشتركين في نظام التأمين الاجتماعي الإجباري. وبذلك يرتفع احتياط وكالة العمل لحالات الطوارئ بصورة أسرع مما كان متوقعا بعد أن وصلت الآن إلى 17 مليار يورو.
وتوقعت الوكالة أن يصل فائض العام المقبل إلى أكثر من ملياري يورو ليرتفع الاحتياط إلى حدود العشرين مليار يورو في نهاية عام 2019، وهو الحدّ الذي يسمح للوكالة بتخفيض المساهمات المالية الشهرية المدفوعة لها من جانب العمال وأرباب العمل لتغطية تكاليف البطالة في البلاد. وكانت كل توقعات الوكالة سابقاً تشير إلى أن الوصول إلى حدّ الـ 20 مليار يورو لن يتحقق قبل 2019. وأكد شيله: “نجهّز أنفسنا لتخفيض المساهمات”، لكنه أشار إلى ضرورة وجود آلية تتيح معاودة رفع الاشتراكات في الأوقات الصعبة”. تجدر الإشارة إلى أن اتحاد دافعي الضرائب وروابط الشركات يطالبون، منذ فترة بتخفيض المساهمات المدفوعة إلى الوكالة الاتحادية للعمل من 3 في المئة إلى 2,7 في المئة من إجمالي الراتب. وأبدى “حكماء الاقتصاد الألماني” في تقريرهم الاقتصادي الأخير تأييدهم لهذه الخطوة.
المانيا تُخفق في حماية المناخ وتعزيز الطاقات المتجددة
رغم طليعية ألمانيا منذ سنوات عديدة في قضايا حماية المناخ من التلوث المتزايد، وتعزيز استخدامات طاقات الشمس والرياح المتجددة، إلا أن الأرقام والوقائع على الأرض تتحدث في السنوات الأخيرة لغة أخرى عن السابق قلّ ما جرت الإشارة إليها. وشهدت مدينة بون خلال شهر نوفمبر الفائت مؤتمراً دولياً لهذه الغاية شارك فيه نحو 25 ألف مشترك من 168 دولة وأكثر من 500 منظمة عاملة في هذا الحقل بهدف إعداد قواعد لمقارنة أفضل بين أهداف الدول للحد من انبعاث الغازات الدفيئة، على أن يتم إقرار “دليل قواعد” في المؤتمر المقبل الذي سيعُقد في بولندا في شهر ديسمبر المقبل.
وواقع الحال أن ألمانيا التي تطالب غيرها بالسعي لخفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في الأجواء، والالتزام بالمعايير المحددة لهذه الانبعاثات كي لا ترتفع الحرارة على الأرض أكثر من درجة ونصف أو درجتين مئويتين على أقصى تقدير، لا تلتزم بنفسها بما أقرته ووافقت عليه على المستوى الدولي. ومن الحقائق التي أصبحت معروفة الآن أكثر أن معامل استخراج وانتاج الفحم الحجري في ألمانيا تنفث في الأجواء سنوياً نحو 300 مليون طن من مادة ثاني اوكسيد الكربون القاتلة والمانعة للبلد من تحقيق هدف حماية المناخ الذي التزم به ويتلخص في خفض حجم الانبعاثات بنسبة 40 في المئة مقارنة مع عام 1990. إلا أن ألمانيا لن تتمكن من خفضه أكثر من 32 في المئة حتى عام 2020. وفي الوقت الذي يصر حزب الخضر على وقف استخراج الفحم الحجري يرفض حزبا الائتلاف المسيحي والحزب الليبرالي التحول السريع إلى الطاقات المتجددة، ويتحججان سوية مع فريق من الحزب الاشتراكي الديمقراطي بمشكلة مصير آلاف العمال العاملين في نحو 20 معمل لانتاج الطاقة التقليدية في ثلاث ولايات. وكان هذا الموضوع أحد الأسباب التي دار خلاف شديد حولها بين ممثلي الحزبين المسيحيين والحزب الليبرالي وحزب الخضر في ما عرف بـ “تحالف جامايكا” (نسبة إلى ألوان علم دولة جامايكا الأسود المعتمد من جانب المسيحيين، والأصفر المعتمد من الليبراليين، والأخضر المعتمد من الخضر) الذي فشل في تشكيل ائتلاف حكومي رباعي.
وفي ما يخص تعزيز وضع الطاقات المتجددة يُظهر واقع الحال أن ألمانيا تبتعد أكثر فأكثر عن تحقيق هدف الاتحاد الأوروبي بأن تصبح نسبة الطاقة الخضراء النظيفة 18 في المئة من مجمل الطاقات المستهلكة في البلاد حتى عام 2020. وانتقد خبراء طاقة ألمان في دراسة لهم نشرت أخيراً الصرف المتنامي للطاقة التقليدية في البلاد، وتراجع الحكومة عن وعودها الكثيرة برفع نسبة الطاقات المتجددة في الاستهلاك اليومي. وأظهرت دراسة في هذا المجال أن النسبة تراجعت هذه السنة من 16,7 إلى 16 في المئة بسبب ازدياد الاستهلاك الكهربائي التقليدي، ما يعني انتكاسة للهدف الموضوع. وحضّ Peter Röttgen الأمين العام للرابطة الاتحادية للطاقات المتجددة BEE الحكومة الاتحادية المقبلة على تحديث اقتصاد الطاقة في البلاد بصورة جذرية. وذكرت الرابطة أن ألمانيا واحدة من خمس دول في الاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة متأخرة عن تحقيق هدف حماية المناخ، والدول الأربع الأخرى هي: ايرلندا، بريطانيا، هولندا واللوكسمبورغ.
هل ألمانيا أمام إضراب عمالي نوعي رغم الانتعاش الاقتصادي؟
تشهد ألمانيا هذه المرة اضراباً عمالياً نوعياً جديداً من حيث طروحاته الجديدة التي تتجاوز مطلب زيادة الأجور لتصل أيضاً إلى خفض ساعات العمل الأسبوعية من 35 إلى 28 ساعة، وهو أمر لم يحدث بعد لا في ألمانيا ولا في أي بلد آخر في الدول الصناعية أو في العالم. وسبق لنا ولفتنا النظر إلى ذلك في نشرة شهر نوفمبر الماضي من “اتجاهات الاقتصاد الألماني” حيث أشرنا فيها إلى أن اتحاد عمال الصناعات المعدنية والكهربائية IG Metall القوي في ألمانيا سيبدأ قريباً إضرابات متفرقة في البلاد تأييداً لمطالب أبرزها خفض ساعات العمل إلى28 ساعة في الأسبوع. ويمثّل الاتحاد نحو 3,9 مليون عامل وموظف في البلاد. وستطال الإضرابات التي بدأت مطلع شهر يناير الجاري، والمقرر أن تجري في شكل تصاعدي، شركات اختيرت بعناية في كل من غرب وجنوب وشرق البلاد، وبالتحديد في ولايتي شمال الراين وستفاليا، وبادن ـ فورتمبورغ، كما في ولايات براندنبورغ، وساكسونيا، وبرلين في الشرق. وسيستمر التحرك اسبوعاً على الأقل وسيرتفع عدد المشاركين فيه إلى نحو 700 ألف عامل وعاملة في فترة الذروة.
ويطالب الاتحاد والنقابة بزيادة على الأجور نسبتها 6 في المئة بينما يقترح اتحاد أرباب العمل 2 في المئة، لكن غالباً ما يتوصل الجانبان إلى تسوية وسط في هذه النقطة. ويدور الخلاف غير المسبوق هذه المرة حول مطلب الانتقال إلى العمل من 35 إلى 28 ساعة أسبوعياً للراغبين في ذلك إذا كانوا يرون أنهم مضطرون لفعل ذلك لأسباب صحية أو نفسية أو عائلية، مع تعويض جزئي عن النقص في الأرباح لأرباب العمل. ويقترح الاتحاد أن تكون هذه الصيغة من العمل صالحة لعامين كتجربة، لكن أرباب العمل في القطاع يعتبرون الاقتراح غير مقبول وغير عملي، إذ أن ثلث العاملين تقريباً، أي 1,3 مليون عامل، سيكونون مؤهلين للاستفادة من ترتيب مماثل، بخاصة العاملين في نظام الورديات الثلاث. ويُخشى أيضاً أن يؤدي ذلك إلى تصدع إداري وشغور في الوظائف وتراجع في الانتاج. كما يشدد الاتحاد على أخطار التمييز بحق الموظفين العاملين بدوام جزئي لجهة خفض أجورهم في شكل أكبر، في حال تحقيق المطلب.
وتعثرت المحادثات حول هذه المسألة خلال الخريف الفائت، وفي حال استمر الخلاف سشتهد المرحلة القادمة اضراباً فعلياً مفتوحاً، وهو حدث نادر في ألمانيا، علماً أن اتحاد عمال الصناعات المعدنية والكهربائية لم ينظم اضراباً وطنياً منذ عام 2003، لذا شدد رئيسه Jörg Hofmann على تحذير أصحاب العمل من التعنت، مؤكداً أن اتحاده لن يتراجع عن مطلب خفض ساعات العمل مع الإبقاء على نفس الراتب تقريباً.
ويهدد الاتحاد برفع القضية إلى القضاء للحكم فيها في ظلّ قلق أرباب العمل من حصول مواجهات غير محددة في قطاعات صناعية مزدهرة ورئيسة لألمانيا مثل السيارات والآلات، وخطوة تدفع بنقابات عمالية أخرى لرفع المطلب ذاته. ويأتي اتحاد العمال الى طاولة المفاوضات من موقع القوة هذه المرة على خلفية توقعات إيجابية جداً للأداء الاقتصادي في البلاد. ويرى الباحث Enzo Weber من معهد سوق العمل والمهنIAB التابع لوكالة العمل الاتحادية أن مطلب خفض ساعات العمل “يلمس فعلاً عَصَب عصرنا”، مشيراً إلى أن العديد من العاملين “لا يرغب بساعات عمل أقل، وإنما بأن يحدد بنفسه مدى قدراته، الأمر الذي يوّلد لديه راحة نفسية تدفع به للبقاء في المؤسسة وزيادة انتاجيته فيها.
مبادرة شركات ألمانية لتوظيف لاجئين “تبقى قطرة في بحر”
لا يكفي توفير الطعام والمأوى للاجئين كي يندمجوا في المجتمع الألماني، ولا بد من إتاحة الفرص لهم لتعلم لغة البلاد، وعاداتها، وأهم مبادئ الدستور والقوانين فيها، وقسماً من تاريخها وثقافتها لتسهيل عملية الاندماج في المجتمع. وبرزت لدى شركة Deutsche Telekom الألمانية أخيراً، ومقرها الرئيسي في بون، فكرة تهدف إلى مساعدة اللاجئين على ذلك. وكانت الشركة واحدة من 36 شركة متوسطة الحجم أو كبيرة أطلقت أواخر عام 2016 مبادرة “نحن معا”، لتحقيق دمج أفضل للاجئين من خلال تدريبهم على العمل وكيفية التعامل في مجتمعهم الجديد. ويبلغ عدد العاملين في تيليكوم نحو 218 ألف موظف على المستوى العالمي، وتحتاج باستمرار إلى موظفين وعاملين جدد.
واتبعت تيليكوم أسلوباً خاصا بها، إذ وفّرت للاجئين المتقدمين الذين رعتهم على مدى ستة أشهر تدريباً مدفوع الأجر بهدف اختيار الأفضل بينهم لضمّه إلى طاقم عملها. ولم تعتمد الشركة على الشهادات المدرسية أو الجامعية وغيرها التي قدمها اللاجئون فقط، بل أرادت اعتماد الانطباع الشخصي عن عمل المرشحين ومدى مهاراتهم وكفاءاتهم العملية. وأدت التجارب الأولى مع الموظفين الجدد في بعض الأحيان إلى أن يلمس رئيس القسم أن هذا المتدرب أو ذاك مناسب للعمل في قسمه أو قسم آخر على سبيل المثال. وتم السماح لعدد من الصحافيين الألمان بالإطلاع على عمل هؤلاء للكتابة عنه.
وكانت المفاجأة أن الموظف الذي أتى ليوضح مبادئ الشركة للمرشحين للعمل فيها لاجئ عراقي الأصل كان قد تلقى قبل سنوات دورة تدريبية مماثلة لهم وأنهاها بنجاح، وأصبح الآن مدرباً في الشركة. وتحدث الموظف، وأسمه بدر، باللغة الألمانية عن مبادئ الشركة ليظهر مدى قدرة المرء على التعلم إن أراد ذلك بالفعل للوصول إلى مبتغاه، وهو الحصول على فرصة عمل. لذا لم يكن مهماً مدى فهم اللاجئين المتدربين لما ذكره لهم بالألمانية، وإنما المهم أخذه مثالاً يحتذى به. وتحدث بدر بعد ذلك عن نفسه فقال إنه درس الفيزياء في العراق، ويعمل الآن في قسم الاتصالات بدلاً من الجلوس في غرفته أو التسكع على الطرقات. وشرح بعد ذلك للشباب المهتمين الفرص المتاحة أمامهم. وبعد التحاور مع أحدهم، وهو محام لم يتمكن من معادلة شهادته هنا، نصحه بتعلم إدارة الأعمال، الأمر الذي يسهّل له الحصول على فرصة عمل في ألمانيا. وقالت الشابة مجد من سورية بعد اجراء مقابلات أولية معها في تيليكوم لمعرفة مستواها العلمي والتقني إن لديها إحساس جيد بأنها ستُقبل في الشركة للحصول على التدريب الذي سيؤهلها للحصول على عمل. وعملت مجد في بلدها قبل اندلاع الحرب الأهلية كأمينة مكتبة، وتتحدث اللغة الإنكليزية بشكل جيد، كما بدأت في تعلم اللغة الألمانية. وذكرت Wiers Kathie، احدى المسؤولات عن دفعة المتدربين الجدد في الشركة الألمانية، بأنها تعتقد بأن مجد ستحصل على عمل لأن الشركة بحاجة إلى عاملين يتحدثون الإنكليزية كذلك.
وتحدثت Barbara Kostanso مديرة مشروع “تيليكوم يساعد” عن ثلاثة شبان أنهوا فترة تدريبهم في الشركة، فقالت إنهم “نموذج يحتذى بالنسبة للآخرين الذين لم يبدأو فترة التدرّب بعد”. أحد هؤلاء كان لاجئا من سوريا درس السياحة في بلده، وتدرب بعدها في قسم العلاقات والاتصال. وأضافت أن هذا الشاب “نموذج يوضح مشكلة التوظيف التقليدي المعتمد من جانب وكالات التوظيف لاستيعاب شخص من ذات المهنة التي تحتاجها الشركة. وتابعت أن النموذج الحديث للتوظيف “يركز أكثر على قدرات ومهارات المرشحين”، موضحة أن الشاب السوري المشار إليه درس السياحة، ما يعني أنه قادر، وبكل سهولة، على التواصل مع الآخرين، لذا تمت الاستفادة منه في مجال الاتصالات. وبالطبع لا يمثل هؤلاء المتقدمون جميع اللاجئين، إلا أن وجودهم هنا يتناسب مع المبادرة التي أخذت نهجاً مفتوحاً في التعامل، الأمر الذي تبحث عنه شركة الاتصالات الألمانية.
ومن المبكر بالطبع الإجابة عما إذا كان لمشروع تشغيل اللاجئين جدوى لأنه بدأ منذ عام فقط، لذا لا تملك السيدة كوستانزو إجابة كافية عن السؤال وعن مصير المرشحين، وما إذا كان هناك من سيتم توظيفه منهم بشكل كامل في الشركة، لكنها تتذكر أنه في بداية المشروع كان عدد المتقدمين من اللاجئين يساوي عدد أماكن التدريب المتاحة، ثم بدأت الأمور تتغير مع ازدياد أعداد المتقدمين. وأضافت: “كان لدينا هذا العام 340 متقدماً من اللاجئين و115 مكان تدريب فقط، وقد يكون الأمر مساعداً لو شاركت أعداد أكبر من الشركات الألمانية في هذه المبادرة لتوظيف اللاجئين، لكن يُخشى مع الأعداد القليلة من أماكن التدريب وأعداد اللاجئين الكبيرة الراغبة في التوظيف، أن تكون المبادرة مجرد قطرة في بحر الأعداد الكبيرة منهم”.