يعد الهيدروجين الأخضر أحد العناصر الرئيسية في خطط الحكومة الألمانية لتحقيق الحياد المناخي في العام 2045م، وتتمثل الأهمية الخاصة للهيدروجين الأخضر في انه سوف يلعب دورًا محوريًا في تحويل قطاع الصناعة الحيوي والاساسي في ألمانيا نحو الحياد المناخي، حيث سيُستخدم في القطاعات ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة وايضًا التي يصعب فيها استخدام الكهرباء المنتجة عبر مصادر الطاقة المتجددة بشكل مباشر، مثل صناعة الصلب والصناعات الكيميائية، وكذلك في مجالات النقل الثقيل والطيران والشحن البحري. تكنولوجيا إنتاج الهيدروجين الأخضر تتم عبر التحليل الكهربائي للماء باستخدام الكهرباء من مصادر متجددة، مما يجعله خاليًا من الانبعاثات الكربونية.
يشمل الاقتصاد البحري في ألمانيا مجموعة واسعة من الأنشطة الاقتصادية، أقرت ألمانيا في العام 2020م استراتيجية خاصة لتطوير امكانياتها وقدراتها في انتاج واستخدام طاقة الهيدروجين والتي من أهدافها تأكيد موقع ألمانيا كدولة رائدة في هذه التقنية الجديدة من ناحية الابتكار وكذلك من ناحية الاستخدام وانشاء البنية التحتية الأساسية اللازمة لذلك. لكن وبعد نحو أربع سنوات من إقرار الاستراتيجية لا يبدو ان مستوى التنفيذ على ارض الواقع يعكس اهداف الاستراتيجية أو يجعل الموعد المُحدد لإنجاز هدف الحياد المناخي قابلا للتحقيق. حيث برزت خلال الفترة الماضية العديد من التحديات والعقبات التي أبطأت من تنفيذ اهداف الاستراتيجية.
استراتيجية الهيدروجين الألمانية
في يوليو 2023م، قررت الحكومة الاتحادية تحديث الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين (NWS)، والتي تم اعتمادها لأول مرة في يونيو 2020م. تهدف هذه الاستراتيجية إلى تعزيز الاعتماد على تقنيات الهيدروجين كجزء أساسي من تحول الطاقة، من أجل تقليل انبعاثات الكربون في الإنتاج باستخدام الطاقة المتجددة، وإعداد الإطار التنظيمي اللازم لتطوير سوق الهيدروجين. كما تركز على دعم الشركات الألمانية لتعزيز تنافسيتها من خلال تشجيع البحث والتطوير وتصدير التقنيات المتعلقة بالهيدروجين، وضمان تأمين إمدادات الهيدروجين الخالية من الكربون لألمانيا. وتشمل الاستراتيجية أهدافًا قصيرة المدى (2023-2027م)، وأهدافًا متوسطة المدى حتى 2030م، وأخرى طويلة المدى حتى 2045م.
في المدى القصير، تركز الحكومة على وضع استراتيجية جديدة لاستيراد الهيدروجين، حيث تواجه ألمانيا تحديات في إنتاج كميات كافية من الهيدروجين الأخضر داخليًا بسبب محدودية المساحات المخصصة لمزارع الرياح والطاقة الشمسية. إذ يُقدّر الخبراء أن الإنتاج المحلي قد يغطي فقط حوالي 30 في المئة من الطلب المحلي، بينما يتعين استيراد الـ 70 في المئة المتبقية من الخارج. ولتحقيق ذلك، تعتمد ألمانيا على شراكات دولية حيث أبرمت الحكومة الاتحادية اتفاقيات تعاون مع عدة دول منها مصر، أستراليا، تشيلي، الهند، كندا، ناميبيا، السعودية، تركيا، الإمارات والجزائر والمغرب وسلطنة عُمان.
أما على المدى المتوسط (حتى 2030م)، تهدف الخطة إلى إنشاء شبكة أولية لنقل وتوزيع الهيدروجين بطول يتجاوز 1800 كيلومتر داخل ألمانيا، إلى جانب إضافة حوالي 4500 كيلومتر من خطوط الأنابيب عبر أوروبا. كما تستهدف إنشاء قدرات تحليل كهربائي تبلغ 10 جيجاوات لإنتاج الهيدروجين، وهو ما يعادل إنتاج 10 مفاعلات نووية من الطاقة الكهربائية.
إلى جانب ذلك، تدعم الاستراتيجية البحث العلمي والمبادرات التي تركز على تحسين تكلفة وكفاءة إنتاج وتخزين ونقل الهيدروجين. كما تشجع الشركات والمؤسسات البحثية على تطوير تقنيات جديدة، مع تقديم الدعم المالي للمشاريع التي تسهم في جعل الهيدروجين قابلًا للاستخدام في قطاع النقل، بما يشمل النقل البري، والسكك الحديدية، والنقل البحري والجوي.
البنية التحية للهيدروجين الأخضر
بسبب محدودية قدرة ألمانيا على انتاج الهيدروجين الأخضر الكافي لتغطية احتياجاتها فإنها ستعتمد بشكل كبير على استيراده وبالتالي تنشأ الحاجة الى وسائل نقل الهيدروجين والذي يتم عبر شبكات الأنابيب. حالياً توجد ثلاث شبكات إقليمية لنقل الهيدروجين في ألمانيا، حيث يمتد أطول خط أنابيب لنقل الهيدروجين في منطقة حوض الرور في ولاية شمال الراين-وستفاليا بطول 240 كيلومترًا. اما في المنطقة التي تسمى بالمثلث الكيميائي والمتركزة حول مدن Bitterfeld وSchkopau وLeuna في ولاية ساكسونيا-انهالت، فيبلغ طول شبكة انابيب نقل الهيدروجين 150 كيلومترًا. وفي ولاية Schleswig-Holstein، يمتد خط أنابيب نقل الهيدروجين لمسافة تزيد عن 30 كيلومترًا. ومع محدودية طول وانتشار انابيب نقل الهيدروجين تخطط الشركات الصناعية الكبرى لشراء خطوط أنابيب الغاز الطبيعي من شركات الطاقة لاستخدامها في نقل وتوزيع الهيدروجين.
وبحسب اتحاد الغاز والمياه الألماني (DVGW)، يبلغ طول شبكة الغاز الطبيعي الألمانية 550 ألف كيلومتر وتبلغ قيمتها الإجمالية حوالي 300 مليار يورو. لذلك فإن استخدامها لنقل الهيدروجين سيكون فعالاً من حيث التكلفة وسرعة التنفيذ. الا ان اختلاف التركيب الكيميائي للغاز الطبيعي عن التركيب الكيميائي للهيدروجين يفرض اجراء تعديلات على شبكة انابيب نقل الغاز الطبيعي لتناسب نقل الهيدروجين. ويوضح Jörg Höhler، رئيس DVGW ان دراسة أعدها اتحاد الغاز والمياه قدرت نفقات تعديل البنية التحتية الحالية لنقل الغاز لتناسب نقل الهيدروجين بحوالي 30 مليار يورو. كما يؤكد Höhler ان مشغلي البنية التحتية اليوم سيلعبون دورًا حاسمًا في نقل وتوزيع الهيدروجين في المستقبل، حيث يمكن الاستفادة من خبرتهم الطويلة في تشغيل خطوط الانابيب والتعامل الآمن مع الغازات.
وقد قدم مشغلو خطوط أنابيب الغاز بالفعل طلباتهم لبناء شبكة أساسية لنقل الهيدروجين إلى الوكالة الاتحادية للشبكات (Bundesnetzagentur). وبعد الموافقة، سيبدأ بناء الشبكة الأساسية، ومن المتوقع أن تبدأ أولى الأنابيب بالعمل في العام المقبل. ويتضمن الطلب إنشاء شبكة بطول 9666 كيلومترًا، حوالي 60 في المئة منها تتكون من خطوط أنابيب غاز طبيعي موجودة سيتم تحويلها لنقل الهيدروجين. وتبلغ تكلفة المشروع حوالي 19.7 مليار يورو، ويُفترض الانتهاء من الشبكة الأساسية بحلول عام 2032م، مع إمكانية تمديد الجدول الزمني حتى عام 2037م، إذا تطورت حاجة السوق للهيدروجين بشكل مختلف عن المخطط. تُعتبر شبكة الهيدروجين الأساسية عنصرًا حيويًا في التحول الصناعي نحو الحياد المناخي. تهدف هذه الشبكة إلى ربط مراكز استهلاك الهيدروجين في المناطق الصناعية بنقاط ضخ الهيدروجين من السواحل ومستودعات التخزين المستقبلية، بالإضافة إلى محطات الطاقة التي ستعمل بالهيدروجين. كما تتضمن الشبكة نقاط تواصل على الحدود لتمكين تبادل الهيدروجين عبر الحدود واستيراده من مناطق مختلفة حول العالم.
وقد وصف وزير الاقتصاد في الحكومة الاتحادية روبرت هابيك هذا الطلب بأنه خطوة حاسمة نحو بناء بنية تحتية للهيدروجين، مشيرًا إلى أنه «يتضمن الطرق السريعة لشبكات الهيدروجين»، ما يوفر وضوحًا للتخطيط لمنتجي الهيدروجين ومشغلي محطات الطاقة ومرافق التخزين والمشترين. فيما اكدت Barbara Fischer، المديرة التنفيذية لاتحاد مشغلي شبكات خطوط الغاز (FNB Gas)، إن الشبكة الأساسية ستضع الأساس لتطوير اقتصاد الهيدروجين. مشيرة الى أن هذه الشبكة هي عرض للسوق وستتطور مع احتياجات السوق.
ويعد مشروع «GetH2» في ولايتي شمال الراين-وستفاليا وسكسونيا السفلى نواة البنية التحتية للهيدروجين في ألمانيا. ويتضمن المشروع إنشاء شبكة بطول 300 كيلومتر تربط بين محطات إنتاج الهيدروجين عبر التحليل الكهربائي ومستهلكي الهيدروجين مثل المصافي وصناعة الصلب وقطاع النقل الثقيل. مشروع «GetH2» هو جزء من خطة أكبر لتطوير بنية تحتية للهيدروجين في ألمانيا. ويشارك في المشروع مشغلون لشبكات الغاز مثل OGE وThyssengas وGascade وNowega، بالإضافة إلى منتجين ومستهلكين للهيدروجين مثل RWE وUniper وBP وThyssen-Krupp وEvonik. ومشروع «GetH2» هو أحد المشاريع الـ 22 التي تم منحها تمويلًا من قبل وزارة الاقتصاد الاتحادية، ويتوقع أن تبدأ بعض أجزاء من البنية التحتية لهذا المشروع في العمل بحلول عام 2025م، مع نمو تدريجي كل عام.
التحديات الأساسية امام تنفيذ اهداف استراتيجية الهيدروجين
صناعة الهيدروجين الناشئة في ألمانيا وفي الاتحاد الأوروبي تستفيد من تقدم هذه الدول تكنولوجياً لكن هذا التقدم يتلاشى تدريجياً امام المنافسة الدولية المتزايدة وبشكل خاص من الصين والولايات المتحدة. حيث اظهرت دراسة أعدتها مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) Boston Consulting Group، أن الولايات المتحدة تحقق تقدماً أفضل من الأوروبيين في مجال الهيدروجين الاخضر. ويحذر Sebastian Schrapp، مؤلف الدراسة، من أن الخطر الحقيقي يتثمل في أن الصين تتفوق على أوروبا في هذا المجال. ويضيف قائلاً: «هذا يهدد القدرة التنافسية للقدرة الابتكارية ومصنعي المعدات». ووفقا للدراسة، ورغم أن الاتحاد الأوروبي وضع أهدافاً طموحة في مجال الهيدروجين، إلا أن التقدم في التنفيذ بطيء للغاية ولم يتم تجاوز مرحلة التخطيط لجزء كبير من مشاريع إنتاج الهيدروجين الأخضر في أوروبا، حيث تم تنفيذ أقل من اثنين في المئة من القدرات الإنتاجية المخطط لها بحلول العام 2030م.
وتواجه الشركات الألمانية تحديين رئيسيين في مجال تلقى الدعم الحكومي سواء من قبل المفوضية الأوروبية او الحكومة الألمانية:
تعقيد آليات الدعم المالي المتاحة: يواجه تنفيذ إنشاء سلسلة القيمة للهيدروجين الأخضر في أوروبا العديد من التحديات. ويرجع أحد الأسباب إلى تعقيد آليات الدعم المالي المتاحة، كما يوضح Sebastian Schrapp، مؤلف دراسة مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG). فالعديد من الشركات ترى أن إجراءات الحصول على التمويل بطيئة ومعقدة، حيث يمكن أن يستغرق الأمر حتى ثلاث سنوات لتصنيف المشروع على أنه «مشروع ذو أهمية أوروبية مشتركة» (IPCEI). ورغم أن هذه المشاريع معفاة من بعض القيود التنظيمية، إلا أن الانتظار الطويل غالباً ما يؤدي إلى ارتفاع التكاليف أو التأخير في التنفيذ.
وتؤكد دراسة مجموعة بوسطن (BCG)، أنَّ النهج الأوروبي الحالي في تقديم الدعم يحتاج إلى تغيير. وتقترح الدراسة دعمًا أكثر تركيزًا وتوجيه الجهود نحو بناء نظم بيئية صغيرة لإنتاج الهيدروجين يمكن توسيعها تدريجيًا، مع تقديم الدولة ضمانات تربط بين المنتجين والمشترين. وتشدد الدراسة على ان الإجراءات السريعة أصبحت ضرورة الآن، خاصة مع التهديدات التي تواجه الشركات الألمانية والأوروبية المنتجة لمعدات التحليل الكهربائي، حيث يتوقع أن تصبح المعدات الصينية المتقدمة متاحة بأسعار أقل بحلول عام 2025م، مما يهدد بان تواجه الشركات الأوروبية في هذا المجال نفس مصير الشركات الأوروبية العاملة في مجال الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية التي خسرت ريادتها وجزء كبير من حصتها في الأسواق لصالح الشركات الصينية.
ومع اقرار استراتيجية الهيدروجين وتوجه الدولة لتقديم الدعم الحكومي الكبير للشركات الصناعية التي تعتمد على عمليات إنتاج قائمة على الهيدروجين. الا ان الشركات تجد نفسها أمام تحديات إدارية كبيرة، حيث تعيق البيروقراطية الكثيفة التقدم السريع في هذا المجال، إذ يتعين على الشركات إكمال كميات كبيرة من النماذج والإجراءات.
بالإضافة الى ذلك، لا تعد استراتيجية الهيدروجين واضحة بشكل كافي للشركات الألمانية، خصوصا الشركات متوسطة وصغيرة الحجم والتي تشعر بان احتياجاتها لا تؤخذ بعين الاعتبار حيث لا تعرف هذه الشركات متى وكيف ستتمكن من الحصول على كميات كافية من «الهيدروجين الأخضر» المنتج من مصادر طاقة متجددة، ولا الأسعار التي ستُقدَّم بها. وتمثل حالة عدم اليقين هذه مشكلة كبيرة، إذ يتعين على العديد من الشركات اتخاذ قرارات استثمارية طويلة الأمد قد تستمر لعقود.
في هذا الجانب يتفهم Peter Wasserscheid، المتخصص في مجال الهيدروجين من مركز Jülich للأبحاث، عدم صبر الشركات. حيث يقول: «علينا أن نوضح بشكل أكبر ما ستكلفه بعض الأمور خلال ثلاث أو خمس أو سبع سنوات، وما هي كميات الهيدروجين التي سنحتاجها.» ويؤكد أن بناء الثقة أمر ضروري لتحقيق التحول نحو اقتصاد الهيدروجين. وبالرغم من ان الجزء الأكبر من احتياجات ألمانيا من الهيدروجين الأخضر سيتم تغطيته عبر الاستيراد الا ان الخبير Frank Merten، من معهد فوبرتال للمناخ والبيئة والطاقة، يوضح أن الهيدروجين النقي «لا يزال غير قابل للنقل عبر السفن»، لذا ستكون مشتقاته مثل الأمونيا هي البديل الممكن لنقله عبر البحر. ولذلك، فإن استيراد الهيدروجين عبر خطوط الأنابيب من الدول الأوروبية يعتبر الخيار الأفضل. ولكن، في ظل احتياجات الدول الأوروبية مثل إسبانيا وفرنسا وهولندا وبريطانيا لإنتاجها المحلي من الهيدروجين، فإن توفير كميات كبيرة لألمانيا قد يكون تحدياً.
المعايير المعقدة لإنتاج الهيدروجين الأخضر: تفرض معايير الاتحاد الأوروبي في مجال انتاج الهيدروجين الأخضر أن يكون مصدر الطاقة المتجددة المستخدم في هذا الإنتاج قادم من محطات جديدة لتوليد الطاقة مخصصة لهذا الغرض بالتحديد ومنع استخدام الطاقة المنتجة من المحطات الموجودة والقائمة بالفعل لتجنب التأثير السلبي على كمية الكهرباء الموجودة في السوق. كما أن عملية التحليل الكهربائي للهيدروجين يجب أن تتزامن مع إنتاج الطاقة المتجددة (معيار «التزامن»)، بمعنى ان يتزامن انشاء مصنع لإنتاج الهيدروجين الأخضر مع بناء محطة لتوليد الكهرباء عبر مصادر الطاقة المتجددة والتي ستستخدم الطاقة المنتجة منها في انتاج الهيدروجين، وذلك بهدف تخفيف الضغط على شبكة الكهرباء. وهذه المعايير الى جانب انها تطيل الفترة الزمنية اللازمة لبناء مصانع انتاج الهيدروجين تضاعف أيضا حجم الاستثمارات المطلوبة. على النقيض من ذلك، تتبع الولايات المتحدة نهجًا أكثر بساطة، حيث تقدم دعماً يصل إلى ثلاث دولارات لكل كيلوغرام من الهيدروجين الأخضر دون تعقيد مماثل في الشروط، مما يدفع الشركات إلى تفضيل الاستثمار هناك على الاستثمار في أوروبا.