تراجعت ألمانيا في المقارنة الدولية لقوة الابتكار. ففي تصنيف الابتكار الذي يجريه اتحاد الصناعات الألمانية (BDI) وشركة الاستشارات ” Roland Berger”، تراجعت ألمانيا بمركزين لتخرج بذلك من قائمة الدول العشر الأوائل. وتحتل ألمانيا الآن المركز الثاني عشر من بين 35 دولة مختارة. ورغم أن ألمانيا لا تزال تتقدم على اقتصادات كبرى أخرى مثل فرنسا، الولايات المتحدة، واليابان، إلا أن الفجوة بينها وبين المجموعة الرائدة التي تضم دولًا أصغر مثل سويسرا، سنغافورة والدنمارك قد اتسعت بشكل ملحوظ. ويتم تقييم 35 عاملاً لكل دولة في تصنيف الابتكار، بدءًا من متوسط الإنفاق الجامعي لكل طالب، وصولًا إلى الاستشهادات في المنشورات العلمية وتسجيل براءات الاختراع. وقد حصلت ألمانيا على 43 نقطة من أصل 100 نقطة محتملة، بينما حصلت سويسرا، التي تأتي في المركز الأول في قوة الابتكار في هذا التصنيف، على 71 نقطة.
حول ذلك صرح رئيس اتحاد الصناعات الألمانية، Siegfried Russwurm، بالقول “تعتمد قدرتنا التنافسية بشكل أساسي على قدرتنا على الابتكار. نحن بحاجة إلى مزيد من الديناميكية.” وأضاف “أن الصين، التي تأخرت في السنوات الأخيرة بسبب جائحة كورونا وسياسة الانغلاق، بدأت تعود بقوة مرة أخرى”. وتلعب الابتكارات في مجالات وقطاعات رئيسية مثل الذكاء الاصطناعي (AI)، والثورة الصناعية الرابعة 4.0، وقطاع الفضاء دورًا مهمًا في هذا السياق. وفي هذا المجال الذي يُطلق عليه “التكنولوجيا العميقة” (Deeptech)، والمبني على التقنيات المستقبلية وبراءات الاختراع، تُعتبر ألمانيا قوية. فالبحوث الأساسية تحظى باعتراف دولي، والجامعات تخرج الكثير من المتخصصين في هذه المجالات، وتستثمر بشكل كبير في البحوث الأساسية، كما أن الشركات تنفق أيضًا نسبيًا الكثير من المال على البحث والتطوير. ومع ذلك، ووفقًا للدراسة، هناك مشاكل كبيرة. فالدولة تقدم دعمًا ضئيلًا جدًا، ويضيع المال في متاهة من برامج الدعم المتنوعة. كما يعيق النقص في الكوادر المتخصصة تحويل المعرفة والابتكارات إلى منتجات تطرح في الأسواق.
ويذهب العديد من الخبراء والمستثمرون ورجال الأعمال بشكل عام إلى أن هناك أربع استراتيجيات أساسية يمكن أن تضمن تحسين تصنيف ألمانيا كموقع مناسب للتطوير والابتكار وعودتها لاحتلال مراكز متقدمة:
- الدولة كعميل رئيسي: وفقًا للدراسة، قامت ألمانيا “بتقليص تمويلها للبحث والتطوير بشكل فعلي في السنوات الأخيرة”. ولحسن الحظ، عوضت الشركات هذا النقص، ولكن “التقسيم المتفق عليه سابقًا بتمويل الأبحاث والتطوير بنسبة الثلثين من القطاع الخاص والثلث من القطاع العام يتم تقويضه بشكل جزئي.” حيث تقلصت التمويلات المخصصة لبرنامج الابتكار المركزي للشركات المتوسطة (ZIM) التابع للحكومة الألمانية من 632 إلى 510 ملايين يورو. الى جانب ذلك لا يكفي مجرد زيادة التمويل، بل ينبغي إعادة توجيه الدعم الحكومي أيضًا. إذ يجب أن يتم منح المزيد من العقود الحكومية للشركات المتخصصة في التكنولوجيا العميقة. حيث يمكن للقطاع العام أن يسهم بشكل كبير في إطلاق المزيد من الشركات الناشئة الناجحة من خلال تقديم العقود. ويوضح Fabian Gruner، من شركة “إتش في كابيتال”، أن الشركات الناشئة الأمريكية تستفيد من العقود الحكومية عبر تأمين مصادر دخل ثابتة في وقت مبكر، مما يمنحها الأمان المالي للنمو والتطور.
- 2. تبسيط الدعم الحكومي: تتضمن استراتيجية البحث والابتكار للحكومة الألمانية وجود ست مهام رئيسية، 30 مهمة فرعية، 188 هدفًا، و997 إجراءً. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من البرامج والمبادرات الأخرى على مستوى الولايات الفيدرالية وأيضا على مستوى الاتحاد الأوروبي. ويُشبه، رئيس اتحاد الصناعات الألماني Russwurm: ” سياسة دعم الابتكار في ألمانيا برقعة شطرنج من البرامج المتفرقة”. مضيفًا أن هذه البرامج تسعى لتحقيق الأهداف الصحيحة، لكنها ليست متكاملة ومنسقة جيدًا. إلى جانب ذلك، تتأثر فعالية هذه البرامج بالبيروقراطية والتشدد في الرقابة.
- تمكين المزيد من رأس المال المغامر: يعمل ما يسمى براس المال المغامر دورا أساسيا في تمويل ودعم الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المتقدمة والتي تتولى تحويل الابتكارات الى مشاريع ومنتجات تطرح في الأسواق الا ان صناديق رأس المال المغامر تقدم مبالغ صغيرة جدًا، مما يجعل مؤسسي الشركات الناشئة يضيعون وقتًا كبيرًا في جمع الأموال وتأمين التمويل. لذا يطالب العديد من الخبراء بضرورة وجود سوق راس مال أكبر وموحد على مستوى أوروبا حيث يعتقدون ان ذلك سيتيح المزيد من رأس المال المغامر.
- إلغاء الفصل القائم بين البحث المدني والعسكري: أدت حرب أوكرانيا إلى تغييرات كبيرة في ألمانيا، بما في ذلك تعزيز أهمية ودور الجيش الألماني. وهو ما فتح الفرصة من اجل إلغاء الفصل القائم بين البحث المدني والعسكري. وتُظهر الولايات المتحدة منذ عقود كيف يمكن للجيش أن يقدم دفعة كبيرة للبحث العلمي والابتكار. حيث تلعب وكالة ” Darpa ” التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية دورًا هامًا في هذا المجال منذ عام 1958م، بميزانية سنوية قدرها 4.1 مليار دولار، وهي التي ساهمت في تطوير تقنيات متقدمة مثل الحاسوب الشخصي، الإنترنت والطائرات بدون طيار. ويثني Andreas Unseld، من شركة “UVC Partners” الاستثمارية في ميونيخ، على نجاح الولايات المتحدة في دعم صناعات مربحة مثل البرمجيات والإنترنت بفضل برامج مثل ” Darpa “. كما تتبع الصين الآن نهجًا مشابهًا. في ألمانيا، الأمور لم تصل إلى هذا الحد بعد. حيث لا يزال من الصعب على الشركات الناشئة في ألمانيا الحصول على تمويل بحثي من الجيش الألماني.