يعد البحث العلمي والابتكار أحد الشروط الرئيسية لضمان جودة المعيشة والرخاء وكذلك العامل الأساسي في تحقيق التقدم والنمو الاقتصادي وضمان القدرة التنافسية للاقتصاد، لذا تحرص الدول على دعم جهود البحث العلمي وتقوية مركزها في مجال الابتكار وتخصص الحكومات ميزانية كبيرة لدعم هذه الجهود في مختلف المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، كما هو الحال في ألمانيا حيث تدعم الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات الفيدرالية البحث العلمي والابتكار بشكل قوي. وبالرغم من ذلك فان الجهد الأكبر في هذا المجال تتحمله الشركات الخاصة من مختلف القطاعات الاقتصادية حيث تتولي شركات القطاع الخاص دورا مهما ومتزايدا في جهود الأبحاث والتطوير والابتكار، اذ تقوم عدد من أبرز الشركات الصناعية الألمانية خصوصا في قطاعات صناعة السيارات والآلات والأنظمة والأدوية بدعم جهود الأبحاث سواءً عن طريق اقسام خاصة ضمن إطار الشركات او عن طريق التعاون او دعم مؤسسات بحثية خارجية. وبشكل عام تبلغ مساهمة مؤسسات القطاع الخاص في تمويل الأبحاث والابتكار في ألمانيا بما يقرب من ثلثي اجمالي نفقات البحث العلمي.
الشركات الألمانية الأعلى انفاقًا على الابتكارات في أوروبا
تعتبر ألمانيا تقليديا بلد التكنولوجيا والابتكار. وبحسب بيانات وزارة الاقتصاد وحماية المناخ الاتحادية تمتلك 38,900 شركة اقسام متخصصة بالبحث العلمي والابتكار والتي تقوم بتطوير المنتجات بشكل مستمر فيما تتولى 183,700 شركة تحويل نتائج هذه الأبحاث ومشاريع التطوير الى منتجات أو خدمات أو عمليات جديدة. وارتفع إنفاق الشركات الألمانية على البحث والتطوير والابتكارات في العام 2022م، بنسبة ثمانية بالمئة إلى ما يقرب من 82 مليار يورو وهو ما يعد أعلى بكثير من مستويات ما قبل كورونا. وعلى الرغم من النقص في العمالة الماهرة، استطاعت الشركات أيضا زيادة عدد الموظفين المتخصصين في الأبحاث والتطوير بنحو ستة في المئة في نفس العام ليصبح هناك وللمرة الأولى في ألمانيا أكثر من نصف مليون وظيفة بدوام كامل في أقسام البحث والتطوير. وبحسب هذه البيانات التي أصدرها مكتب الإحصاء الأوروبي Eurostat ورابطة المانحين للعلوم الألمانية Stifterverband فان ذلك يعني أن نمو إنفاق الشركات في ألمانيا على الابحاث أعلى من متوسط النمو الأوروبي البالغ 6.8 في المئة. كما نما الإنفاق بشكل ملحوظ في إسبانيا وهولندا أما في فرنسا، فقد أصابها الركود، بينما انخفضت هذه النفقات في إيطاليا.
وأشاد Uwe Cantner، رئيس لجنة الخبراء للبحث والابتكار (EFI)، المختصة بتقديم المشورة العلمية للحكومة الاتحادية في موضوع الابتكار، بنمو الانفاق على الأبحاث مرة أخرى مؤكدًا ان ما يبعث على السرور بشكل خاص هو الزيادة التي بلغت 15 في المئة في الانفاق على أبحاث تكنولوجيا المعلومات، وهو المجال الذي كانت ألمانيا ضعيفة فيه تقليديا. وتعتبر الاستثمارات في الابتكارات شرطا أساسيا للحفاظ على مكانة الاقتصاد الألماني بين أكبر الاقتصاديات في العالم على المدى الطويل، ولهذا فإن الحكومة الاتحادية تسعى الى زيادة إجمالي إنفاق ألمانيا على البحث والتطوير إلى 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي من المعدل الحالي عند 3.13 في المئة لسنوات، وهو ما يمثل نسبة أقل بالمقارنة مع إنفاق العديد من القوى الاقتصادية العالمية حيث تبلغ هذه النسبة في كوريا الجنوبية 4.93 في المئة وفي الولايات المتحدة الامريكية 3.43 في المئة وفي اليابان 3.34 في المئة وفي الصين 3.31 في المئة (بحسب ارقام العام 2021م).
ويؤكد العديد من الخبراء ان ارتفاع الانفاق على الأبحاث في ألمانيا في العام 2022م بنسبة 8 في المئة ليس مرتبطًا بالتضخم الذي شهدته ألمانيا في نفس العام والذي بلغ 7.9 في المئة حيث يقول Christian Rammer، الخبير الاقتصادي في مركز البحوث الاقتصادية الأوروبية (ZEW): «من حيث المبدأ، ينبغي أن تكون تأثيرات التضخم هنا منخفضة، لأن محركات الأسعار الرئيسية مثل الطاقة وأشباه الموصلات ليست هناك حاجة إليها بشكل مباشر في أنشطة البحث والتطوير. «
ويترافق الارتفاع في إنفاق الشركات الألمانية على الأبحاث والتطوير بظاهرة متزايدة تتمثل في اجراء هذه الأبحاث خارج ألمانيا فوفقا لاتحاد غرف التجارة والصناعة الألمانية DIHK، كان لدى ربع الشركات الألمانية في العام 2020م مشاريع لتوسيع عمليات البحث والابتكار خارج ألمانيا فيما أصبحت هذه النسبة في العام 2023م نحو الثلث، وهو الامر الذي دفع باتحاد الغرف للتحذير من فقد ألمانيا جاذبيتها كمكان مناسب للتطوير والابتكار.
كذلك تتجه الشركات الألمانية الكبرى المدرجة في مؤشر سوق الأسهم الرئيسي (داكس) أيضًا بشكل متزايد إلى الخارج، ووفقًا لبيانات مركز البحوث الاقتصادية الأوروبية عن 34 شركة من شركات داكس، زادت إنفاقها على البحث والتطوير في جميع أنحاء العالم بأكثر من 14 في المئة في عام 2022م، وان كان ذلك يعود جزئيًا الى عمليات الاستحواذ التي قامت بها هذه الشركات في الخارج. أما في ألمانيا، فقد كانت الزيادة أقل بقليل من 11 في المئة.
أبرز الشركات الألمانية في مجال البحث والابتكار
وفقًا لبيانات مركز البحوث الاقتصادية الأوروبية (ZEW)، فإن الشركة الرائدة في الإنفاق على البحث والتطوير في ألمانيا هي مجموعة فولكس فاجن لصناعة السيارات حيث استثمرت الشركة العام 2022م، ما يقرب من 19 مليار يورو في البحث والتطوير وبنسبة زيادة تبلغ 21 في المئة مقارنة بالعام الذي سبق. وأدى التحول إلى التنقل الكهربائي وتطوير البنية التحتية لصناعة السيارات الكهربائية مؤخرًا إلى ارتفاع تكاليف التطوير والأبحاث في الشركة والتي تنوي في المجمل استثمار ما مجموعة 180 مليار يورو بحلول العام 2027م لتطوير عمليات الإنتاج ثلثاها في مجال صناعة السيارات الكهربائية والرقمنة خصوصا ان تكاليف بناء مصانع لبطاريات السيارات الكهربائية مكلفة للغاية.
من جانبها انفقت شركة مرسيدس نحو 8.541 مليار يورو على الأبحاث والتطوير العام 2022م، بنسبة زيادة 12 في المئة مقارنة بالعام الذي سبق وهنا أيضا تعتزم الشركة زيادة اجمالي تمويل البحث والتطوير للمحركات الكهربائية الى 40 مليار يورو خلال السنوات القادمة. كما قامت شركة Bosch، وهي أكبر مورد لقطع وأجزاء السيارات في العالم، بزيادة تكاليف البحث والتطوير بشكل كبير بمقدار 1.1 مليار يورو لتصل إلى 7.2 مليار يورو في عام 2022م، بزيادة قدرها 18 في المئة. وبينما وصل نمو الانفاق على الأبحاث والتطوير في شركات صناعة الادوية الى نسبة 10 في المئة والقريبة من زيادة ميزانيات الأبحاث والابتكار لدي شركات صناعة السيارات كانت الزيادة في هذا المجال اقل في شركات صناعة المعدات والآلات والتي بلغت الزيادة في انفاقها على البحث والتطوير العام 2022م نحو 4.5 في المئة وكذلك كان الامر في شركات الصناعات الكيميائية والتي زادت انفاقها بنسبة 2.5 في المئة فقط.
في مجال أكثر الشركات الألمانية تسجيلا لبراءات الاختراع، وبحسب بيانات المكتب الألماني لبراءات الاختراع والعلامات التجارية (DPMA)، جاءت شركة Bosch لإنتاج أجزاء السيارات في المركز الأول العام 2022م بنحو 3946 طلبًا، تليها شركة BMW لصناعة السيارات بحوالي 1867 براءة اختراع، في المركز الثالث جاءت شركة ZF Friedrichshafen AG وهي مجموعة تكنولوجية نشطة عالميًا وتوفر أنظمة النقل لسيارات الركاب والتكنولوجيا الصناعية بعدد براءات اختراع بلغ 1394 اختراع، فيما أتت شركة Schaeffler-Gruppe لصناعة وتوريد أجزاء السيارات في المركز الرابع في قائمة اكثر الشركات الألمانية تسجيلا لبراءات الاختراع بحوالي 1266 براءة اختراع واحتلت شركة مرسيدس لصناعة السيارات المركز الخامس بعدد 1228 براءة اختراع. ويظهر بشكل جلي سيطرة قطاع صناعة السيارات على المراكز الاولي في براءات الاختراع في ألمانيا والذي يعود الى أسباب كثيرة منها أهمية دور صناعة السيارات باعتبارها أكبر قطاع صناعي في ألمانيا وأيضا بسبب حدة التنافس في صناعة السيارات العالمية خصوصا في مجال صناعة السيارات الكهربائية والتقنيات المرتبطة بها مثل أنظمة القيادة الذاتية.
اهم المراكز البحثية في ألمانيا
الى جانب المراكز البحثية في الجامعات الألمانية واقسام البحث العلمي والابتكار في الشركات الخاصة من مختلف القطاعات الاقتصادية توجد العديد من المراكز البحثية الألمانية التي تتمتع بسمعه دولية كبيرة نظير مساهماتها الكبيرة في الأبحاث المختلفة سواء كانت في المجالات الهندسية والعلمية او في مجالات الطب او غيرها من المجالات الاقتصادية والإنسانية. وتظم بعض مراكز الأبحاث هذه العديد من المراكز البحثية والمعاهد المتخصصة في تخصص معين او في فرع معين من التخصص وهو ما يجعلها تعد مؤسسات بحثية كبري. ويتم تمويل هذه المراكز البحثية من قبل الميزانية العامة للحكومة الاتحادية وحكومات الولايات الى جانب الشركات الخاصة التي تمول برامج بحثية محددة تقوم بها هذه المراكز. وتتضمن قائمة اهم المراكز البحثية الألمانية المراكز التالية:
- مجموعة فراونهوفر Fraunhofer-Gesellschaft والتي تضم أكثر من 70 مركز ابحاث وهي أكبر منظمة للبحوث التطبيقية في أوروبا. تقوم معاهد فراونهوفر بإجراء الأبحاث الخاصة بالصناعة وقطاع الخدمات والإدارة العامة وتطوير وتنفيذ وتحسين العمليات والمنتجات والأنظمة.
- مراكز هيلمهولتز Helmholtz-Zentren الـ 18 التي تعمل بشكل مستقل على تطوير وبناء وتشغيل منشآت بنية تحتية بحثية معقدة. تشتمل المعدات الكبيرة والمعقدة مثل أنظمة التعجيل والتلسكوبات وأجهزة الكمبيوتر عالية الأداء،
- مجموعة Leibniz والتي تضم أكثر من 90 مؤسسة بحثية تحت سقفها، والتي تتعامل مع المشاكل العلمية ذات الصلة بالمجتمع. ومنها العلوم الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية بالإضافة إلى العلوم الطبيعية والهندسية.
- مجموعة ماكس بلانك Max-Planck-Gesellschaft، وهي تحمل اسم عالم فيزياء الماني حائز على جائزة نوبل وأحد مؤسسي علوم الفيزياء الحديثة، ويعد مركز أبحاث ماكس بلانك المتخصص في أبحاث الفيزياء من انجح واهم مراكز الأبحاث الألمانية حيث ومنذ تأسيس المركز في عام 1948، حصل 18 من الذين عملوا فيه على جائزة نوبل.
بالإضافة الى هذه المراكز والمؤسسات البحثية المستقلة تدير الحكومة الاتحادية ما يقرب من 40 مركزا بحثيا، تقوم هذه المراكز بأجراء بحوث وفقا لحاجة الحكومة وفي مختلف المجالات. من جانبها تدير حكومات الولايات الألمانية المختلفة ما يقرب من 160 مركز للأبحاث في العديد من الجوانب المجتمعية والاقتصادية.
موقع ألمانيا في مجال البحث العلمي والابتكار
في العام 2022م، تلقى مكتب براءات الاختراع الأوروبي (EPO) 193.460 طلبًا. وهذا يتوافق مع زيادة قدرها 2.5 في المئة مقارنة بالعام السابق، وكانت الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر نشاطًا في طلبات البراءات الأوروبية في عام 2022م، والتي استحوذت على ما يقرب من ربع إجمالي عدد الطلبات بنحو48088 طلبا، تليها ألمانيا بحوالي 24684 طلبًا، اليابان (21576 طلب)، الصين (19041) ومن ثم فرنسا بحدود 10900 طلب تسجيل براءة اختراع.
وعلى الرغم من أن ألمانيا قدمت مرة أخرى أكبر عدد من طلبات براءات الاختراع في أوروبا بشكل عام، إلا أن العدد الإجمالي انخفض بنسبة 4.7 في المئة مقارنة بعام 2021م، ويرجع ذلك أساسًا إلى انخفاض أرقام التسجيل في مجالات مثل تقنيات النقل (بما في ذلك صناعة السيارات) والآلات والأجهزة الكهربائية الى جانب الطاقة والكيمياء العضوية. وسجلت معظم الدول الأوروبية الأخرى زيادة في عدد براءات الاختراع المسجلة حيث ارتفعت في فرنسا بنسبة 1.9 في المئة، وسويسرا بنسبة 5.9 في المئة، كما سجلت هولندا ارتفاعا في عدد براءات الاختراع بنسبة 3.5 في المئة.