أعرب اقتصاديو ألمانيا عن اعتقادهم بأن الاقتصاد الألماني في وضع جيد جداً، وأنه لم يصل بعد إلى ذروة نموه المتوقعة لهذه السنة. لكن العديد منهم حذّر في الوقت ذاته من محاذير غير قليلة قد تعود وتلعب دوراً سلبياً فيه، منها تراجع الصادرات الألمانية إلى الخارج، وفضحية تلاعب شركات السيارات الألمانية بانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في سيارات الديزل وتراجع نسبة الشارين لها في الداخل والخارج. وأمام هذه الحالة المربكة تراجع مؤشر Ifo الصادر عن معهد البحوث الاقتصادية في ميونيخ، والخاص بتطور أجواء الشركات الألمانية بصورة طفيفة من 106 نقاط في شهر يوليو إلى 105,9 نقطة في شهر أغسطس الفائت، بعد استطلاع دوري طال سبعة آلاف شركة ألمانية شهرياً، وهو التراجع الأول منذ مطلع العام الحالي. كما تراجع مؤشر الأعمال الجارية من 125 إلى 124,6 نقطة فيما ارتفع مؤشر التوقعات المنتظرة من 107,3 إلى 107,9 نقطة بعدما كان خبراء المعهد توقعوا تراجعه إلى 106,6 نقطة.
غير أن المركز الأوروبي للبحوث الاقتصادية ZEW في مانهايم ذكر أن توقعات خبراء المال والبورصة الـ 300 تقريباً الذين يستفتيهم شهرياً تراجعت في شهر أغسطس بسبب التبلبل الذي حصل بسبب تدني الصادرات من ألمانيا، والتأثيرات المالية لفضيحة العوادم في سيارات الديزل الألمانية في وقت تحسن فيه مؤشر وضع الأعمال الجارية في البلاد بعض الشيء وارتفع 0,3 نقطة ليصبح 86,7 نقطة. وعقّب رئيس المركز Achim Wambach على ذلك بالقول إنه رغم تراجع التوقعات في ألمانيا إلا أن آفاق النمو فيها لا تزال قائمة على مستوى عالٍ.
وفي الإجمال ينظر خبراء الاقتصاد الألمان إلى أن أن نمو الاقتصاد الألماني لا يزال يسير في اتجاه تصاعدي، وأن حجمه يتزايد بالمقارنة مع العام 2016. وقال كبير خبراء شركة Allianz الضخمة للتأمينات Gregor Ederإن رجال الاقتصاد يتوقعون أن يحقق معدل النمو في البلاد هذا العام نسبة 0,5 في المئة كل ربع سنة، وأن شركته تنتظر نمواَ لألمانيا قدره 2,2 في المئة في نهاية العام 2017 الجاري مقابل 1,9 في المئة عن عام 2016. وقال رئيس المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية DIW في برلين Marcel Fratzscher إنه ينتظر بدوره أن يستفيد المواطنون الألمان، وكذلك الشركات والدولة الألمانية من ثمار هذا النمو في السنوات القادمة، متوقعاً أن لا يقل معدل الناتج القومي السنوي لألمانيا عن مقدار 1,9 في المئة في نهاية كل من سنتي 2017 و2018 على أن يتراجع بعد ذلك إلى 1,6 في المئة عام 2019. وشدد رئيس المعهد فراتشر على ضرورة أن تلجأ الدولة إلى المزيد من الاستثمار في التعليم، وفي تحسين البنى التحتية للمواصلات، وتعزيز الشبكات الرقمية. وحذر كذلك من أن النمو الجاري اليوم لن يستمر طويلاً “لكونه قائم على أسس ملائمة مثل الفوائد المنخفضة والأوضاع الجيدة في سوق العمالة، وهي لن تبقى إلى الأبد” بحسب تعبيره.
وأظهر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت تفاؤلاً في ما يخص تطور النمو في دول منطقة اليورو أكثر مما كان يعتقده قبل ثلاثة أشهر من الآن. وقال بيان صادر عنه إنه ينتظر الآن نمواً أعلى في الناتج القومي السنوي لدول المنطقة يبلغ 2,2 في المئة في المتوسط لعام 2018 بدلاً من 1,9 في المئة، ونموا من 1,7 في المئة للعام 2019. وذكر البيان أن لا تغيير سيحصل حالياً في سياسة الفوائد المتبعة، وأن الفائدة ستبقى على مستوى صفر في المئة حتى اشعار آخر.
البطالة ترتفع طفيفاً في أغسطس وتبقى أدنى منها قبل عام
سجّلت البطالة في ألمانيا ارتفاعاً طفيفاً في ألمانيا في شهر أغسطس المنصرم لم يتجاوز الـ 0,1 في المئة عن شهر يوليو. وذكرت وكالة العمل الاتحادية BA أن عدد العاطلين عن العمل في البلاد بلغ 2,545 مليون شخص، بزيادة 27 ألفاً عن شهر يوليو الماضي، وارتفع معدل البطالة من 5,6 إلى 5,7 في المئة، لكنها لفتت إلى إن البطالة في الشهر المذكور هي الأقل التي تسجّل منذ الوحدة الألمانية قبل 27 سنة. وبالمقارنة مع عدد العاطلين عن العمل في أغسطس 2016 تراجع عدد الباحثين عن عمل بمقدار 139 الف شخص تبعاً لما ذكره مسؤولو الوكالة.
واكد رئيس وكالة العمل Detlef Scheele من جديد أن سوق العمل الألمانية “تتطور بصورة إيجابية على خلفية استمرار الطلب على الأيدي العاملة، وأن تراجعها الطفيف يعود لأسباب موسمية بحتة”. وتابع أن عدد فرص العمل الشاغرة في الشركات الألمانية بلغت في أغسطس 765 ألف وظيفة، بزيادة 80 ألفاً عن الشهر ذاته من عام 2016. وبلغ العدد الأجمالي للعاملين في ألمانيا في أغسطس الماضي 44,2 مليون شخص، بزيادة 664 ألفاً عنه في 2016. ولا يشمل التعداد الرسمي هذا نحو 900 ألف عامل وعاملة يتواجدون بصورة مستمرة في دورات تدريب مهني أو تعليمي أو تخصصي لتحسين كفاءاتهم قبل العودة من جديد إلى سوق العمل، أو كمرضى لفترات غير قصيرة.
وذكرت نتائج دراسة اجرهها معهد العلوم الاجتماعية في جامعة لايبزغ أخيراً أن غالبية الألمان تشعر براحة بال لناحية ضمان عملها، وأن الخوف من فقدانه يتراجع بصورة ملموسة. وقال Holger Lengfeld مسؤول الفريق الباحث في الدراسة إن نحو ثلث العاملين يتخوف من خسارة عمله أو وظيفته، وهو أدنى رقم يسجّل منذ الوحدة الألمانية. وأضاف أن عدد العاملين الخائفين من البطالة انخفض إلى النصف تقريباً منذ عام 2006، مشيراً إلى أن سبب الانخفاض الكبير يعود إلى تراجع قلق الألمان الشرقيين الذين عانوا من البطالة لفترة طويلة بعد قيام الوحدة الألمانية عام 1990، ولو أن التخوف من فقدان العمل لا يزال أعلى بعض الشيء في شرق البلاد من غربها.
وعلى مستوى الرجل والمرأة رأت الدراسة أن درجة القلق والتخوف لدى النساء والرجال من مختلف الأعمار والمناطق والفئات الاجتماعية متساوية تقريباً، ومتساوية أيضاً تقريباً في تراجعها بسبب الانتعاش الاقتصادي الحاصل والطلب المتزايد على الأيدي العاملة. وقال كبير الباحثين لنغفيلد إن “مشاعر الأمان العقلاني” ازداد لدى جميع العاملين والعاملات رغم استمرار وجود محاذير واقعية من فقدان العمل”. ويحلل الباحثون في المعهد سنوياً نتائج استطلاعات أجراها المعهد الألماني لبحوث الاقتصاد بين أعوام 1991 و 2016.
الانتخابات الألمانية: هل يؤمِّن اقتصاد السوق العدالة الاجتماعية؟
شهدت الحملات الانتخابية الجارية في ألمانيا حالياً نقاشات حول مواضيع متعددة بينها موضوع العدالة الاجتماعية في البلاد الذي يهم القسم الأكبر من الناخبين، وبخاصة الذين لا يحصلون من الأعمال والوظائف التي يقومون بها على ما يكفي عيشهم وعيش عائلاتهم. وطرحت أحزاب اليسار في البلاد بصورة خاصة، مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار وحزب الخضر، أسئلة عديدة في حملاتها الانتخابية الجارية حول ما إذا كانت السياسة الاقتصادية الاجتماعية المتبعة في ألمانيا، وفي الدول الأوروبية اجمالاً، تؤمن العدالة الاجتماعية للمواطنين. وكان هذا الموضوع من المواضيع التي ناقشها مرشح الحزب الاشتراكي لمنصب المستشار Martin Schulz في المناظرة التلفزيونية التي أجراها مطلع هذا الشهر مع المستشارة الألمانية Angel Merkel وشاهدها أكثر من 16 مليون شخص قبل أسبوعين ونصف من موعد الانتخابات النيابية في ألمانيا التي ستجري في 24 سبتمبر الحالي. ومعروف كذلك أن الحزب المسيحي الديمقراطي يعتمد أيضاً هذه المقولة في برامجه منذ تأسيسه، ويعمل عليها كذلك باعتبارها ركيزة أساسية لحق الإنسان في عيش محترم. ويرجع موقف الجميع إلى الدستور الألماني الذي تنص مادة فيه بوضوح على صيانة كرامة الانسان وحقوقه.
والجواب عن مثل هكذا سؤال ليس سهلاً أبداً. البعض يكتفي بالاجابة بـ “نعم” أو “لا” أو “بين بين” تبعا لمشاعره الخاصة ولأوضاع العمل الذي يمارسه ومردوده المالي. والبعض الآخر، وبخاصة الباحثون، يطرحون السؤال بدورهم ويبحثون في كيفية التحقق من الأمر على أرض الواقع من خلال الاستقصاء، والتحليل والاستنتاج. وهذا ما فعله الباحثان الاقتصاديان Manuela Barišsic وAndreas Peichl اللذان بدآ منذ أكثر من عام بتنفيذ دراسة واسعة شملت الفترة ما بين 1950 و 2014 لمعرفة مدى صحة القول بأن اقتصاد السوق في ألمانيا اقتصاد اجتماعي عادل. وللوصول إلى مبتغاهما وضعا أدوات العمل المطلوبة التي تسمح لهما بقياس ما إذا كانت الحكومات الألمانية تمكنت على مدى العقود الماضية من تحقيق هذا الوعد المركزي. فمن جهة تقول مركل وحزبها “إن الالمان يعيشون في أجمل وأفضل بلد حصلنا عليه”، ومن جهة أخرى يقول شولتز وحزبه “إن الوقت حان لإقامة عدالة اجتماعية أكبر”.
وقال الباحثان إنه بين عام الوحدة الألمانية 1991 وعام 2014 لم ترتفع المعاشات أكثر من 1,3 في المئة في السنة. وبما أن معدل النمو الاقتصادي السنوي لم يتجاوز الـ 0,6 في المئة وسطياً لم يستفد منه نحو 40 في المئة من أصحاب الدخل المتدني في البلاد، علماً أن نسبة هؤلاء في شرق ألمانيا أعلى منها في غربها حيث لم تتجاوز النسبة هناك الـ 18 في المئة، وبالتالي لا يمكن الحديث هنا عن وجود عدالة اجتماعية حقيقية. وقالت الباحثة Barišić إن الدراسة تظهر أنه “لولا تأثيرات التوزيع اللاحق لنظامي الضرائب والتحويلات لكان وضع اللامساواة أكبر داخل المجتمع”. وأوضحت الدراسة إن معدل المتواجدين على حافة الفقر في ألمانيا ازداد في السنوات العشر الأخيرة رغم الانتعاش الاقتصادي الحاصل في البلاد. وتبعاً للمؤشر الذي جرى اعتماده منذ عام 1950 في البلاد، وأبان صعوداً مستمراً في وضع التوزيع العادل للنمو فيه، تبدل الأمر بعد الوحدة الألمانية عام 1990 حيث انخفض المؤشر بصورة ملموسة بسبب عدم المساواة في الدخل وارتفاع حالات البطالة والفقر. ويرى الباحث Peichl “أن الازدهار في المانيا اليوم هو أكبر من أي وقت مضى، وأن العمل على تمكين أكبر عدد من المواطنين على الإفادة منه مادياً يبقى التحدي الأكبر لأية سوق اقتصادية عادلة”. بمعنى آخر: “نعم توجد عدالة اجتماعية في ألمانيا، ولكن…”.
الشعبويون يستفيدون من أنصاف الأميين والخائفين من البطالة
من ينتخب الأحزاب الشعبوية في ألمانيا وما الدافع إلى ذلك: سؤالان من أسئلة عديدة طرحتها مؤسسة Hans-Böckler Stiftung القريبة من النقابات العمالية الألمانية أخيراً، وكلّفت معهد policy matters بتنفيذ استطلاع أجراه هذه السنة مع خمسة آلاف شخص ألماني فوق الثامنة عشرة من العمر. واستعرض الباحثون مع هؤلاء قناعاتهم السياسية والقيم التي يتبنونها ورأيهم بعالم العمل وتوصلوا في نهاية البحث والدراسة إلى استنتاج عام وشامل، وهو أن المواطنين الخائفين من فقدان عملهم بسبب عدم تأهلهم الكافي، وفقدان السيطرة على حياتهم ومستقبلهم، هم من يسير غالباً خلف السياسيين الشعبويين.
وفي التفاصيل وجد الباحثون أن 53 في المئة من العيّنة التي اختاروها يوافقون على أن المجتمع الألماني ينقسم أكثر فأكثر عن بعضه البعض فيما يرى 23 في المئة فقط أنه لا يزال يوجد الكثير من التعاضد الاجتماعي بين الناس. وفي الوقت الذي أعرب 55 في المئة عن قلقهم من مستقبل أولادهم أعرب 49 في المئة عن قلقهم من قلة معاشهم التقاعدي. ويشعر حوالي 50 في المئة من المستطلَعين بأن مصالحهم غير ممثلة بما فيه الكفاية من خلال السياسيين ومؤسسات الدولة. ويعتقد 49 في المئة بأن السياسيين يقومون بالقليل من أجلهم مقارنة مع ما يفعلونه مع فئات أخرى من الشعب. وإلى جانب عوامل سياسية قوية مثل رفض اللجوء، ووجود ثقة ضئيلة في ديمقراطية المؤسسات التمثيلية، “يتحول عدم ارتياحهم من وضعهم الشخصي وحياتهم محرّكاً أساسياً لتصرفاتهم” التي تدفعهم حالياً إلى انتخاب الحزب الشعبوي اليميني المتطرف “البديل من أجل ألمانيا” AFD.
وسجّل الباحثون أن نقطة الانطلاق في خيارهم هذا لا ترتكز على الوضع الاجتماعي الموضوعي الذي يعيشون فيه، وإنما قبل كل شيء على تشخيصهم الشخصي لوضعهم الفردي. من هنا فان أغلبية من ينتخب الحزب أعلاه أو يفكر في انتخابه لا تعاني من أوضاع مالية صعبة بالضرورة، إلا أنها تشعر بأنها غير محميّة بما فيه الكفاية من أزمات قد تقع فيها لاحقاً. وذكر 67 في المئة من ناخبي الحزب المذكور أنهم قلقون من وضعهم الشخصي المستقبلي، وتبلغ نسبة هذه الفئة القلقة في ألمانيا 46 في المئة. وكشف البحث أن الأشخاص الذين يميلون بسرعة إلى الأفكار الشعبوية هم أناس يتّصفون بمشاعر الانكماش والضعف. من هنا فان ناخبي حزب البديل من أجل ألمانيا يضعون أنفسهم في مرتبة اجتماعية أقل مما هم عليه بغض النظر عن دخلهم المالي الشهري، بل وغالباً ما يدّعون بأنهم يعيشون حياة اجتماعية أقل قيمة مما كانت لأهاليهم. اما القسم الأكبر من ناخبي حزب البديل فينتمون إلى الفئة الأسفل من الطبقة المتوسطة، وبخاصة إلى فئة العمال والموظفين، لكن هذا لا يعني أن الفئات الغنية في المجتمع لا تنتخب هذا الحزب أو لا تفكر في انتخابه. والقول بأن غالبية العاطلين عن العمل تنتخب الحزب غير صحيح أيضاً، لكن الصحيح هو أن من يفقد عمله ويخشى عدم الحصول على عمل آخر، أو يعمل فقط لبضع ساعات في اليوم أو في الأسبوع يتقرّب أكثر إلى الأحزاب اليمينية، ذلك أن العمل أمر مهم، والشعور بفقدان السيطرة والضياع يرفع امكان التحول إلى اليمين عموماً، واليمين المتطرف خصوصاً.
إلى ذلك يوجد بين اعضاء حزب البديل ومؤيديه مقولات حول أن التحول إلى الرقمية Digital يزيد الرقابة والمراقبة على المرء وعلى نوعية عمله. وثبت لدى الباحثين أن من يعمل استنادا إلى عقد عمل كامل يؤمن له الحماية من فقدان عمله، ويشعر بالتالي بضمان مستقبله، مؤهل أكثر للابتعاد عن أحزاب اليمين الشعبوي. وفي مقارنة بين مواقف الألمان ككل وبين مؤيدي حزب البديل منهم، نشر الباحثون الاستطلاع التالي:
- عن التأمين المالي للشيخوخة: ذكر 49 في المئة من الألمان أن لديهم قلق من عدم ضمان ذلك، مقابل 63 في المئة من ناخبي حزب البديل.
- عن تأمين مستقبل الأولاد: أعرب 45 في المئة من الألمان عن وجود قلق لديهم، مقابل 60 في المئة من ناخبي حزب البديل.
- عن الوضع المالي الشخصي: ذكر 40 في المئة من الألمان أن لديهم قلقاً مقابل، 53 في المئة من ناخبي حزب البديل.
- عن الجريمة والعنف المنزلي: قال 38 في المئة من الألمان إنهم قلقون من ذلك، مقابل 62 في المئة من ناخبي حزب البديل.
- عن مدى ضمان وضع العمل: ذكر 26 في المئة من الألمان أن لديهم قلق من الأمر، مقابل 34 في المئة من ناخبي حزب البديل.
بريكزيت: لندن تدعو لنهج “أكثر مرونة” وتفكر بتشديد الهجرة
انتهت في بروكسل في 31 أغسطس الفائت الجولة الثالثة من مفاوضات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بين الوفدين الأوروبي برئاسة ميشيل بارنييه، والبريطاني برئاسة الوزير ديفيد ديفيس، دون نتائج تذكر كما كان متوقعاً. وأكد رئيس الوفد الأوروبي المفاوض ميشيل بارنييه أن الملف الوحيد الذي لوحظ فيه التقدم هو مسألة الحدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، لكنه أكد أن الأمر “لا يزال غير كاف، ولا زلنا بعيدين عن التقدم الذي يسمح لي بتقديم توصية للمجلس الوزاري الأوروبي بفتح التفاوض مع بريطانيا بشأن ترتيب العلاقة المستقبلية معها”. ورفض ما اعتبره “تحركاً بريطانيا مقصوداً، للاحتفاظ بحق توجيه السوق الأوروبية الموحدة بعد خروجها من الاتحاد”، مضيفاً أن الوثائق التي قدمتها بريطانيا “تحفل بنصوص تدل على رغبة لندن في الاستمرار في الاستفادة من إيجابيات هذه السوق مع البقاء خارجها”. وتابع: “هذا غير ممكن، إذ لقراركم الانسحاب من الاتحاد نتائج اقتصادية واجتماعية وإنسانية ومالية”. وعبّر بارنييه عن استعداده لتكثيف وتسريع وتيرة المفاوضات من أجل التوصل إلى حل.
أما رئيس الوفد البريطاني المفاوض، ديفيس، فكان أكثر تفاؤلاً مؤكداً أن الجولة الثالثة “حققت بعض التقدم، لكنه أقر باستمرار وجود الخلافات بشأن القضايا الرئيسية، خاصة التسوية المالية، مشيراً إلى أن بروكسل تطالب بلاده بمبلغ كبير، وقال:”نحن أيضاً لدينا التزامات أمام دافعي الضرائب البريطانيين، لذلك سنناقش الأمر نقطة بنقطة للتوصل إلى حل”. وشدد على ضرورة أن يتبنى الطرف الأوروبي نهجاً ” أكثر مرونة وابتكاراً”، رافضاً الاتهامات الأوروبية بأن بلاده تخلط بين الانفصال والشراكة المستقبلية. وتعهد ديفيس بأن تقوم بلاده بإصدار وثائق جديدة خلال الفترة القادمة لتقدم مزيداً من التفاصيل حول مستقبل العلاقة مع الاتحاد، الأمر الذي تسبب في امتعاض الطرف الأوروبي بسبب قناعته بأن رسائله لم تلق آذاناً صاغية لدى لندن حتى الآن.
وبدلاً من أن تتبنى لندن نفسها “نهجاً أكثر مرونة وابتكاراً” ستلجأ قريباً على ما يبدو إلى تشديد شروط الهجرة إليها من أوروبا، الأمر الذي سيؤزم العلاقة أكثر مع بروكسيل. فقد كشفت صحيفة Guardian البريطانية أخيراً بعد حصولها على وثيقة حكومية أن لندن تخطط بعد “البريكزيت” لخفض فترة السماح بالإقامة والعمل فيها للعمال الأوروبيين غير المتخصصين إلى سنتين فقط، وتحديد فترة من ثلاث إلى خمس سنوات لأصحاب التخصص شرط أن يحظى العامل أو المتخصص البريطاني بالأولية. وتتضمن الوثيقة تحديداً صارماً أيضاً لمسألة لمّ الشمل. ويوجد في بريطانيا حالياً 3,6 مليون أوروبي يعملون في مختلف القطاعات، ثلثهم في لندن.
وأمام العرقلة البريطانية الواضحة تقرر أن يبحث البرلمان الأوروبي بدعم من المفوضية الأوروبية، تحذير الشركات البريطانية من أن شهادات انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المباعة إليها من بروكسيل سوف تفقد صلاحيتها في حال لم يتم التوصل مع لندن على انفصال منظم ومقبول يحدد حقوق وواجبات كل طرف. يُذكر أن على رئيس الوفد الأوروبي المفاوض بارنييه تقديم تقرير إلى المفوضية الشهر المقبل عن سير المفاوضات من لندن، إلا أن مصادر مُقرّبة منه نقلت بتاريخ 13 سبتمبر بأنه غير قادر على إعلان تحقيق أي تقدم جوهري في المفاوضات. إضافة إلى ذلك طلبت لندن تأجيل موعد جولة المفاوضات الرابعة من 18 إلى 25 سبتمبر الحالي لحاجتها إلى المزيد من التشاور، لكن السبب الحقيقي هو أن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي سوف تُلقي خطاباً حول خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي يوم 25 سبتمبر 2017م.
في المقابل رأى باحثون في Otto Beisheim School of Management في ألمانيا أن فرانكفورت بدأت تجذب العديد من البنوك الدولية والأوروبية إليها بعد قرار بريطانيا بالانسحاب. ولفت هؤلاء في دراسة وضعوها أخيراً إلى أن المدينة المصرفية الألمانية ومنطقة Main التابعة لها التي تضم البنك المركزي الأوروبي والبورصة وشركات التأمين ستستقطب مستقبلاً عشرات آلاف فرص العمل خارج قطاع المصارف، على سبيل المثال في قطاع العقارات، في الخدمات العامة والخدمات العلمية والتقنية، وفي الصناعة التحويلية وصناعة السيارات. وتوقعت الدراسة انتقال عدد غير قليل من فروع البنوك الدولية من لندن إلى فرانكفورت بعد الانفصال.
ورأى رئيس اتحاد الصناعة الألمانية Dieter Kempf قبل بدء الجولة الثالثة من المفاوضات أن حكومة لندن “خالية من أي نهج واضح، وفي ظلّ هذه الشروط لا يمكن توقع حصول أي تقدم في المفاوضات الجارية”. وفي الجهة المقابلة خرج حزب العمال البريطاني بموقف جديد من “البريكزيت” يبتعد فيه عن البلبلة التي وقع فيها وتأييده لخروج بلده بصورة نهائية من الاتحادالأوروبي بعد عامين. وهو يدعو الآن إلى انسحاب شكلي من الاتحاد في شهر مارس 2019 القادم والبقاء عضواً في السوق الأوروبية والاتحاد الجمركي لعدة سنوات على الأقل كمرحلة انتقالية في ظل الشروط السارية حالياً في الاتحاد، على أن تلتزم لندن بمواصلة دفع حصتها المالية في موازنة الاتحاد السنوية وتقبل قرارات المحكمة الأوروبية العليا، وتحافظ على حرية تنقل العمالة من وإلى بريطانيا. وقال حزب العمال إنه إن وصل إلى الحكم سيكون مستعداً لتنفيذ كل ذلك، الأمر الذي يرفضه حزب المحافظين.